المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

عدد الجمعيات غير الحكومية العاملة بين الفلسطينيين في إسرائيل - أو في الضفة الغربية وغزة أيضاً- آخذ في الازدياد بشكل ملحوظ. إلا أن عمل هذه الجمعيات لا يزال غير مضبوط بالمعنى السياسي والفكري. ومن غير الواضح ما هو الدور المتوخّى من عمل هذه الجمعيات على المدى البعيد، وكيف يستوي عملها وكيف ينسجم مع المشاريع الوطنية والسياسية التي تواجه الشعب الفلسطيني

عدد الجمعيات غير الحكومية - فيما يلي الجمعيات - العاملة داخل الفلسطينيين في إسرائيل - أو في الضفة الغربية وغزة أيضاً- آخذ في الازدياد بشكل ملحوظ. إلا أن عمل هذه الجمعيات لا يزال غير مضبوط بالمعنى السياسي والفكري. من غير الواضح ما هو الدور المتوخّى من عمل هذه الجمعيات على المدى البعيد، وكيف يستوي عملها وكيف ينسجم مع المشاريع الوطنية والسياسية التي تواجه الشعب الفلسطيني.

باختصار، يبدو أنه لا توجد استراتيجية واضحة لدور هذه الجمعيات ولا توجد طريقة واضحة لتقييم أدائها ووظائفها. نتيجة لذلك يراوح التعامل مع الجمعيات بين اعتبارها رائدة العمل الأهلي والوطني أحياناً، وباعتبارها وكالات لتسويق أجندة أجنبية أحياناً أخرى. وفي أغلب الأحيان كان النقاش حول الجمعيات يخضع لأجندة قصيرة الأمد، آنيّة، مباشرة، وأحياناً جزئية وأحياناً فئوية، مما حال دون إمكانية حدوث نقاش يتجاوز منطق التأليه ومنطق التخوين. الوضع اليوم أشبه بلاعبي "كرة قدم" يحاولون وضع قوانين اللعبة أثناء اللعب، وليس قبل افتتاح المباراة، نتيجة لذلك يسيطر على النقاش ما حدث في الأمس بدل أن تطغى عليه نظرة تاريخية تنظر إلى الغد البعيد. هذه محاولة لطرح بعض الأسئلة من اجل وضع أجندة عمل بعيدة المدى.

1. الحاجة إلى الجمعيات:

نحن بحاجة إلى الجمعيات وإلى عمل الجمعيات، وبالتالي فإني أعتقد أن الحديث الذي يدور أحياناً حول المعارضة المبدئية لوجود الجمعيات ولعملها هو حديث غير مقبول ومتسرّع. سؤال آخر تماماً هو: ما هي الحاجة-والحاجة هي وعي النقص- التي من المفروض أن تقوم الجمعيات بسدّها، وهذا بالتالي يسهم في صياغة دور الجمعيات والدور المتوخّى منها. إن الحاجة إلى الجمعيات في هذه المرحلة تنبع جزئياً مما يمكن تسميته أزمة التمثيل، وغياب "أهل" للصالح العام.

أ- أزمة التمثيل: يكن فهم قضية التمثيل من منظارين مختلفين. المنظار الأول يمكن تسميته، المنظار الإجرائي، والمنظار الآخر هو المنظار الجوهري أو المنظار المبدئي. يفهم المنظار الأول التمثيل باعتباره علاقة إجرائية بين جماعة معينة(قرية، قومية، أولياء أمور، محامين) يمكن تعريفها وحصرها بناءً على عنصر مشترك معين، وبين مجموعة منتخبة من الداخل. هذه الجماعة تقوم بتمثيلها أمام "الهيئات" الأخرى أو المجموعات الأخرى. فالمجلس المحلي يمثل القرية، والبرلمان يمثل الشعب، ولجنة أولياء أمور الطلاب تمثل أولياء أمور الطلاب، ونقابة المحامين تمثّل المحامين. في كل هذه الحالات تشكل هذه الهيئات قمة ضيّقة لقاعدة عريضة، حيث تستطيع القاعدة العريضة- وفقط من يشكّل جزءاً من هذه القاعدة حسب مواصفات محددة أن يقوم باستجواب ممثّليهم في القمة. والممثلون في القمة على اختلاف آرائهم يعتبرون القاعدة مرجعية لهم. ضمن هذا النموذج، القاعدة والقمة، الممثِّلون والممَثَّلون، يشكلون جماعة مغلقة وحصريّة، تحدّد من هو داخلها ومن هو خارجها، والداخل والخارج قضية موقع وليست قضية موقف.

ضمن هذا النموذج، الرئيس بوش مثلاً يمثّل الشعب الأمريكي-من صوّت له ومن لم يصوّت-ورئيس نقابة المحامين يمثل المحامين، والكنيست الإسرائيلي تمثّل المواطنين في إسرائيل.

هذا النموذج يميّز بين التمثيل الإجرائي وبين تمثيل المصالح، أو قُل بالأحرى فإنه لا يؤمن بفكرة تمثيل المصالح- لإيمانه بأنه لا توجد حقيقة موضوعية اسمها "المصالح الحقيقية" للشعب، للمحامين.... التي من الممكن تمثيلها. كل ما هو ممكن تمثيله هو أفراد الشعب، والمحامين، وأولياء الأمور. المصلحة العامة هي نتاج عملية التمثيل وليست سابقة عليه. وبالتالي يستطيع المرء أن يدّعي مثلاً أن شارون لا يمثّل المصلحة الحقيقية للشعب في إسرائيل، أو أن بوش لا يمثل مصالح الشعب الأمريكي، إنما يمثل مصالح الطبقة الرأسمالية المتمكنة في أمريكا، أو أن رئيس نقابة المحامين قد "خان" مصالح المحامين عندما وافق على مشروع قانون كذا وكذا... إلا أنه في جميع هذه الحالات يمكن الإجابة أنه حتى إشعار آخر أو انتخابات أخرى، فإن بوش هو ممثل الشعب الأمريكي، والحديث عن "الخيانة"-أي خيانة المصالح، ممكن فقط في ظل قبول فكرة التمثيل، ففكرة الخيانة تحضر عندما يحضر التمثيل وليس عندما يغيب. بالمقابل، لا يقبل المنطق التمثيلي الإجرائي، نظراً لطبيعته الحصرية، بالاعتراف بوجود ممثلين للجماعة من قبل أعضاء لا ينتمون إلى الجماعة (اللّهمّ إلاّ إذا قرّر من هو خارج الجماعة بالانضمام إليها وعندما يصبح جزءاً منها). بهذا المعنى يمكن ان نفهم مقولة من قبل فلسطيني مواطن في إسرائيل عندما يقول "تمار جوجانسكي لا تمثّلني"، فهو يقصد بذلك، أنه حتى عندما تصوّت تمار جوجانسكي إلى جانب موقف يوافق عليه مبدئياً ، ويعتقد أنه يصبّ في مصلحته كفرد وكجماعة، إنه حتى في مثل هذه الحالة تبقى تمار جوجانسكي خارج حدود الجماعة، فهي لا تقف في قمّة هرم، يشكل هو جزءاً من قاعدته. فهو يتّفق معها في الموقف، لكنه يعتبر أنه في موقع آخر، وأن قضية التمثيل هي قضية موقع أولاً وأساساً وليست قضية موقف. ضمن هذا المنطق، فخلال الحرب الفيتنامية مثلاً رأت المقاومة الفيتنامية بقيادتها الفيتنامية قيادة وممثّلاً لها، ولم ترَ بالحركات المناوئة للحرب داخل أمريكا ممثلاً لها. ضمن هذا المنطق هناك هوّة بين "المواقع" غير قابلة للجسر عن طريق "المواقف"، وبالتالي فالتمثيل هو عملية داخلية، بحلوها ومرّها، بإنجازاتها وخياناتها... إلا أنه ضمن هذا النموذج، حتى يمكن الحديث عن عملية تمثيل يجب أن تكون هناك علاقة واضحة بين قمة الهرم وقاعدته يجب أن تكون انتخابات دورية، شفافية، محاسبة ومرجعية. الفرضية هي أنه بوجود جميع هذه الآليّات، فإن التماثل بين القمة والقاعدة سيكون كبيراً لدرجة أن القمة تمثل مصالح القاعدة فعلاً.

بالمقابل يمكن الحديث عن مفهوم آخر للتمثيل. فمثلاً يمكن القول أن إدوارد سعيد يمثل ضمير الفلسطينيين في الغرب، أو أن شعر محمود درويش "يمثل" المأساة الفلسطينية. في هذه الحالات فإن أحداً لم ينتدبهما ليقوما بعملية التمثيل هذه، ولا توجد هيئة تستطيع أن تطالبهما بالاستقالة أو إنهاء دورهما التمثيلي. هذا التمثيل يأخذ طابعاً جوهرياً أكثر، وغير مرتبط بعلاقة القمة والقاعدة. في هذه الحالة يجسد الشخص بأفكاره ونشاطه موقفاً أخلاقياً يتفق مع جوهر مشروع جماعي معيّن. ضمن هذا المنطق – وإن كان بشكل مختلف-يمكن الادّعاء مثلاً أن ماير فلنر، رغم كونه يهودياً، إلا أنه مثّل مصالح الشعب الفلسطيني خير تمثيل، بشكل أفضل من "الممثلين" العرب في الكنيست. ضمن هذا الفهم فإن قضية التمثيل هي قضية غير مفروغ منها, وهي ليست المدخل للحديث إنما هي نتيجته. فالسؤال عمّا إذا كان "أحمد" يمثّل "محمد" هو موضوع لا يجري حسمه مسبقاً في بداية النقاش بناءً على مجرّد عملية إجرائية محضة، إنما هو سؤال تمكن الإجابة عليه فقط بعد مراقبة نشاط محمد وفعاليته والتيقّن من أنه فعلا يمثل مصالح محمد، أي عندما يستطيع "محمد" أن يغيب ومع ذلك يضمن "حضور" مصالحه في شخص "أحمد". فقط عندها يمكن الحديث عن أن أحمد يمثل محمد. فإذا كان النموذج الأول يعتبر التمثيل نقطة الانطلاق والمصلحة العامة هي نقطة النهاية, فإن الأمر يختلف ضمن هذا النموذج. فعليك أولاً إثبات مثابرتك في تمثيل مصلحة جماعة معينة كي تستحق لقب التمثيل، فإذا كان النموذج الأول يتعامل مع التمثيل بصفته موقعاً status أو هبة بغضّ النظر عن النشاط والمواقف، فإن المنطق الثاني يعتبر التمثيل قضية موقف وليس قضية موقع. فهو ليس هبة، إنما هو "جائزة" يحصل عليها من يستحقها. هذا المنطق مكّن الشيوعيين مثلاً من الزعم لمدى سنوات أن ماير فلنر مثّل مصالح الفلسطينيين بشكل حقيقي، في حين أن العربي سيف الدين الزعبي لم "يمثّل" مصالحهم الحقيقية، والمنطق الأول مكّن الكثيرين من أبناء البلد والبعض في "التجمّع" والحركة الإسلامية لاحقاً، من الادّعاء بأن تمار جوجانسكي أو ماير فلنر ليسا ممثّلَين عن الفلسطينيين في إسرائيل، باعتبار أن اتفاق المصالح ليس كافياً لجعل أ يمثّل ب. فمن يحصل على التمثيل يجب أن تكون هناك قواسم مشتركة طبيعية (قومية, دينية....) بين الممثِّل والممثَّل، أي أنه يجب أن يكون توافق معيّن في المواقع وليس فقط في المواقف. وأنه بدون هذا التوافق لا يمكن للتمثيل أ ن يحدث، لأن التمثيل أولاً وأخيراً هو لعبة الحضور والغياب- يحضر الشعب فقط بحضور ممثليه، إذ أنه فقط بحضور هيئة تمثيلية يقف سقفاً يملأ الفراغات بين الشخوص والأفراد محوّلاً إياهم إلى جماعة. إلا أنه بحضور ممثليه يغيب أيضاً، وهذه التبادلية في الحضور والغياب غير قابلة للتحقيق إلا إذا أشرك الحاضر والغائب بعلاقة مشتركة تصبغ الحضور والغياب بنفس اللون.

لن أسهب هنا – وإن كان الإغراء كبيراً- في نقاط الضعف لهذين النموذجين من التمثيل وللمخاطر الكامنة في كل منها. لكني أسهبت كثيراً في سؤال التمثيل، كي أسأل عن موقعنا في لعبة التمثيل هذه وعن الدور الممكن للجمعيات.

نستطيع أن نقرّ أنه لا توجد هيئة تمثيلية تمثل الفلسطينيين في إسرائيل ليكونوا مرجعيّتها الوحيدة لجنة المتابعة العليا بعيدة كل البعد عن ذلك. إن ما تبقّى إذا هو الكنيست الإسرائيلي. ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أولاً، أن الحديث عن الجانب التمثيلي محصور في النموذج الثاني من التمثيل، رغم محاولات الحركة الوطنية المتكررة لإظهار الأمر بصورة مختلفة. ويعني ذلك ضمن ما يعنيه، أنه لا يوجد فرق نوعي، يبيّن الفرق بين الجبهة والقائمة المشتركة أ(التجمّع)، وبين الفرق بين الجبهة وميرتس. فجميع هذه الأحزاب هي جزء من الطيف السياسي ومن الخريطة السياسية الإسرائيلي، وتعيد إنتاج العلاقات الحقوقية والسياسية القائمة في الدولة (وهذه ليست شتيمة طبعا ولا مزاودة). المقصود أن الخلاف بين الجبهة والتجمع مثلاُ لا تحكمه مرجعية خاصة به تتجاوز المرجعية التي تحكم الخلاف بين الجبهة وميرتس، أي بكلمات أخرى لا توجد خاصية لخلافاتنا. فخلافاتنا تنشأ وتتطور وتحسم على خلفية السياسة الإسرائيلية، فلا يوجد بين هذه الأحزاب شيء مشترك يجعل الخلاف فيما بينهما يجري ضمن وحدة. أو إذا توخّينا الدقّة فنقول أن الخلاف فيما بينها يجري ضمن وحدة. من غير ضيعتها- هي وحدة المؤسسة السياسية والحقوقية الإسرائيلية هذه هي القاعدة- والقاعدة الوحيدة- التي عليها تجري الخلافات. وعليه فمشلكتنا-ليس كما يعتقد البعض-في خلافاتنا، إنما في غياب نقاط اتفاق تعطي معنى للاختلاف.

ماذا يعني ذلك؟ إن هذا الوضع يثير أسئلة حول معنى "التمثيل". بأي معنى مثلاً، يمثل محمد بركه الفلسطينيين في إسرائيل أكثر مما تمثّلهم حسنية جباره. المنتخبة من قبل ميرتس، لكن أيضاً بأصوات عربية؟ (إذا اتفقنا أن ميرتس حصلت على عدد من الأصوات يكفي لإدخال عضو كنيست واحد). أو إذا شئنا نستطيع وضع السؤال بصيغة أكثر تجريدية- ماذا يحدد مفهوم التمثيل؟

1. هل هو هوية المنتخبين باعتبار أن من يدّعي تمثيل العرب يجب أن يكون منتخباً من العرب بأصوات عربية؟ لكن إذا قبلنا هذا المنطق ولماذا لا يكون مثلاً أيوب القرا ممثلاً للعرب باعتبار أن حزب الليكود قد حصل على عدد من الأصوات العربية ما يكفي إدخال مقعد إلى الكنيست بالرغم من مواقفه السياسية والأخلاقية، من ناحية ثانية، لماذا لا يمكن اعتبار تمار جوجانسكي ممثلاً للعرب باعتبارها منتخبة بأصوات عربية).

2. هل هو هوية المنتخب - بمعنى أنه إذا كان عضو الكنيست عربياً، فذلك يضفي كي يكون ممثلاً للعرب. (ضمن هذا المنطق تمار جوجانسكي لا تمثل العرب، وحسنيه جبارة تمثلهم حتى لو أن ميرتس لم يحصل على عدد أصوات عربية كافية لإدخال عضو كنيست).

3. اعتبار قضية التمثيل قضية غير محسومة مسبقاً إنما يجب السؤال عنها في كل موقف وموقف (أي قبول النموذج الثاني في التمثيل)، وعندها لا أفضلية لأحد على أحد إلا بمقدار ما ثبت مواقفه فعلاً تمثيل مصالح الفلسطينيين.

النتيجة الواضحة هي الغياب الفعلي للنموذج الأول من التمثيل. إن ذلك يعني ضمن ما يعنيه أن الحيّز العام، أو الصالح العام للفلسطينيين في إسرائيل يبقى بدون "أهل" يدافعون عنه. هناك "ثغرة" في التمثيل. سؤال الفلسطينيين داخل إسرائيل، على عدالته، وعمقه وتاريخيته، يستدعي من ينطق باسمه ومن يمثله. في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية، لا يستطيع النموذج الثاني من التمثيل (الحالة الثالثة أعلاه)، استيعاب الحالة الفلسطينية والنطق باسمها لأسباب لن أدخل فيها هنا.

بالتالي، لا يمكن القول مثلاً أن "محمد بركه" يمثل العرب حتى أولئك الذين لم يصوّتوا له، كذلك الأمر مع القائمة الموحّدة أو التجمّع.

مبدئياً، لا نجد الجبهة حرماً في هذه الوضعية، فهي لا تعتقد أنه توجد هناك "نحن" فلسطينية بحاجة إلى عقد اجتماعي خاص بها. التجمّع مثلاً يقرّ بضرورة مثل هذه "العقد"، إلا أنه على أرض الواقع لا يوجد عقد كهذا ولا توجد "نحن" كهذه. وبالتالي فجميع هذه الأحزاب تقف على نفس الأرضية وإن كانت ترنو إلى آفاق مختلفة.

إن أحداً لا يستطيع أن "يمثّل" العرب في إسرائيل من النموذج الأول، وكل يمثل حزبه على طروحاته وقياساته وإخفاقاته.

في ظروف عادية كلاسيكية، تجسّد الدولة القومية الحد الأدنى من المصالح المشتركة وترعى الحد الأدنى من الصالح العام. في حالات كهذه يكون عمل الجمعيات الأهلية في المساحات المتروكة خارج السوق وخارج الدولة. أما في الحالة الفلسطينية في إسرائيل، حيث أن "الدولة" في معظم الحالات في حالة عداء مع الصالح العام الفلسطيني، فإن دور الجمعيات يبدو مختلفاً.

بالتالي تشكّل حالتنا حالة خاصة من حيث غياب الدولة أولاً، وغياب الهيئات التمثيلية بالمعنى الأول. أي غياب أية هيئة تمثل الحيز العام زماناً ومكاناً. هنالك إغراء كبير قد تجد الجمعيات نفسها فيه إلا وهو ملء الفراغ الناجم عن غياب هيئات تمثيلية منتخبة تمثل العالم العام للفلسطينيين في إسرائيل. أقول إغراء لأني أعتقد أنه يجب تحاشي هذا الإغراء، والإبقاء على هذا الفراغ جزئياً كي يتم ملؤه بصورة مختلفة. فإذا كان البرلمان يمثل الشعب في كل دولة ودولة وبشكل حلبة الصراع الحزبي، فإن بيروقراطية الدولة (الادّعاء العام، مراقب الدولة، مراكز الأبحاث الاستراتيجية، كبار الموظفين، البنك المركزي...) تمثّل المصالح العميقة، بعيدة المدى للمجتمع والدولة, وهي تقوم بذلك إلى حدّ كبير بشكل مهني, غير حزبي، وبطول نَفَس، وغير استعراضي.أحداث مثل مؤتمر "ديربان"، أو مداولات "لجنة أور" تثبت الحاجة الماسّة لوجود أجسام تمثيلية ترعى الصالح العام، ومن الواضح الدور العام والمصيري الذي قامت به الجمعيات في هذه المناسبة. ماذا يعني ذلك؟ هناك بعض أوجه الشبه وأوجه الاختلاف بين بيروقراطية الدولة وبين عمل الجمعيات. وجه الشبه يكمن في ادّعاء الاثنين في تمثيل الصالح العام، وبالتالي فكلاهما يمنحان "صلاحيات" أو "رصيد" اجتماعي للقيام بمهمّتهم، إلا أنه في نفس الوقت يجب أن يخضعا لنظام واضح من المراقبة والمساءلة والشفافية. فمن اختار أن يتحدّث باسم غيره، و/أو باسم مصالح غيره، عليه أن يقبل أن يقوم غيره بمساءلته وبمراجعته، وأن يطلب منه التقارير.

وجه الاختلاف واضح أيضاً.فإذا كانت بيروقراطية الدولة تسعى للإبقاء على الوضع على ما هو عليه، فإن الجمعيات صاحبة دور في عملية التحول الاجتماعي والسياسي، وفي الدفاع عن مصالح الفلسطينيين في إسرائيل وفي المشاركة في صياغة مشروع وطني. وفي حالتنا الخاصة تحمل دوراً خاصاً في صناعة الـ "نحن"، وفي رعاية الصالح العام. وفي تنظيم الـ "نحن"، وصياغة أهدافها.

باعتقادي فإن عمل الجمعيات يجب أن يتركز من ناحية في تقديم العمل المهني من ناحية، ومن ناحية أخرى الإسهام فكرياً في صناعة حيز عام، عن طريق المساهمة في وضع أجندة، الانتباه إلى المصالح بعيدة المدى، التخطيط الاستراتيجي. أي في بلورة بعد زمني جماعي، ذاكرة جماعية وحلم جماعي، وهي مهمّة لا تستطيع الأحزاب القيام بها.

إلا أنه على المدى البعيد لا بديل عن مشروع تمثيلي ذي شفافية واضحة ضمن النموذج الأول، أي نقابة محامين عربية، نقابة صحفيين، نقابة أطباء، نقابة عمال، إلخ... هذه هي الهيئات التي يجب أن تكون مخوّلة بقول كلمتها بصفتها التمثيلية. الجمعيات الحالية قد تكون صاحبة دور تسرع لقيام هذه المؤسسات عن طريق لفت النظر إلى الحاجة إليها، وإرشادها، وتقديم المشورة لها، لكن لا يمكن للمهني أن يحلّ محلّ التمثيلي، وفي بلورة مشروع جماعي. بهذا المعنى فإن دور الجمعيات الأساسي يكمن في وعي النقص التمثيلي وليس في عملية التمثيل نفسها.

ضمن هذا النموذج يجب أن يتطور 3 نماذج من العمل الجماعي لدى الفلسطينيين في إسرائيل. الأول هو عمل الأحزاب السياسية. وهذه الأحزاب تعمل ضمن الساحة الإسرائيلية العامة وهي تمثلنا بصفتنا مواطنين في دولة إسرائيل أولاً وقبل كل شيء.

(باعتقادي ضمن هذه الرؤية لا يوجد أي مبرّر لأحزاب عربية صرفة إنما لأحزاب عربية-يهودية على أسس ديمقراطية). إلى جانبها يجب أن تقوم هيئات تمثيلية (نقابات على جميع أنواعها، وهيئة تنسيق عليا). وفي المقام الثالث وجود جمعيات أهلية تقوم بالتخطيط الاستراتيجي طويل المدى، وبالدفاع عن قضايا عينية، وبرعاية الصالح العام.

الى حدّ ما فإن ما يجري اليوم هو دخول الجمعيات مكان الهيئات التمثيلية. وهذا واضح نتيجة للفراغ التمثيلي، الذي لا تستطيع الأحزاب أو تملأه ولا تستطيع الهيئات التمثيلية الهلامية ملؤها (مثل لجنة المتابعة). هذا، باعتقادي توجّه يحمل بعض المخاطر في المنظور البعيد، وهو يعطي قوة غير معقولة للجمعيات بدون أن تكون عليها رقابة شعبية واضحة، ودون أن تكون لها مرجعية محددة.

فيما يلي أود أن أتوسع في بعض الإشكاليات التي تخص عمل الجمعيات كما ألمسه، والذي مع مرور الوقت قد يتحوّل إلى أزمة جدية.

1. سؤال التمثيل والتمويل مرّة أخرى: التمثيل هو أداة قد يستعمل لتحقيق إنجازات وقد يستعمل للانتحار الذاتي. قد يستعمل لتحقيق مطالب وقد يستعمل للتنازل عن مطالب. وتجربة منظمة التحرير الفلسطينية أحسن مثال على ذلك. فهي قد حضرت على مسرح التاريخ، واعترف بها العالم شرط أن تعلن غيابها وغياب مشروعها. التمثيل فعلي أو معنوي، يعني تركيز رأس المال المعنوي لعدالة قضيتنا في شخوص أو جمعيات محدودة. هذا أمر ضروري لشحذ المطالب وعرضها. الخطر يكمن أنه في ظل غياب مرجعيّات واضحة وشفافة ومساءلة ومحاسبة، أن يساء استعمال رأس المال المعنوي الذي جرى جمعه. أي إجادة في جمع رأس المال المعنوي، وسوء في تصريفه. الخطورة تكمن أنه في حقيقة غياب هيئات تمثيلية منتخبة فإن الحيّز العام مخترق. فما المانع مثلاً، أن تقيم مجموعة جديدة، مموّلة من السوق الأوروبية أو الحكومة الإسرائيلية، بإقامة جمعية تتبنى موضوع مصادرة الأراضي؟! إن ما يقر النجاح- ولو الأولي- لجماعة من هذا النوع، ولاحقاً حضور إعلامي مكثّف، وفقط في مرحلة لاحقة علاقة جمهورنا بهذه المؤسسة. المقصود قوله هنا أن الجمعيات قد تشكّل حالة افتراق للإرادة الجماعية الفلسطينية هنا في الداخل، وليست عاملاً في صناعة هذه الإرادة. وقد تقوم جمعيات، تمثّل وجهة نظر "الآخر" قبل أن تمثّل وجهة نظرنا، دون أن تكون للجمهور العريض القدرة على التأثير على برامجها أو قراراتها أو أجندتها. أي أنه قد تجري عملية مبرمجة "لصناعة التمثيل"، أي تجري عملية "مَخْتَرة" بصورة حديثة وتطوير نخب لبقة وأكاديمية تتحدث باسمنا، دون أن نكون قد اخترناها. إن مزيج حركة الأموال العالمية مع الإعلام العالمي، قد تعكس لعبة التمثيل، فبدل أن يعكس التمثيل حالة محلية تجاه العالم، فقد يصبح التمثيل عكسياً، أي أن العالمي يختار من يمثله محلياً.

هناك - يجب أن نوضّح أمرين؛ الأول - أنه حتى الآن معظم الجمعيات يقودها شخوص متمرّسون في العمل السياسي الوطني وواعون لهذه الحقيقة وغير قابلين للاحتواء. إلا أن هذا الأمر غير كافٍ ولا يمكن الرّكون فقط إلى النوايا الطيبة والنوعيات الأخلاقية الحسنة لقياديي العمل الأهلي، إنما يجب خلق ميكانيزم يضمن عدم الاحتواء.

قد يُسأل السؤال- وما الخطر في أن تزداد الجمعيات، وأن تقوم مثلاً غداً جمعية جديدة للدفاع عن --- زيت الزيتون العربي. لا مشكلة من حيث المبدأ، لكن المشكلة أنم من غير الممكن إقامة عدة جمعيات حول نفس الموضوع. المشكلة إذاً فيما يمكن تسميته بـ "إشغار الحيّز. فإذا أشغرت جمعية معيّنة حيزاً ما، فإن شأنها شأن أي محامٍ. إذا كان المحامي جيداً فإنه يعرض قضيته بشكل ناجح، وإذا كان سيئاً فإنه قد يسيء إلى القضية التي يعرضها. فالذي يقيم في جمعية، لا يمثّل نفسه فقط، إنما يمثّل مصلحة عامة، بهذا المعنى فهي ليست "ملكه" الخاص.

الخطر يكمن أنه في ظل التنافس الفردي، وفي ظل التنافس على الحضور الإعلامي بين الجمعيات المختلفة، وفي ظل غياب ضوابط للعمل، ستجد كل جمعية أو جماعة، أنه من الشرعي الحصول على أموال بغض النظر عن مصادر التمويل، أو الالتزام الوطني، أو المهنيّة العالمية.

أي أنه تصبح التناقضات الثانوية بين الجمعيات عاملاً رئيسياً في إمكانية اختراقها. وما دامت هذه الجمعيات لا تملك أرضية مشتركة تقف عليها مشتركة، ولا توجد قوانين تحكم اللعبة والمنافسة. فلا قعر للتنافس، ولا ضوابط أخلاقية أو دهنية، وكل شيء مسموح. في مثل هذا الظرف يستطيع المموّلون تحديد من يصمد ومن يغرق في مثل هذه المسابقة، وتصبح الجمعيات جميعاً رهينة هذه الديناميكية التي لا نملك مفاتيحها.

هناك لحظتان تختلف فيهما مصالح الجمعيات كمؤسسات، كشخوص عن مصالح الجماهير التي تدّعي تمثيلها. اللحظة الأولى لحظة التمويل والأخرى لحظة التمثيل. لن أناقش قضية التمويل هنا. فيما يتعلق بالتمثيل، الخطر الإضافي كما ذكرناه يكمن في تضخيم إنجازات وهمية، عن طريق إبرازها إعلامياً باعتبار كل حدث صغير هو بمثابة إنجاز كبير وسابقة هامة. في هذه النقطة يتفق الموّلون مع العاملين في الجمعيات مع القوى المتنوّرة في جهاز الدولة. الممولون يشعرون بأن أموالهم لا تذهب هباء، العاملون في الجمعية يشعرون برضىً ذاتي وحضور إعلامي، والدولة تشعر أنها تحسّن صورتها. من يغيب عن الصورة هذه هو الجمهور العريض. هذا الجمهور أن يحقق إنجازات مادية فعلية على أرض الواقع من ناحية، وأن يجري تقزيمها إعلامياً، حتى يستطيع أن يحافظ على مبرراته للمطالبة بالمزيد من الإنجازات وكي يستمر في المطالبة بحقوقه. الإنجازات الوهمية قد تخلق انطباعات خاطئة سرعان ما تتحول إلى خيبات أمل لدى الأطراف المشاركة.

بالتالي هناك حاجة لوضع تصور حول السياسة الإعلامية، وعلاقة الجمعيات بالإعلام. ب - التمويل والأجندة: لقد قيل الكثير في هذا الموضوع (أنظر عزمي بشارة-مساهمة في نقد المجتمع المدني). الجمعيات الحالية كلها ممولة أجنبياً، وبالتالي لا تعيد إنتاج المجتمع الذي هي جزء منه، أي أنه بمعنى من المعاني فهي تشكّل نوعاً من التدخل الأجنبي. لكن لما كنا قد وافقنا أنه على الرغم من ذلك لا بد من التعامل مع الوضع الحالي كما هو يبقى السؤال كيف من الممكن تخفيف الأضرار الناجمة عن حالة التعلق بالتمويل الأجنبي.

أحياناً لا تضع مصادر التمويل شرطاً مباشرة على الجمعيات، لكنها قد تغريها بمشاريع هي ليست في صلب عملها. مثلاً قد تتقدم جمعية طلباً لتمويل بحث حول موضوع الأراضي فيرفض المموّلون الطلب ويقترحون بالمقابل بحث حول موضوع المرأة وقس عليه. على مدى سنوات إذا استمر هذا النموذج فقد تنتهي الجمعيات إلى وضع تقوم به بمشاريع تختلف عن الأجندة التي قامت بشأنها وقد تحذوها قدرتها. وهكذا بدل أن تكون الجمعية أداة لتحقيق أهداف واضحة لجمهور الهدف، قد تصبح الجمعية بحد ذاتها هدفاً، ومجرد استمرارها هو مشروع بحد ذاته.

هذه أخطار لا بدّ منها وهي ليست سبباً لعدم الولوج في الجمعيات، وتبقى القضية الأساس ليس في إلغاء هذه الأخطار، إنما في إيجاد الآليات التي تحدّ منها.

ج - سياسة المعاشات وروح العمل الأهلي: ما هو دور الجمعيات في تطوير فكرة العمل الأهلي، التبرّع، خدمة الصالح العام الخ... الخطر هو في تحويل العمل الأهلي فقط إلى مهنة، والمقصود بذلك أنه كما يوجد هناك نجّار وحدّاد وطبيب، ومحاسب، يوجد هناك اختصاصي في العمل الأهلي يتقاضى أجراً عن عمله.

لا بأس في ذلك ولا بدّ من ذلك. إلا أنه هناك بعض التساؤلات التي يجب أن تبقى ماثلة. مثلاً: كيف يؤثر ذلك على استعداد من هم خارج هذا الإطار المهني-خارج الجمعيات- من التبرع بوقتهم وقدراتهم من أجل الصالح العام. فإذا كان الأمر مجرد مهنة-ولا يحوي بعداً أخلاقياً وطنياً-فإذا قلّ في مهنته. فإذا قامت هناك جمعية تعنى بأمور التخطيط والبناء يعمل فيها مهندسون يتقاضون أجورهم، فإن المهندس العادي الذي يعمل في مكتبه الخاص قد يجد أن العمل من أجل الصالح العام في التبرع لهذا المشروع أو لذلك، هو "بلا معنى"، لأنه في حين يقوم به هو تبرعاً، فإن آخرون يقومون به كمهنة. أي أنه يجب التساؤل عن تأثير "مهنته" الحيّز العام والعمل الأهلي، ومدى تأثيره على استنهاض المواطن العادي للتبرع للصالح العام. هل الجمعيات وعملها يزيد من جاهزية الجمهور للانخراط في العمل من اجل الصالح العام أم أنه يجهض هذه الجاهزية.

هنا يتداخل سؤال التمثيل بالسؤال المهني، وقضية المعاشات، فمن ناحية يمكن القول أن العاملين في الجمعيات هم مهنيون يجب أن يتقاضوا معاشاتهم بصفتهم مهنيين يقدّمون خدمات للجمهور، وهذا شرعي. إلا أنه في كثير من الحالات يجد هؤلاء أنفسهم ليس فقط كمهنيين إنما يقومون بطابع تمثيلي سياسي، أي أنهم يمثلون نموذجاً يحتذى بهم، وأحياناً يتحدثون باسم الجماعة(أحياناً رغماً عن رغبتهم).

كيف يمكن تطوير سياسة معاشات في الجمعيات وعلى أية أسس؟

حتى الآن لا توجد سياسة واضحة في الموضوع ولا حتى معايير متّبعة. هل يجب مقارنة معاش مهندس أو مخطّط مدن يعمل في جمعية مع معاش مهندس في السوق الحرّة(الاعتبار المهني) أو مقارنة بمهندس يعمل في دائرة التخطيط الحكومية. هل يمكن أن تتعامل مع الموظف في الجمعيات من وجهة النظر المهنية لضرورة المعاشات وأن نتعامل معه لضرورات أخرى باعتباره جزءاً من الحيّز العام أو القطاع العام الذي يتحدث باسم الجماعة ويدافع عنها؟ (تعابير مثل جمعية وطنية أو ممثلين عن الفلسطينيين في إسرائيل). من ناحية أخرى، هناك كثير من الجمعيات قامت على أكتاف أشخاص ضحّوا سنوات في العمل السياسي والأهلي ولولا جهودهم لما قامت مثل هذه الجمعيات. كيف يمكن تطوير سياسة معاشات موحّدة.

جانب آخر لسياسة المعاشات يتعلّق بموضوع تدريج المعاشات داخل الجمعيات نفسها. هل يعقل أن يكون مدير الجمعية يتقاضى معاشاً هو أضعاف السكرتير/ة مثلاً؟ هل هناك قيم معيّنة داخل الجمعيات من الضروري المحافظة عليها؟ هل تستطيع الجمعيات أن تبشّر بمفاهيم معيّنة للمساواة دون أن تطبق الحد الأدنى منها داخل المؤسسة نفسها؟

نفس الأمر ينطبق على أمور أخرى مثل-شروط النقاهة السنوية- التعويضات، حيازة سيارة وغيرها. ما هي المرجعية التي تحكم هذه الأمور-هل نقارنهم مثلاً بعمّال الدولة-القطاع العام أم القطاع الخاص؟

إن المراوحة بين المهني والتمثيلي، والخاص والعام قضية هامة للعمل الأهلي ولسمعته. فلا يمكن مثلاً اعتبار السوق الخاص مرجعية عند الحديث عن سياسة المعاشات(الاعتبار المهني)، وعند الحديث عن توجيه انتقادات لعمل الجمعيات، يجري تغليف النقاش باعتبار أنها مؤسسات وطنية تمثيلية. (يجب إحداث توازن بين هذه الاعتبارات وتحقيق توازن فيما بينها).

الإدارة والطاقم:

إنّ أحد أهم عوامل الثبات وطول النفس التي من الممكن أن تؤهل الجمعيات لتجاوز مشاكل الأجندة والتمويل والتمثيل، تكمن في إيجاد إدارة واعية ومدركة لمهامها ومسؤولياتها مرتبطة ومثبتة من قبل جمهور واسع. بهذا المعنى تشكّل الإدارة مرجعية فكرية، وتشكّل بعداً ما عن الطاقم، يساعد الطاقم في نقد نفسه ونقد دور الجمعية وآرائها من ناحية، ويدعم الطاقم ويدافع عنه من ناحية أخرى.

لا يجري الحديث عن إدارة تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، لكن الحديث يدور عن إيجاد بناء مؤسساتي واضح يضمن وضوحاً في الصلاحيات، هرمية واضحة، يكون واضحاً فيها دور الإدارة ودور الطاقم.

غياب دور فاعل للإدارة يعني غياب حلقة الوصل بين المؤسسة كهدف بحد ذاته وبين الهدف من إنشائها، ويعني انقطاع الطاقم عن جمهور الهدف.

في بعض الجمعيات تحضر فيها الإدارة كعامل ثانوي ويدلّ أن تقود فكرياً وجماهيرياً عمل المؤسسة فإنها تتذيّل وراءه باعتبارها غطاءً ليس أكثر. هذا الوضع على المدى البعيد يدخل الجمعيات في أزمة، وفي لحظات الأزمة يبحث الطاقم عن مظلة الإدارة فلا يجدها.

لا تتبلور الإدارة إلا إذا تمّت بلورة الأهداف الواضحة والاستراتيجية العامة للجمعية على المدى البعيد. فقط ضمن وضوح رؤية من هذا النوع تستطيع الإدارة أن تأخذ دورها وهذا يعني إيلاء أهمية قصوى للإدارة في مراحل البناء الأولى للجمعية. ضمن العلاقة مع المموّلين وفي إطار وضع الأجندة، تشكّل الإدارة عامل ضمان في مواجهة الضغوط الخارجية، إذا كانت الإدارة مرتكزة على قاعدة جماهيرية تدعمها، وإذا كانت تملك وضوح رؤية واستراتيجية طويلة المدى. في غياب ذلك فإن الطاقم العامل نفسه لهو عرضة أكثر للضغوط المباشرة من قبل الهيئات المانحة، في أحيان كثيرة فإن اعتبارات الإدارة قد تختلف عن اعتبارات الطاقم. صحيح أنه لا يمكن تجاهل اعتبارات أي من الأطراف. لكن في نهاية المطاف فالجمعية كمؤسسة قائمة لتخدم الهدف، والهدف ليس موجوداً كي يخدم الجمعية كمؤسسة.

عمليات الرقابة والمحاسبة- "تجاوز الملائكة"

إن عمليات تجنيد الأموال تجري باسم الجمهور ولخدمته. بالتالي فإن الجمعيات مؤتمنة على هذه الأموال. إن عملية النقد البنّاء نفترض وجود بعد أو مسافة بين أهداف الجمعية، والجمعية نفسها. أي أن تستطيع الجمعية أن تفحص نفسها وإنجازاتها بالمقارنة مع الأهداف الأساسية التي قامت من أجلها. أي إفساح مجال الموافقة على أهداف الجمعية ونقد أدائها في نفس الوقت. من ناحية أخرى يجب إحداث مسافة نقدية معيّنة بين الجمعية نفسها والعاملين فيها. أي إفساح مجال لنقد مدير الجمعية دون اعتبار ذلك نقداً الجمعية ذاتها. أي أنه هناك حاجة تماشي "حتمية" المؤسسة عن طريق مماهاتها مع أهدافها، وهناك ضرورة تماشي "حتمية" الأشخاص عن تماهي المؤسسة مع شخوص مركزيين فيها: إن هذه المفصلة تمكن مزيداً من ديناميكية الحركة، والنقد البنّاء، دون إحداث خلخلات في الجمعية، بالتالي يمكن الحديث عن تغيير استراتيجيات عمل ضمن الهدف العام، أو تغيير شخوص داخل الجمعية مع المحافظة عليها، أي أن المطلوب خلق إمكانية لإحداث تغييرات ضمن بيئة من الثبات. إن الثبات المطلوب هو الأساس لديناميكية الحركة والتجدد. وفي هذا السياق هناك أهمية خاصة لشهادة ميلاد الجمعية ولصيانة أهدافها الأساسية، ولدور فاعل ونشط للإدارة (دون التدخل في العمل اليومي) تحافظ من خلاله الجمعية على بوصلتها. ترتبط بهذا الموضوع قضية المكاشفة والمراقبة والشفافية. الكثير من الجمعيات اليوم تفتح أوراقها أمام الجمهور. بعضها يضع مراقبين خارجيين يراقبون عملهم وحساباتهم. المطلوب هو وضع تصوّر يضمن عملية المراقبة هذه ليس في اعتبارها عملية مزاجية لكل جمعية. والمقصود هنا مساءلة تتعدى موضوع صرف الأموال بطرق قانونية، إنما المقصود وجود هيئة تسأل عمّا إذا قامت الجمعية بتحقيق الأهداف المرجوّة منها أم أنها تعيد استنساخ نفسها فقط، مساءلة تسأل الأسئلة الصعبة حول نجاعة العمل وليس حول قانونيته.

الوضع الحالي، تنتج عنه حالة تقع فيها الجمعيات في مناطق "غير مأهولة". المقصود بذلك أن القوى التي في مقدورها إحداث ضغوط على الجمعية لإجراء إصلاحات لصالح جمهور الهدف-أي المموّلين- ليست دائماً معنية بذلك، هذا من ناحية. من ناحية أخرى فإن الجمهور العريض والذي له مصلحة في إحداث تغييرات نوعية في أداء وعمل الجمعيات يجد نفسه دون أدوات للقيام بذلك. فهذا يملك الأدوات لكن ليست لديه مصلحة للقيام بذلك. وذاك لديه المصلحة لكنه لا يملك الأدوات. والحال كهذه تبقى الجمعيات في كثير من الأحيان خارج "النفوذ" وعصية عن النقد.

بالمقابل، في حالات معيّنة يجري هجوم ونقد مبرر وغير مبرّر، إعلامياً، ضد عاملين في الجمعيات، فيجد هؤلاء أنه ليس لهم غطاء يحميهم ويوفر لهم مظلّة. وبالتالي هناك حاجة لمظلة كهذه تضبط العمل من ناحية، وتدافع عن العاملين في الجمعيات من ناحية أخرى، وتشكّل لهم سنداً إزاء كل هذا هناك حاجة لضبط العمل الاهلي من ناحية، ولدعمه من ناحية أخرى. أي إقامة مجموعة من قواعد العمل والالتزام بالحدّ الأدنى منها. هذه القواعد قد تقيّد عمل الجمعيات من ناحية، لكنها تدعم عملها وتؤسس لمصداقيتها. الفكرة هي وضع ميثاق لعمل الجمعيات وللعمل الأهلي، يضمن بنوداً أساسية حول أساليب العمل، التمثيل، التمويل، المعاشات. الجمعيات التي تنضم إلى ميثاق كهذا يضع قيوداً، لكنه في المقابل يسهم في صناعة "هيبة" للعمل الأهلي باعتباره جزءاً ورافداً من روافد العمل الوطني وساهم في صناعة الإرادة الوطنية العامة ومدافعاً عن حقوق الشعب وليس متطفلاً عليه.

إن هذا الميثاق أصبح ضرورة، لأن العمل الأهلي وعمل الجمعيات أصبح ضرورة. إن سمعة العمل الأهلي ضرورة لنجاعة عمله. علينا أن نتفقّد أنفسنا ونحسّن أداءنا قبل أن نسمع ذلك من جهات أخرى.

فيما يلي بعض الاقتراحات للمواضيع التي يجب أن يتطرّق إليها الميثاق:

1. وضع تصوّر عام حول مصادر التمويل، وهل توجد مصادر تمويل من غير الشرعي للحصول منها على تمويل.

2. وضع تصوّر وآلية عمل لمواجهة الضغوط التي تحصل بصدد أجندة العمل.

3. وضع سياسة أجور وشروط عمل.

4. تحديد تصوّر عام لدور الإدارة والتزام معيّن بتفعيل الإدارة (مثلاً عدم قبول منح من مموّلين إلا بعد أن تجتمع الإدارة نفسها مع المموّلين ليس الطاقم)، وصياغة أهداف الجمعية بشكل واضح وعلني.

5. تحديد سياسة واضحة بكيفية قبول الأعضاء في الجمعيات.

6. تطوير سياسة واضحة بما يتعلق بالمساءلة والمحاسبة. فمن الممكن مثلاً أن تلتزم جميع الجمعيات بنشر تقاريرها السنوية في الصحافة، أو تلتزم بتعيين مراقب حسابات ومقيّم خارجي لعمل الجمعية.

7. تنظيم طبيعة العلاقة مع الأحزاب، وهل هناك تقييدات على العلاقة بين العمل الأهلي والحزبي أو بالعكس.

هذه مجرّد اقتراحات أولية جداً، وهناك الكثير من الموضوعات التي يجب مناقشتها. هذا هو واجبنا تجاه شعبنا أولاً وتجاه الجيل القادم من العمل الأهلي.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات