المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يتحدث ناحوم برنياع، في مقال له في "يديعوت احرونوت" من نهاية الاسبوع، عن رسالة سرية ارسلها عشية الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة (فبراير 2001) رئيس "الموساد" المقبل مئير دغان (كان التعيين معروفا حتى منذ تلك الايام) الى ارييل شارون (الذي اصبح بعد شهر من ذلك رئيسا للوزراء). في تلك الرسالة شدد دغان على "المعالجة الموضعية" لمحاور المقاومة في الاراضي المحتلة، وبرأسها المساس بقادة المقاومة في المناطق والخارج؛ والمساس المكثف بالجهات الداعمة لحزب الله بما في ذلك سوريا ولبنان؛ والاستخدام الواسع لـ "الحرب النفسية" في مواجهة الفلسطينيين.تتكون خطة دغان السرية من خمس صفحات، وقد أرسلت في 25 كانون الثاني 2001. وكتب على رأس كل صفحة كلمة "سري". حملت الخطة عنوان "مبادئ خطة لمعالجة العنف في المناطق". (التفاصيل الكاملة منشورة ضمن مقال برنياع في "الايام"، 14 الجاري).

بنظرة للوراء، تبدو خطة دغان كنبوءة بأثر رجعي، كما يكتب ناحوم برنياع في مقاله المذكور. اذ ان الكثير من بنودها طُبّق على الارض. على رغم ذك ينوّه الكاتب الى ان مقارنة للخطة مع ما حدث فعلا تبين ان دغان "أكثر ضبطا للنفس وأكثر اكتراثا بالفلسطينيين وأقل عدوانية مما كان عليه جيش الدفاع فعليا. وما لم تفعله توصيات دغان فعلته العمليات الدموية والضوء الاخضر المطلق الذي أعطته الادارة الاميركية لشارون بعد الحادي عشر من أيلول".

تولي خطة دغان امر استخدام الحرب النفسية في الحرب ضد الفلسطينيين اهمية خاصة، تتداخل فيها الاكاذيب والمبادرات الى تشجيع قيام قيادة فلسطينية جديدة، بديلة للقيادة الحالية. وفي ذلك يكتب برنياع: "يبدو ان هذه التوصية تنفذ فعليا في هذه الايام حيث تطالب الحكومة بإجراء انتخابات في السلطة وفي المقابل تطالب بتأجيلها قدر المستطاع".

وجريا على النهج الرسمي في توصيف الحقائق والاشياء، جاءت لغة دغان في الوثيقة الرسمية "معقمة"؛ فهو لا يتحدث أبدا عن التصفية او القتل وانما يستخدم مصطلحات مثل "معالجة مؤسساتية"، "معالجة موضعية شخصية" او "اصابة جسدية"؛ من هنا فإن "لغة دغان النقية ستفسح المجال أمامه لصنع العجائب في المستوى الدبلوماسي الذي هو جزء مركزي في عمله كرئيس موساد".

يأتي هذا التعيين في اجواء عاصفة تعيشها اسرائيل محليا واقليميا، وبخاصة بعد احداث ايلول العام الماضي في الولايات المتحدة، والتطورات المقترنة بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، وما اعقبها من تأزيم للعلاقات مع الفلسطينيين وقياداتهم السياسية والامنية. من هنا يبدو تعيين مئير دغان في منصبه الجديد دلالة واضحة على طبيعة هجومية مأمولة. فالرجل، كما يقال عنه في اسرائيل، وبخلاف رئيس حكومته، "لا يتوقف حتى عند الضوء الاسود". وهو يعتبر ان كل وسيلة، مهما كانت، تبرر غاية إلحاق الهزيمة بالعرب. ولذلك ليست صدفة ان تكثر التقارير في الصحافة الاسرائيلية والدولية عن مرحلة جديدة في حياة "الموساد". وقد كتبت صحيفة "صاندي تايمز" اللندنية ان "الموساد" في عهد دغان سوف يستأنف التصفيات الجسدية في الخارج.

والواقع ان الـ "صاندي تايمز" لم تكن بحاجة لتوقع شيء من هذا القبيل او التكهن به. اذ يحتوي التقرير "السري" الذي أعده مئير دغان لرئيسه ارييل شارون، والمشار اليه، على بند خاص بالاغتيالات وخاصة في "الخارج". وهكذا فإن مئير دغان ليس بحاجة لأن يتكهن أحد بسلوكه. انه يعلن هذا السلوك سلفا ويقول انه ينادي بتنفيذه بوسائل عسكرية او "سواها".

والواقع ان مئير دغان كرس نفسه في "التراث العسكري" الاسرائيلي بوصفه "قائدا غير تقليدي". وهو في هذا الشأن لا يتصرف الا وفق "وسائل غير تقليدية". وفي هذا السياق تطفو الى السطح محاولة اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، خالد مشعل، في عمان. وكان مئير دغان حينها مسؤولا عن "مكافحة الارهاب" في ديوان رئاسة الحكومة الاسرائيلية.

ولكن مئير دغان، كان حتى وقت قريب، رجلا يخضع لإمرة آخرين. وهذا يعني ان كثيرين آخرين يتحملون مسؤولية أفعاله وهم الذين يوفرون له هامش المناورة. وتتحدث المعلومات الاسرائيلية عن ان شارون، في مطلع السبعينيات، وفر له في قطاع غزة فرصة لعب دور "الشريف" و "صائد الجوائز"؛ ولكن رفائيل ايتان في الثمانينيات وفر له فرصة اختراع "جبهة تحرير لبنان من الغرباء"؛ ويعمل شارون الآن على توفير فرصة حياة اخرى لفترة ما بعد الحادي عشر من ايلول. فالمنطقة العربية اليوم، بأسرها، ميدان رماية لمسدس مئير دغان.

غير ان الخطورة الحقيقية لا تتمثل فقط في السمات الشخصية الفظة لمئير دغان. وانما في السياق الذي يعمل فيه. ومن الجائز ان هذه هي المرة الاولى في تاريخ اسرائيل ما بعد حرب لبنان، الذي يجتمع فيه هذا القدر من اصحاب التاريخ الاجرامي في أعلى المراتب.

آنذاك تجمعت قدرات وزير للدفاع، هو ارييل شارون ورئيس للاركان هو رفائيل ايتان ورئيس لشعبة الاستخبارات العسكرية، يهوشع ساغي. فكانت حرب لبنان في اطار استراتيجية شاملة لتغيير النظام في الشرق الاوسط وتأكيد نزوع اسرائيل لتحقيق أمنها القومي من أطراف افريقيا الى حدود باكستان. وقد حد من هذه القدرات آنذاك وجود رئيس حكومة مثل مناحيم بيغن الذي ساير هذه الجماعة حينا وتخلى عنهم في وقت لاحق. وكذلك الموقف الاميركي الذي ساير أهداف اسرائيل حينا وتخلى عنها بعد ذلك لوقت ما.

أما اليوم فالحال يختلف. المجتمع الاسرائيلي عموما أكثر تجييشا ضد العرب من أي وقت. ويصنف أغلبية الاسرائيليين انفسهم على انهم من اليمين. ورئيس الحكومة هو شارون. ووزير دفاعه هو بنيامين بن اليعازر. (وبالمناسبة؛ كان لبن اليعازر دور كبير في نشاطات مئير دغان التخريبية في لبنان). والى جانب هؤلاء وزراء يبدو شارون "ملاكا" مقارنة بهم. ولكن ما لا يقل أهمية عن ذلك ان المؤسسة الامنية الاسرائيلية باتت محكومة بذوي الرأي المسبق اليميني. فرئيس الشاباك ينادي اليوم بسياسة "إما نحن وإما هم". ورئيس اركان الجيش موشيه يعلون دعا قبل اسابيع الى اعتبار الفلسطينيين "سرطانا" يمكن معالجته الآن "كيماويا" ولكن يمكن استئصاله لاحقا. وها هو شارون يضم مئير دغان الى الجوقة.

وفي هذا السياق يجد دغان نفسه من دون قيود. ولأن اسرائيل الراهنة تحظى بدعم اميركي غير محدود، فإن من الصعب التكهن بما يمكن لإسرائيل عموما، ومئير دغان على وجه الخصوص فعله. وفي ظل حديث أميركي متزايد عن استهداف المنطقة عموما، وعن تغيير الانظمة فيها، تجد حكومة شارون نفسها في وضع استعداد شمولي للعب واحد من أهم الادوار في حياة اسرائيل. والحرب الاميركية ضد العراق خصوصا وضد ما يسمى بـ "الارهاب الدولي" عموما تمنح اسرائيل فرصة إثبات انها القاعدة الاميركية الاكثر تقدما؛ وانها الاداة الادق لتنفيذ المهمات القذرة. ومئير دغان يبحث بتوق عن دور مركزي في مثل هذه الاعمال.

المصطلحات المستخدمة:

الموساد, يهوشع, موشيه يعلون

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات