جيد انه من الصعب على شارون تشكيل حكومة على هواه وكما يريد. انه يريد توليفة واسعة، تقطر وحدة واتفاقاً، مزرعة مشتركة يقطن فيها الذئب والحمل. جيد ان هذا صعب عليه، لأنه في هذه المرة، أكثر بكثير مما كان قبل سنتين، سوف يضطر المنتصر الى الانحناء لكي يستطيع تربيع الدائرة السياسية ـ الحزبية. وسوف تتضح في الأسابيع المقبلة قدرة رئيس الحكومة على اثبات الادعاء القديم حول طاقته المخبوءة في المرونة والمناورة. حتى الآن، يدير شارون دفة الأمور بشكل غير سيء من جانبه. لكز اللغز لن يحل الا لاحقا.لا يوجد بحوزة شارون انتصار كبير فقط. انه يستطيع النظر الى ائتلاف آخر في أزمة. الخلاف بين أمريكا وأوروبا ـ من الصنف الذي تحول الى فصل هام في كتب التاريخ ـ يؤثر لصالحه. أية قوة ستتمتع بها منذ الآن مبادرات "مجموعة الأربعة"، تلك االنخبة الدبلوماسية التي حاولت غالبية مركباتها ـ باستثناء الولايات المتحدة ـ ممارسة الضغوط عليه في السنتين الأخيرتين؟ وأي ضغط أمريكي هو الذي على شارون أن يخشاه بينما ثلاثة أرباع هذه المجموعة ـ الاتحاد الأوروبي، روسيا والأمم المتحدة ـ معلق على خطوط الضغط العالي مع واشنطن؟ بوش، الغاضب على خيانة "اوروبا القديمة"، لم يكن حتى الآن مصدر ضغط حقيقي لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين. وطالما لم يسجل انجًازا في الحرب ضد صدام، وربما بعد ذلك أيضا، سيظل شارون في حل من ضغوطاته.
تدل المعطيات التي جمعتها اجهزة الأمن الاسرائيلية على ان 1،945 شهيدا فلسطينيا سقطوا منذ بداية المواجهة في المناطق الفلسطينية حتى منتصف الأسبوع الجاري. وحسب <<المعلومات>> التي بحوزة هذه الأجهزة الأمنية، فانها تدعي بوجود ما يربط 82% من الشهداء بأعمال <<عنف وارهاب>>. اما بالنسبة لـ 11% من الشهداء فلا تتوفر اية معلومات تدل على علاقة لهم بـ <<الارهاب>>، بينما الـ 7% الاخرون فهم فتية واولاد تحت سن الـ 16 عاما.
اظهرت نتائج استطلاع "مؤشر السلام" لشهر ايار الماضي ان هناك اغلبية واضحة في صفوف الجمهور اليهودي في اسرائيل تؤيد خطة "خارطة الطريق"، لكن اغلبية يهودية
الحياة في مستوطنتي "افرات" و "كرمي تسور" وفي منطرة "تسور شليم" - التي تريد لهم خارطة الطريق مصيرا آخر مختلفا - تسير بشكل طبيعي واعتيادي كأن شيئا لم يحدث. غير ان الأجواء، تحت السطح، متكدرة ومثقلة بالشعور المر بالخيانة من جانب الشخص الذي قطع مسافة طويلة جدا معهم وفي دعمهم. هذا ما يقولونه تلميحا، وايحاء، غير ان ارئيل شارون، الذي كان عزيز المستوطنين، كأنما شُطب. كذلك التهديد، كما يصفه شمعون سائق السفريات، "يخيم"، ليس فَوريا ولا يزال غير ملموس. الكثير من الآمال هنا معقودة على الفلسطينيين وعلى استمرار سياسة الرفض التي يعتمدونها، والتي يرتبط بها - الى حد كبير - مصير المشروع الاستيطاني.
بعد أقل من ساعة على تقديم "خارطة الطريق" الى اسرائيل والفلسطينيين، بدأت في واشنطن حملة الضغوطات - مع وضد التقيد ببنود الخارطة وتطبيقها بلا تأجيل.
ويبرز بين اولئك الذين يحاولون التأثير على الادارة الامريكية، ممثلون من اسرائيل ايضاً - وزير السياحة، بيني الون، كان من المفترض ان يغادر اسرائيل متوجها الى واشنطن، للتعبير عن معارضة "الخارطة". ومن المقرر ان يلتقي الون أعضاء من مجلسي الكونغرس حاملا اليهم "رسالة تختلف عن تلك التي يحصلون عليها من اسرائيل الرسمية" (هآرتس 2/5). ويشمل برنامج الون لقاءات مع قادة المسيحيين الانجيليين، المعروفين بتأييدهم لاسرائيل وبمواقفهم الصقرية. ويشكل اقناعهم عنصرًا على غاية من الأهمية، نظراً لأنهم يشكلون قاعدة قوة هامة لبوش، وقدرتهم على مساعدته في الانتخابات القادمة كبيرة.
يتنافس المستوطنون مع "الارهاب" الفلسطيني باعتباره التهديد الاول على نوعية حياة الدولة وجوهر مستقبلها. هذه المقولة ستصطدم، بالطبع، بذلك الصنف من ردود الفعل الهائجة، المهانة، المتملقة ودعيّة الصهيونية، التي اصبح جمهور المستوطنين متخصصًا بها. لكن لا مبالغة في هذه المقولة. اذا ما انطلق، قريباً وبصورة جدية، تحرك امريكي - اوروبي لاستئناف المفاوضات، فلن يستطيع احد التشويش والتخريب عليه اكثر من المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
خطر التخريب من طرفهم اكثر منه حتى من طرف رئيس الحكومة. فهو سيكون خاضعا لضغوط امريكية، اما هم فلا. هو يعرف الانحناء امام الضغوط، بينما هم سيجعلونها سلاحًا في الصراع.قوة المستوطنين هي ظاهرة خطيرة لأن متكأها ليس الجمهور الاسرائيلي. فغالبية هذا الجمهور تعبر، بمثابرة واستمرار، عن الاستعداد لتفكيك المستوطنات من اجل التوصل الى تسوية. قوة الاستيطان السياسية تنبع من الدعم السياسي - الحزبي الذي يقدمه اليمين الحاكم. انها حركة كبيرة، لكنها معزولة في المجتمع الاسرائيلي. يغذيها نوع من الشعور بالذنب - المبرر - لدى غالبية السياسيين الحاليين، من اليمين ومن اليسار، على اسهامهم طوال سنوات في تعزيز هذا التيار. من السهل على المستوطنين، الآن، العزف على اوتار المسؤولية التاريخية على مر الأجيال. لا يجوز السماح لهم بالاستمرار على هذا المنوال. وليس هنالك أي سبب يمنع قلب امورهم رأساً على عقب.
الصفحة 588 من 610