المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

على الرغم من جميع محاولات الهرب والتهرّب فإن النكبة تتسلل بطريقتها إلى الوعي الإسرائيلي. وأمام الأبواب المقفلة، فإنها تدخل من النوافذ غير الرسمية، وتستقر في الوعي العام الإسرائيلي. القضية قضية تراكم، كمي ثم نوعي.

التقاط استخدامات مفردة "النكبة" بالعبرية بلفظتها العربية ومعناها في سياق نتائج الانتخابات الأخيرة، فيه كثير من الطرافة، وأكثر منها الجديّة. الكاتب يونتان غيفن، الذي تعرض لاعتداء يميني إرهابي بسبب مواقفه، وصف إعادة انتخاب بنيامين نتنياهو بالقول إن: "الشعب اختار ثانية من يؤسس حكمه على تخويف الشعب"، معتبرا أن تاريخ 17 آذار 2015، يوم الانتخابات، هو "نكبة لمعسكر السلام".

الصحافي ايلان لوكاتش كتب حينذاك في موقع القناة التلفزيونية الثانية (ماكو): "مع حلول يوم نكبة أصحاب الاستطلاعات، ربما يجب علينا فحص أدوات تنبؤ أخرى".

موقع "ذي ماركر" (هآرتس) نشر مدونة بعنوان "نكبة معاهد الاستطلاعات- كارثة معروفة سلفاً".

الصحافي أفنير هوبشتاين نشر في موقع "واللا" مقالا عنوانه "نكبة الاعلام" في اشارة إلى مفاجأة الانتخابات. واختتمه الكاتب بالمفردة نفسها إذ قال: "سجلوا لديكم تاريخ 17 آذار. لا، هذه ليست "حرب غفران الإعلام" (إشارة إلى ضربة حرب أكتوبر 73)، بل إنها نكبة".

إذن النكبة على خطى الانتفاضة. مفردة وفكرة ستستقرّ قولا ومعنى في اللغة العبرية وفي الوعي الإسرائيلي. ولكن مع فارق واحد مهم جداً: خلال انتقال "الانتفاضة" إلى العبرية الإسرائيلية تمت إزاحة معناها من الايجابي للسلبي؛ من هبة شعبية فلسطينية لأجل الحرية، الى مجموعة أفعال عنيفة وأعمال شغب وفوضى، بالمعجم الإسرائيلي. أما "النكبة" فانتقلت الى العبرية الإسرائيلية قولا ومعنى: إنها كارثة! بل تستخدم لتصوير الحالات القصوى من الكوارث.

لقد ابتدعت أحزاب اليمين الاسرائيلي المهووس قوانين كثيرة لمنع تسلل فكرة النكبة الى الوعي الإسرائيلي العام. وزيرة الثقافة الليكودية ليمور ليفنات دعت في أواخر 2014 الى وقف الدعم الاقتصادي لسينماتيك تل أبيب لأنه استقبل "مهرجان أفلام النكبة" بمبادرة جمعية "ذاكرات". ومثلها لجنة المالية البرلمانية. رئيس بلدية حيفا يونا ياهف أفشل تنظيم مهرجان مشابه في سينماتيك المدينة بأدوات عدم التمويل. وحتى محكمة "العدل" العليا أقرت في كانون الثاني 2012 صلاحية "قانون النكبة" الشهير الذي جاء ضمن السيل الملوّث للقوانين العنصرية من "مدرسة" النواب المستوطنين.

محاولة لإقصاء الذاكرة المشتركة لأحداث 1948

تحت عنوان "الحقّ بالتذكّر: "قانون النكبة" والجدل بشأن قوانين الذاكرة في أوروبا" كتبت د. يفعات غوتمان (من مقال في موقع هعوكتس، مطلع 2015) أن "قانون النكبة" يمكن النظر إليه "كحالة دراسية للعلاقة القائمة بين التشريع المتعلّق بتذكّر الماضي القومي وبين حقوق الأقليات في دولة ديمقراطية، وذلك اعتماداً على مقارنة الحالة الإسرائيلية مع حالات أخرى مشابهة لها في أوروبا. تكمن نقطة الانطلاق النظرية في أنَّ القانون ليس أداة لتثبيت التوثيق التاريخي أو الذاكرة الجماعية للدولة القومية، وإنما هو بمثابة حلبة حيث تتم عملية صياغة التأويلات المختلفة بشأن الماضي، تلك التأويلات التي تبلور الوعي التاريخي لفئات معينة في المجتمع. تعتبر الصراعات بين المفاهيم المختلفة للماضي القائمة في الحلبة القضائية إحدى القنوات التي تتعامل عبرها الدولة القومية مع الذاكرة الجماعية بشأن المظالم المقترفة ضدّهم برعاية الدولة".

وفقاً للكاتبة: ظهرت إحدى النقاشات المركزية بشأن هذه الظاهرة في أوروبا في العقد الأخير، في ضوء ازدياد عدد هذه القوانين في أرجاء القارة وتعريفها بوصفها "قوانين ذاكرة". ويضم هذا التعريف قوانين تحرِّم أو تُلزم حمل رؤية معينة للماضي القومي (وليس المقصود قوانين تحدّد أيام إحياء الذكرى ومؤسّسات التوثيق والتخليد الرسمية، على سبيل المثال). وتحرّم بعض هذه القوانين التنكّر لوقوع أحداث مأساوية مركزية، مثل قوانين ضدّ نفي المحرقة أو ضدّ إضفاء الشرعية على وقوعها، وغالباً ما تحمل هذه الطائفة من القوانين طابعاً دستورياً. وتحرّم بعض قوانين الذاكرة الأخرى النظر إلى الماضي القومي بصورة سلبية أو مناقضة للرؤية القومية السائدة أو الرسمية، وقد أثارت هذه القوانين نقداً بالغاً ونقاشاً جماهيرياً عاصفاً في الدول التي سنّتها وكذلك في خارجها. دعا هذا النقد إلى الكشف عن أنَّ تحديد فحوى ذاكرة الماضي ليس من الوظائف اللائقة للقانون، وأنه يقيّد بذلك حرية التعبير ويحدّ من حرية البحث الأكاديمي. كما ظهرت ادعاءات أخرى مفادها أنَّ قوانين الذاكرة ليست أداة مجدية لنشر ذاكرة معينة يلتف حولها جمهور المواطنين ولا تعزّز الاستقرار والتكافل، إذ إن هذه القوانين تؤدّي في حالات عديدة إلى إقصاء وإخراس مجموعات معينة في المجتمع وتهدّد بشرذمته.

وهي تذكّر بأنه قد ظهرت إدعاءات شبيهة ضدّ قانون النكبة، الذي طرح في سنة 2009 وتمّ التصديق عليه في سنة 2011. إلاَّ أنَّ إقصاء الذاكرة المشتركة لأحداث سنة 1948، ويوم الأرض، وأحداث هامّة أخرى للمواطنين الفلسطينيّين من لائحة أيام إحياء الذكرى ومشاريع التخليد لدولة إسرائيل تتجلّى كذلك في قوانين قديمة حاضرة في مجاميع القوانين في دولة إسرائيل التي تحتفي بأيام الذكرى الخاصّة بها. فلا يتم ذكر الفلسطينيّين وأقليات أخرى بتاتاً في القوانين التي تحدّد أيام الذكرى للدولة. وعليه، بماذا تختلف المقاطعة وتحريم إحياء ذاكرة جماعية معينة، المنصوص عليها في قانون خاص، من إقصاء هذا الإحياء أو تجاهله الشامل، كما يظهر في قوانين إحياء الذكرى الموضوعة بهدف استبطان الذاكرة الجماعية للأغلبية في الدولة؟ عند دراسة الحالة الإسرائيلية وحالات أخرى تتعلّق بسنّ قوانين بشأن ذاكرة عنف الدولة ضدّ فئات معينة يتّضح بأنَّ الحديث يدور حول مراحل مختلفة لعملية التعامل (أو عدم التعامل) مع ذاكرة المظالم المقترفة برعاية الدولة. إنَّ القوانين التي تحدّد مقاطعة وتحريم ذاكرة جماعية معينة لصالح ذاكرة قومية سائدة أو رسمية تظهر في حالات عديدة على خلفية محاولة انتهاك هذا التجاهل الشامل، أي تعتبر هذه القوانين مرحلة من عملية شاملة تسعى إلى إعادة ذاكرة كان قد تم إقصاؤها وإسكاتها إلى الوعي والنقاش الجماهيري.

الكاتبة تخلص الى أن: المفارقة هي أنَّ سنّ قانون النكبة قد ساهم في نشر واسع لذاكرة النكبة في المجتمع الإسرائيلي. إلاَّ أنَّ ذلك لا يُعد نصراً للذاكرة الفلسطينية على ذاكرة دولة إسرائيل، إذ إنَّ الانكشاف على ذاكرة الأقلية لا يعتبر اعترافاً بها أو بالحق بوجودها، لا بل ويؤدّي ذلك أحياناً إلى إضفاء الشرعية على المظالم. ولذلك، فقد أفضى قانون النكبة كذلك إلى تقييد حقوق الأقلية الفلسطينية وحدود الخطاب الجماهيري.

كلمة "نكبة" بالعبرية ازدادت على "جوجل"!

يشير إيتان برونشطاين مدير جمعية ذاكرات- زوخروت الناشطة لإبقاء النكبة كحدث وأثر ونتيجة، ماثلة أمام أعين الإسرائيليين (مقال في أيار 2016) إلى أنه حتى العام 2002، لم يظهر البحث عن كلمة نكبة باللغة العبرية على محرك البحث "جوجل" إلا بعض النتائج القليلة.

وتغير الأمر بدرجة كبيرة نتيجة أحداث الانتفاضة الثانية حيث "استوعب آلاف الإسرائيليين اليهود في أعقاب هذه الأحداث ماهية الدولة اليهودية: العرب، لمجرد تعريفهم، لا يستطيعون أن يكونوا مواطنين كاملين في هذه الدولة. هؤلاء اليهود انفصلوا، بدرجة أو بأخرى، عن الصهيونية التي غرست فيهم منذ الطفولة كأمر مفروغ منه. منذ ذلك الحين، يصرح عدد غير قليل من اليهود في إسرائيل، بشكل علني ودون خجل، عن كونهم غير صهيونيين أو معادين للصهيونية"، كما كتب.

ويتابع برونشطاين: "التعاطي مع النكبة بالعبرية ازداد رويداً رويداً. بمساعدة ذاكرات كتبت بالعبرية روايات تتحدث بانفتاح عن النكبة وعن مسؤولية الإسرائيليين عنها وتصدرت بعضها قائمة الكتب الأكثر مبيعاً (مثل "عزبة دجاني" و"أربعة بيوت وشوق"). بالإضافة، قامت دار النشر أندلس بإصدار ترجمة عبرية لرواية الياس خوري "باب الشمس" التي تتحدث عن النكبة. ربما لم تدخل هذه لقائمة الكتب الأكثر مبيعاً ولكنها حصلت على الكثير من الاهتمام".

النكبة أشبه بسرداب يحاول أسير العقيدة الصهيونية مغادرته

أحد المثقفين الإسرائيليين أسماها مرة "الخطيئة الكبرى". والخطايا الكبرى تلاحق مرتكبيها لأنها لا تزول، بل تستقرّ في صُلب الذاكرة. فالنكبة في ذاكرة الفلسطينيّ جرحٌ مفتوح على الماضي، ومنه على الحاضر والمستقبل. وهو جرح يستحيل معه العيش الطبيعي مع استمرار نزيفه الشعوري والمعنوي، فتصبح النكبة استصراخاً دائماً للشفاء، يدفع على الفعل وعلى البوح وعلى الاستنطاق، الفردي والجماعي.

لكن النكبة لدى أسير العقيدة الصهيونية أشبه بسرداب يحاول مغادرته، خائفاً من النظر في محتواه. المعضلة أن هذا سيعني محو قصة "الانتصار". كي تتواصل أسطورة الانتصار الصهيونية يجب أن يظلّ الطرف المهزوم ماثلاً في احتفال النصر مطأطئ الرأس. فرغم كل شيء لا يمكن للمنتصر إلغاء ضحيته، لأنه عندها سيفقد القصة والمعنى.

 

المصطلحات المستخدمة:

بنيامين نتنياهو, هآرتس, الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات