المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تعريف:

لا يزال مشروع "قانون الجمعيات" (أو "قانون الشفافية"، "قانون وسم الجمعيات") يثير جدلا عاصفا في إسرائيل، على خلفية ما يحمله من تضييق حاد جدا على جميع جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان الناشطة في إسرائيل، والتي يسميها أصحاب مشروع القانون وأنصارهم من اليمين الإسرائيلي "منظمات اليسار المتطرف" (اقرأ مادة تفصيلية عنه في عدد "المشهد الإسرائيلي" ـ 5/1/2016)! وقد كان من المقرر أن يُطرح مشروع القانون الجديد على الكنيست للتصويت عليه بالقراءة الأولى مساء أمس الاثنين، لكن الأمر تأجل "نظراً لكثرة مشاريع القوانين المطروحة للتصويت"!

وننشر هنا ترجمة حرفية لمقال حول مشروع القانون هذا كتبها إيرز تدمور أحد مؤسسي حركة "إم ترتسو" اليمينية المتطرفة وأحد قادتها، يوضح فيه رؤية اليمين الجديد بشأن ما يسميه "حاجة إسرائيل" إلى هذا القانون. ونشر هذا المقال يوم 25/1/2016 في موقع "ميدا" اليميني، الذي يشغل تدمور وظيفة أحد المحررين فيه:

اليسار الإسرائيلي يمقت قانون الجمعيات. يمقته جدا إلى درجة أنه يلجأ إلى أية وسيلة ممكنة في العالم لتصويره بأنه قانون غير ديمقراطي. في اليسار، قلقون من احتمال نشر مقالات في الصحافة الأجنبية لا تعرض القانون بكونه ملاحقة لمنظمات حقوق الإنسان. في اليسار، يستغلون العلاقات مع الحزب الديمقراطي للفوز ببيانات تصدر عن عناصر في الإدارة الأميركية ضد مشروع القانون. وفي اليسار، يهددوننا بأنه إذا ما تجرأنا على الكشف عن التمويل السخي الذي تحصل عليه تنظيماته من حكومات أجنبية، فسيعود الأمر بالضرر على مكانة إسرائيل في العالم. وفي اليسار، ثمة شيء واحد فقط لا يفعلونه. إنهم لا يكلفون أنفسهم عناء تقديم تفسير موضوعي بشأن رفضهم مشروع القانون وبشأن مشروعية التمويل الضخم الذي يحصلون عليه من حكومات أوروبية أجنبية.

ونظرا لأن اليسار يتجنب، بكل الطرق الممكنة، خوض نقاش جدي حول الموضوع، فها نحن نعرض هنا ـ مرة أخرى ـ الأسباب المركزية التي تجعل قانون الجمعيات الحالي أقل حتى من الحد الأدنى الضروري من أجل مواجهة الأبعاد الهائلة التي بلغها التخريب السياسي الأجنبي في أعماق الديمقراطية الإسرائيلية.

كيف يؤثر الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على إسرائيل بواسطة التنظيمات اليسارية؟

تستعين الحكومات الأوروبية بتنظيمات اليسار الإسرائيلي لدفع مصالحها في المنطقة. هذه التنظيمات تستخدم جميع الوسائل والأدوات المتاحة لمواطني الدولة بغية التأثير على عملية صنع القرارات فيها. فهي تبادر إلى تنظيم حملات سياسية، تتقدم بالتماسات إلى المحاكم وتنشط من خلال وسائل الإعلام لدفع أجندات مرسِليها ومصالحهم.

وهكذا، تحظى حكومات أوروبية بتمثيل من جانب هيئات قوية جدا تنشط في داخل إسرائيل بغية تغيير سياستها في الاتجاه الذي ينسجم مع تطلعاتها. فالالتماسات العديدة التي تتقدم بها تنظيمات مثل "جمعية حقوق المواطن"، "يش دين" و"بتسيلم" إلى المحكمة العليا في قضايا أمنية وسياسية، مثل مسار جدار الفصل، الاغتيالات، الحصار على غزة، الموقف من المتسللين وغيرها، تعبر أفضل تعبير عن الطريقة التي تؤثر الحكومات الأجنبية بواسطتها على السياسة الإسرائيلية.

والحديث يجري هنا عن مبالغ طائلة جدا: فتنظيمات اليسار المتطرف تحصل على مبالغ طائلة جدا من حكومات أوروبية أجنبية. وكانت منظمة "NGO مونيتور" قد كشفت قبل أسبوعين أنه بين الأعوام 2012 و 2014، حصلت تنظيمات اليسار على تبرعات بلغت قيمتها نحو 261 مليون شيكل، كان نحو 170 مليون شيكل منها من حكومات أجنبية.

التمويل الحكومي الأجنبي لجمعيات سياسية يمسّ بالسيادة

في العلاقات بين الدول، من المتبع أن تدخل دولة في ما يحصل لدى دولة أخرى يتم بالوسائل والطرق الدبلوماسية. لكن تمويل منظمات مدنية في دولة أخرى يشكل التفافا على الدبلوماسية، ما يؤدي إلى تغلغل تأثير الدول الأجنبية إلى داخل المجتمع المدني في تلك الدولة نفسها ـ بواسطة جهازها القضائي، وسائل إعلامها والأخطر ـ منظومتها السياسية. فبدلا من إجراء اتصالات دبلوماسية وسياسية مع حكومة إسرائيل المنتَخَبة، توظف الدول الأوروبية والولايات المتحدة مبالغ طائلة من الأموال في تنظيمات إسرائيلية تنشط من أجل التأثير من الداخل على سياسة الحكومة، على الرأي العام في إسرائيل وعلى مكانة إسرائيل في العالم.

وعلاوة على هذا، ليس ثمة طريقة للمس بصورة إسرائيل وعزلها أكثر نجاعة من جعل آلاف الإسرائيليين يشهّرون بدولتهم في الحلبة الدولية. الميزانية الأجنبية التي تتوفر لتنظيمات اليسار المتطرف تتيح لها العمل كرأس حربة في الدعاية المعادية لإسرائيل. في كل مرة تُطالـَب فيها حكومات أجنبية ومنظمات معادية بالرد على الادعاء بأنها تستخدم معايير مزدوجة حيال إسرائيل، يأتي ردّها بأن لا مكان للتوجه إليها بالاعتراض لأن الأمر يتعلق بانتقادات شرعية مصدرها تنظيمات إسرائيلية ومتحدثون إسرائيليون.

وهكذا، أدركت الحكومات الأوروبية أنه بدلا من إصدارها هي بيانات وتصريحات ضد سياسة إسرائيل، من الأفضل لها تمويل تنظيمات إسرائيلية تقوم هي باتهام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب، بالتمييز أو بدوس حقوق الإنسان. وبدلا من تشغيل موظف دعاية أوروبي يفتقر إلى المصداقية، تجند الدول الأوروبية آلاف الإسرائيليين الذين يشهّرون بدولة إسرائيل في أنحاء العالم ويحصلون، في المقابل، على رواتب دسمة ودعوات لحضور مؤتمرات معادية لإسرائيل. هذه ليست ديمقراطية. هذا تخريب سياسي.

تخيلوا أن تقوم إسرائيل بتقديم الدعم لمنظمات إسبانية تدعو إلى استقلال إقليم الباسك أو عزل إسبانيا في الحلبة الدولية. تحيلوا سيناريو تقوم حكومة إسرائيل فيه بتحويل أموال إلى تنظيمات إيرلندية تلاحق مسؤولين بريطانيين كباراً في أنحاء العالم. لقد كان في وسع ذلك أن يثير عاصفة دبلوماسية هوجاء وأن يدفع إسبانيا وبريطانيا إلى التهديد باستدعاء سفيريهما، حتى نشر اعتذار رسمي عن تدخل إسرائيل غير المشروع في شؤونهما الداخلية، وبحق.

التمويل الحكومي الأجنبي لجمعيات سياسية يمس بالديمقراطية

يقوم النظام الديمقراطي على مبدأ أساس: مواطنو الدولة هم أصحاب الصلاحية والحق في صياغة وجه دولتهم، صورتها، وفي تقرير مصيرهم. والمواطنة تمنح مواطني الدولة الحق في المشاركة في انتخاب السلطة، ثم التأثير من خلالها على عملية صنع القرارات. أما الجانب الآخر لحق المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية والتأثير عليها، فهو التزام المواطن بتقبل القرارات الديمقراطية، حتى لو كانت مخالفة لرأيه وحتى لو وجد نفسه في موقع الأقلية. أنصار اليمين يذهبون إلى التصويت ويتقبلون قرار الناخب، سواء فاز اليمين أو اليسار. والعكس صحيح. إننا في القارب نفسه معاً، نتخذ القرارات ونتقبلها وفق القواعد ذاتها، ونتحمل نتائج قراراتنا، كمجموع، بحلوها ومرها.

السبب الأساس لكون هذا التمويل الحكومي الواسع الذي تقدمه حكومات أوروبية أجنبية لتنظيمات اليسار المتطرف مرفوضا من وجهة ديمقراطية، هو بسيط جدا: مواطنو السويد، ألمانيا أو النرويج لا يتحملون النتائج والإسقاطات السياسية المحتملة في حال نجحت تلك التنظيمات المتطرفة في فرض موقفها. الذين سيتفجرون في الباصات، في حال نجحت "السلام الآن" و"بتسيلم" في فرض مواقف مرسِليهما من أوروبا على المجتمع الإسرائيلي، لن يكونوا مواطني ألمانيا أو السويد. والذين سيعرّضون حياتهم للخطر بينما أيديهم مقيدة وراء ظهورهم، في أعقاب نشاطات "لنكسر الصمت"، لن يكونوا شبانا دنماركيين، نمساويين أو إيرلنديين، بل إسرائيليين.

حينما تنشط تنظيمات اليسار المتطرف في خدمة حكومات أجنبية وبتمويل منها فإنما تسحب البساط من تحت الاتفاق الديمقراطي الذي ينص على أننا، نحن المواطنين، نقرر مستقبلنا معاً، وبدلا من ذلك فهي تضع جزءا من هذه القدرة على صياغة مستقبل إسرائيل في أيدي حكومات أجنبية ذات مصالح غريبة.

لماذا يجب وسم تنظيمات تحصل على تبرعات من أجانب أو من صناديق خاصة في الخارج؟

الحلبة الدولية، كما السياسة الداخلية، تقوم على التبادلية والمساواة. فالدول تحترم سيادة بعضها بعضاً وتقيم اتصالات مع دول أخرى، تتمتع ـ هي أيضا ـ بالسيادة على أراضيها وبحصرية تمثيل سياساتها تجاه الخارج. لكن الحال تختلف بالنسبة للمواطنين الأفراد، الذين يمثلون مصالح وتطلعات شخصية، فردية. وطالما أن الأمر لا يتعلق برعايا دولة عدو، فمثلما يحق لمواطني أية دولة أجنبية إدارة أعمال تجارية في إسرائيل، كذلك أيضا ليس ثمة سبب يدعو إلى منعهم من القيام بنشاطات أيديولوجية. المواطن الأوروبي، أو الأميركي، الذي يرغب في التأثير على صورة إسرائيل ـ لأي سبب كان ـ من حقه القيام بذلك من خلال تقديم التبرعات إلى سياسيين، إلى تنظيمات ومعاهد أبحاث. وبالدرجة نفسها، يستطيع مواطنو إسرائيل، الذين يتمتعون بأبواب مفتوحة للنشاط في دول صديقة، ممارسة التأثير على صناع القرارات في دولة أجنبية، بوسائل وطرق مختلفة. هكذا تبدو التبادلية في العلاقات.

التنظيمات اليسارية قائمة، بصورة مكثفة وكبيرة جدا، على تبرعات من دول، وليس على مبادرات شخصية فردية. وبهذا، فهي تنتهك قواعد أساس في المجتمع المدني وتشوّش العملية الديمقراطية.

في اليسار يدّعون بأنه قانون مخادع سيسري على التنظيمات اليسارية فقط

هذا كذب، مرة أخرى. سيسري القانون على جميع الجمعيات، من اليمين ومن اليسار. أي تنظيم يميني يحصل على تمويل من دولة أجنبية في المستقبل، سيضطر إلى تلبية المعايير والشروط ذاتها المُلزِمة للتنظيمات اليسارية. وحقيقة أنه في الواقع القائم الآن، تنظيمات اليسار فقط هي التي تحظى بتمويل حكومات أجنبية، فيها ما يدعو إلى التنديد بالتنظيمات اليسارية، لا بمشروع القانون.

لماذا يثور اليسار ضد القانون ويعتبره حملة ملاحقة؟

لأن الحديث يدور حول امتياز غير ديمقراطي، يُقدر بمئات ملايين الشواكل، يمنح اليسار المتطرف قوة سياسية كبيرة وتأثيرا هائلا. فاليسار يعارض، بصورة طبيعية: وسم التنظيمات بأنها "عملاء أجانب" من شأنه المس بمصداقيتها وتشويش مسارات التعاون العديدة بينها وبين هيئات يسارية مختلفة. فـ "الصندوق الجديد لإسرائيل"، مثلا، يدرك أن التماسا إلى المحكمة العليا تحت عنوان "حكومة السويد ضد حكومة إسرائيل" لن يكون ناجعاً مثل التماس تحت عنوان "جمعية حقوق المواطن في إسرائيل ضد حكومة إسرائيل". وهو ("الصندوق") يرغب في الإبقاء على الوضع القائم حاليا.

ومن يرغب في فهم سبب عدم قدرة بوجي (إسحاق) هرتسوغ على التنديد بـ"لنكسر الصمت"، عليه أن يفهم أولاً أن الميزانيات الطائلة التي تتدفق من حكومات أوروبا هي أحد الأسباب المركزية وراء ازدياد التطرف لدى اليسار.

وهكذا يجدر بنا أن نفهم، أيضا، معارضة "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، الذي كان يعتمد في الماضي على تبرعات شخصية بالأساس، لكنه بدأ يتمتع في السنوات الأخيرة بمنح سخية من الاتحاد الأوروبي (5 ملايين شيكل في السنوات 2013- 2015). وللأسف الشديد، يشكل التمويل من الدول الأجنبية قناة الأوكسجين الأساسية لأجزاء واسعة من اليسار الإسرائيلي، التي تعتبر السعي إلى اعتماد الشفافية، واجب التقرير والوسم في كل ما يتعلق بهذا التمويل، تهديدا للامتياز الذي يمنحها قوة سياسية كبيرة.

التنظيمات اليسارية ومتحدثوها المختلفون هم الذين يصنفون مشروع القانون بأنه غير ديمقراطي وهم الذين يقدمون التقارير لعناصر في وسائل الإعلام الأجنبية وفي حكومات أجنبية ضد مشروع القانون. إنه نمط معتمد في نشاطها يميز العالم السفلي ويذكّر بجباة "رسوم الوصاية" الذين يهددون ضحاياهم من مغبة تقديم شكاوى إلى الشرطة. التنظيمات اليسارية تعمل بصورة مرفوضة في خدمة مصالح أجنبية، وحينما يعترض المجتمع الإسرائيلي على ذلك ويتحرك للكشف عن نشاطها هذا ـ تنهال بالتهديد بأنه إذا ما تجرأنا على فعل ذلك، فستمسّ هي بمكانة إسرائيل في العالم.

ليس صدفة، إذن، أن وزارة الخارجية الأميركية تعبر عن قلق في الموضوع وهنالك تلميحات واضحة من جهة أوروبا.

إنه إثبات آخر على أهمية القانون وضرورته: الدول الأجنبية التي تدير في داخل إسرائيل شبكة واسعة من التنظيمات "المدسوسة" تدرك أن التشريع في هذا المجال سيشوش نشاطها ويحد منه. الولايات المتحدة وأوروبا تمارسان كل ما في وسعهما من قوة وتأثير من أجل لجم قانون الجمعيات، كي لا تفقدا تأثيرهما السهل، بما ينطوي عليه ذلك من تدخل فظ وغير مسبوق في شؤون إسرائيل الداخلية. صحيح أن في دولة إسرائيل تشريعات غير قليلة تشكل موضع خلاف جماهيري، لكن من النادر أن تصل إلى حد تسجيل ملاحظات من جانب سفير الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي. ومن هنا، فإن الاستنتاج واضح تماما: كما التنظيمات اليسارية ذاتها، كذلك الدول المموِّلة، تجد نفسها في حالة ضغط شديد لأن القانون سيشوّش نشاطها. ولئن كان طرف واحد ما في حاجة إلى دليل آخر على حيوية القانون وإلحاحيته، فقد حصل عليه من سفير الولايات المتحدة.

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, بتسيلم

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات