تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.

نجح الائتلاف الحاكم برئاسة بنيامين نتنياهو، في آخر أيام الدورة الشتوية للكنيست، التي انتهت في منتصف آذار الماضي، في تأجيل أزمة تجنيد شبان المتدينين المتزمتين الحريديم في الجيش. ومن شأن هذه الأزمة أن تتفجر بقوة أكبر خلال الدورة الصيفية، إلا إذا حصلت الحكومة على اذن من المحكمة العليا بتأجيل الموعد النهائي لسن قانون جديد. إلا أن

الاحصائيات التي تتكشف تباعا عن أعداد شبان الحريديم، ونسبتهم من سائر الشبان اليهود، تؤكد أن القلق المؤسساتي الإسرائيلي ليس على ضمان فرض القانون، وضمان زيادة صفوف العساكر، وإنما على طبيعة المجتمع الإسرائيلي مستقبلا، والسعي لتحطيم جدران مجتمع الحريديم.

وكما هو معروف، فإن المحكمة العليا الإسرائيلية قضت، في منتصف أيلول 2017، ببطلان القانون الذي أقره الكنيست في خريف العام 2015، الذي ألغى قانونا أقر في منتصف 2014. والقانون الذي الغته المحكمة يقضي بإعفاء واسع جدا لشبان الحريديم، من الخدمة العسكرية، على أن يسن الكنيست قانونا آخر، حتى عام من يوم قرار المحكمة، بمعنى منتصف أيلول المقبل، وهذا يعني حتى انتهاء الدورة الصيفية في منتصف تموز المقبل.

والمعركة على سريان قانون التجنيد الالزامي على شبان الحريديم الذكور، بدأت تحتد في أوائل سنوات التسعين. فمنذ العام 1948، وبمبادرة دافيد بن غوريون، حصل الحريديم على اعفاء جارف من الخدمة العسكرية الإلزامية، في سعي الصهيونية والمؤسسة الحاكمة لتقريب الحريديم الرافضين للصهيونية إلى الحكم، إذ أن طوائف كبيرة من الحريديم رفضت الصهيونية وقيام إسرائيل، وهم حاليا قلة في إسرائيل (5% من الحريديم وفق التقديرات)، ولكن اعدادهم الكبيرة موجودة في دول العالم الأخرى، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.

لكن في بدايات إسرائيل كانت أعداد الحريديم هامشية، ولهذا لم يتم الالتفات لهم. وفي نهايات سنوات الثمانين، وبدايات سنوات التسعين، بدأت المؤسسة الحاكمة، والجمهور الإسرائيلي ككل، يشعران بأن أعداد الحريديم تتعاظم بوتيرة عالية، وامتناعهم عن الخدمة العسكرية بدأ ينعكس بشكل كبير على نسبة المجندين سنويا للخدمة الإلزامية. وكلما تقدمت السنون استفحلت هذه الظاهرة، خاصة وأنه في السنوات الأخيرة أظهرت استطلاعات أن 30% من المواليد في إسرائيل هم من الحريديم، وهذا يعني 5ر36% من مواليد اليهود وحدهم. وهو انعكاس لنسبة التكاثر العالية جدا لدى الحريديم- 8ر3%، مقابل حوالي 3ر1% لدى جمهور العلمانيين، و8ر2% لدى التيار الديني الصهيوني. وفي السنوات القليلة الأخيرة، بدأ "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" في اصدار تقرير سنوي حول الواقع الاجتماعي الاقتصادي لدى الحريديم وحدهم. وهذا رصد نابع أيضا من القلق على مستقبل المجتمع الإسرائيلي ككل، الذي ستكون غالبية اليهود فيه بعد أقل من 20 عاما من المتدينين على مختلف تياراتهم، ويجري الحديث حول 51% من مجمل السكان، وحوالي 63% من اليهود وحدهم.

ويقول تقرير المعهد، الصادر في اليوم الأخير من العام الماضي، إن عدد الحريديم بلغ مليون نسمة، وهذا يعني نسبة 12% من السكان من دون القدس والجولان، وحوالي 2ر15% من اجمالي اليهود الإسرائيليين وحدهم. وهناك أبحاث أخرى تتوقع أن عددهم أعلى بقليل، بشكل يقرّبهم من نسبة 13% من اجمالي السكان، و16% من اليهود وحدهم.

وحسب تقرير المعهد، فإن نسبة الحريديم من اجمالي السكان ستصل في العام 2030 إلى 16%. وفي العام 2065 سيشكلون نسبة 33% من اجمالي السكان و40% من اليهود وحدهم. وبموجب التقرير ذاته، فإن عدد طلاب مدارس الحريديم في العام الدراسي الجاري، بلغ 300 ألف طالب، وهؤلاء يشكلون 18% من اجمالي الطلاب. وبالإمكان القول إن نسبة طلاب الحريديم في الصفوف الابتدائية الدنيا أعلى من النسبة العامة للطلاب. ورغم ذلك فإن المعهد يقول إن وتيرة زيادة الطلاب الحريديم السنوية انخفضت في السنوات القليلة الماضي من 2ر4% إلى 2ر3%.

وهذه التقديرات تتعزز بإحصائيات جديدة ظهرت في الأيام الأخيرة، حول أعداد الشبان الحريديم، الذين بلغوا 18 عاما في العام الجاري، ومن المفترض أن يسري عليهم القانون. ووفق احصائيات نشرتها صحيفة "كالكاليست" وحصلت عليها من الجيش، بعد توجه للمحكمة، فإن عدد الشبان الذكور من الحريديم، الذين بلغوا 18 عاما هذا العام، كان 11800 شاب، وهذا يعني أن عدد الشبان والشابات من ذات التيار وذات العمر، بلغ هذا العام ما يزيد عن 23 ألف شخص، وهؤلاء شكلوا 23% من مواليد اليهود في العام 2000، ونسبة 5ر17% من اجمالي المواليد، من دون مواليد القدس والجولان. ويذكر هنا أن قانون الخدمة العسكرية الإلزامية يعفي أصلا كل فتاة يهودية تعلن أنها متدينة، بغض النظر عن تيارها الديني.

وتقول الصحيفة إن عدد الشبان الحريديم، الذين طلبوا تأجيل الخدمة العسكرية أو الخدمة المدنية، بموجب القانون القائم، بلغ 37200 شاب، حتى عمر 24 عاما، وهذا عدا آلاف الشبان الذين حظوا أصلا بإعفاء فوري، كونهم طلاب معاهد دينية معترف بها، ويحصلون على مخصصات.

ما وراء الأرقام وحكاية التجنيد

يُعد الجيش الإسرائيلي أحد الجيوش الأكثر تطورا في العالم، وهو ليس بحاجة لأعداد ضخمة زيادة على ما لديه، نظرا لاعتماده على التقنيات العالية. وبالإمكان الافتراض أن تدفق 12 ألف جندي، أو منخرط في ما يسمى "الخدمة المدنية"، سيزيد مصاريف الجيش. إلا أن الحكاية الأساسية في هذا الملف هو سعي المؤسسة الحاكمة، وبتوصيات جهات واضعي الاستراتيجيات العليا، إلى اسقاط جدار مجتمع الحريديم العالية، وجذب غالبيتهم إلى العالم المفتوح، لانخراطهم في الاقتصاد، كمنتجين ومستهلكين، ما يقود بالتالي إلى اخراجهم من دائرة التشدد الديني الذي يهدد المجتمع العلماني، كلما ارتفعت نسبتهم، خاصة بين اليهود وحدهم.

وكما هو معروف، فإن الحريديم يعيشون في مجتمعات منغلقة على ذاتها، ويتبعون حياة تقشفية، بعيدة عن الكثير من مظاهر التطور العصري ومواكبته. ونظرا لعدم انخراطهم بنسبة كافية في سوق العمل، وكثرة الأولاد في العائلة الواحدة، فإن نسب الفقر عندهم تصل إلى حوالي 5 أضعافها بين اليهود وحدهم. وأشارت سلسلة من الأبحاث الاقتصادية، ومنها في بنك إسرائيل المركزي، إلى أن عدم انخراط الحريديم الكافي في سوق العمل، وكونهم قوة شرائية ضعيفة ومحدودة، ينعكس سلبا على وتيرة النمو الاقتصادي، وأنه كلما ارتفعت نسبتهم بين السكان، فإن التأثير على النمو سيكون أكبر.

ونشير هنا إلى أن تقرير "معهد الديمقراطية" ذاته يشير إلى أن كل المعطيات الاجتماعية، وخاصة في التعليم، في اتجاه الارتفاع. فمثلا نسبة طلاب المدارس الذين يتجهون إلى امتحان الوزارة النهائي "البجروت"، الذي يوازي التوجيهي، ارتفعت في السنوات الأخيرة من 23% إلى 33%، في حين أنها في جهاز التعليم العام تفوق 85%. لكن تقريرا آخر لمكتب الإحصاء المركزي كان قد أشار إلى أن نسبة الرجال المنخرطين في سوق العمل انخفضت في العام الماضي 2017، من 54% قبل ثلاث سنوات، إلى 51%، وأن الانخفاض مستمر.

ويعي قادة الحريديم تماما هدف المؤسسة الحاكمة من فرض الخدمة العسكرية على شبانهم، وهذا ما يزيد أكثر من حدة معارضتهم لفرض التجنيد الكامل. وفي داخل الحريديم أربع مجموعات رئيسية بارزة هي:

*الحريديم من طائفة ساتمر، وطائفة ناطوري كارتا، وهاتان ترفضان الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، وغالبيتهم الساحقة لا تحمل جواز سفر إسرائيليا، وبحوزتها بطاقة مقيم، بمعنى ليس الجنسية الكاملة، وهؤلاء خارج نطاق الخدمة العسكرية الإلزامية.

*ثانيا ما يسمى "التيار اليروشالمي"، وهؤلاء سياسيا يعترفون بالكيان، وكانوا حتى سنوات سابقة يشاركون في الانتخابات البرلمانية ضمن تحالف يهدوت هتوراة الأشكنازي، لكنهم امتنعوا عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة، وهم من يقودون الصدام الميداني الذي تكاثر في الأشهر الأخيرة، رفضا للخدمة العسكرية.

*الجمهور الأكبر هو الحريديم الأشكناز، التابعون للطوائف والتيارات المشاركة في التحالف البرلماني الأشكنازي يهدوت هتوراة، وهؤلاء يبحثون عن حل يتضمن أدنى ما يكون من أعداد لشبان الحريديم ضمن الخدمة العسكرية، وبالإمكان التقدير أنهم سيفضلون الخدمة المدنية.

*ثم الجمهور الثاني من حيث الحجم، هو جمهور الحريديم الشرقيين، بزعامة حركة شاس، وهؤلاء أقل تشددا في رفضهم للخدمة العسكرية، وعدد من نوابهم على مر السنين كانوا قد خدموا في الجيش، ولكنهم يشاركون كتلة يهدوت هتوراة في ضغطها على الائتلاف الحاكم، لإنجاز قانون أقرب إلى ما تطلبه هذه الكتلة.

اللافت في هذه القضية أن مجموعات بين الحريديم باتت تبحث عن شراكات ميدانية لمناهضة الخدمة العسكرية، وحتى وصل الأمر لدى بعضهم لعقد لقاءات مع مجموعة من الشيوعيين اليهود، في مقر الحزب، في القدس الغربية، وفق ما ورد في تقرير مطول لصحيفة "هآرتس"، في سعي لتبادل الخبرات، خاصة مع حركة "رافضات" التي تأسست قبل نحو ثلاث سنوات، دعما لرافضات ورافضي الخدمة العسكرية لدوافع ضميرية.

احتمالات تغيير القانون

تضغط كتلتا الحريديم، يهدوت هتوراة وشاس، وبالذات يهدوت هتوراة، من أجل إنجاز قانون من شأنه أن يخفف كثيرا من وطأة السريان الجارف لقانون الخدمة العسكرية. وحتى العام الجاري تبين أن نسبة المجندين الحريديم في الخدمة العسكرية أو المدنية، من الشبان وحدهم، بلغت 24% بدلا من 27%، بحسب هدف وضعته الحكومة سابقا.

وأحد المسارات التي يطلبها الحريديم هو جعل التدين، وبالذات الدراسة في المعاهد الدينية، قيمة عليا، قادرة على الغاء الالتزام بالخدمة العسكرية، وهذا مطلب يلقى معارضة واسعة في الحكومة والكنيست، كونه سيكون فاتحة لحق رفض الخدمة العسكرية لأسباب ضميرية، وهو ما ينادي به مناهضو الاحتلال الإسرائيلي.

ولا توجد في حكومة نتنياهو أغلبية واضحة وثابتة لتمرير قانون يخفف من قانون الخدمة العسكرية للحريديم، بسبب معارضة كتلة "يسرائيل بيتينو" بزعامة وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان. كما أن عددا من نواب الكتل الأخرى، وخاصة من حزب "كلنا" بزعامة وزير المالية موشيه كحلون، سيرفضون قانونا كهذا، ما يعني أنه لن تكون أغلبية للقانون.

وأمام هذا الوضع سيقف الحريديم أمام خيارين: إما القبول بحل وسط، لن يرضي قيادات الحريديم وسيؤجج الصراع في داخل مجتمع الحريديم، أو أن تختار الكتلتان، وبالذات يهدوت هتوراة، مغادرة الحكومة، ما يعني فقدان حكومة نتنياهو الأغلبية، وهو ما سيؤدي إلى انتخابات مبكرة. وهذا احتمال وارد خلال الدورة الصيفية.

لكن الانتخابات الجديدة لن تنهي الأزمة، بل ستدحرجها نحو الحكومة المقبلة، وهنا سيخاطر الحريديم بأن يكونوا خارج الائتلاف الحاكم، وهذا أيضا احتمال وارد.

والسيناريو الآخر المفترض هو أن تتوجه الحكومة بطلب إلى المحكمة العليا لمنحها بضعة أشهر أو عام آخر، حتى يتم سن القانون، على أن يستمر الوضع القائم. وليست واضحة فرص طلب كهذا، لكن إذا حصل، فإنه يدحرج الأزمة لتنفجر مستقبلا بشكل أكبر، وينعكس هذا على تأجيج الصراعات في المجتمع الإسرائيلي ككل.