المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
Oslo..  فيلم يحكي قصة زوجين نرويجيين قادا مفاوضاتٍ سرية لإنجاح اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والاسرائيليين..
Oslo.. فيلم يحكي قصة زوجين نرويجيين قادا مفاوضاتٍ سرية لإنجاح اتفاقية أوسلو بين الفلسطينيين والاسرائيليين..

قريباً من نهاية فيلم (Oslo, 2021)، للمخرج الأميركيّ بارتليت شير، وإنتاج المخرج الأميركيّ الدّاعم للصهيونيّة، ستيفن سبيلبرغ، والذي يَروي قصَّة الأحداث التي أدّت في النّهاية إلى توقيع اتّفاق أوسلو بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة وبين إسرائيل، يأتِي مشهَدٌ فيهِ كلٌّ منْ شمعون بيريس (وزير الخارجيّة الإسرائيلي آنذاك)، وتيري لارسن (العاملُ في معهد فافو النرويجيّ)، ومونا جول (المسؤولة في الخارجيّة النرويجيّة آنذاك وزوجة تيري لارسن)، ويوهان هولست (وزير الخارجيّة النرويجيّ آنذاك)، جَميعهم في غُرفةٍ في القصر السويديّ الملكيّ في ستوكهولم على اتّصال هاتفيٍّ مع أحمد قريع (أبو علاء)، والذي يُفترَضُ أنّه كانَ في غُرفَة في تونس تضمُّ الرئيس ياسر عرفات وبقيّة أعضاء اللجنة التنفيذيّة لمنظّمة التحرير الفلسطينية، والمُفاوضاتُ التي كانت تجري على مدى أربعةِ شهورٍ مُتوقِّفةٌ في تلك اللحظة على تفصيلين رئيسَين وهُما: مستقبل مدينة القُدس، واعترافُ إسرائيل بمنظَمة التحرير "صوتاً رسمياً للشعب الفلسطينيّ"، واعتراف المنظّمة في المقابل بـ "شرعيّة دولة إسرائيل وحقّها في الوجود"! يقفُ بيريس برداء النّوم ويُصرُّ على رفضِ مُناقشة مستقبل القُدس وحقِّ إسرائيل بفرضِ سيادتها

عليها كعاصمة موحّدة لإسرائيل، والمُفاوضات التي استمرّت لأربعة أشهرٍ توشك على الانهيار تماماً، ولكن، ثمّة حلٌّ سحريّ في جُعبة تيري لارسن من الوفد النرويجيّ، والذي يهمِسُ في أذنِ بيريس قبل خروجه من الغُرفةِ شيئاً لا نسمعهُ، ولكن لا بدّ أنّه كان شيئاً مثل: "دع مسألة القُدس للمفاوضات المستقبليّة". يعودُ بيريس ويقول: "من أجل الغُموض البنَّاء، سنترك مسألة القُدس لتُحدَّد مستقبلاً من خلال المفاوضات الثنائيّة"، فيقولُ قريع الذي ينتظر على الهاتف: "ونحنُ نعترف بشرعية وجود دولة إسرائيل"، فيردُ بيريس قائلاً: "ونحنُ نعترف بمنظّمة التحرير صوتاً رسمياً للشعب الفلسطيني"، وأخيراً يقول قريع: "نحن نقبل الاتفاقية"، فيُجيبُ بيريس بالمثل ويمشي ليخرج من الغُرفة قبل أن يوقفهُ صوتٌ غريبٌ يصدُرُ من سمّاعة الهاتف، كان صوتاً أقربُ إلى صوتِ عويلٍ، وهمهمةٍ وبُكاء. "أبو علاء، ما هذا الصّوت؟"، يسألُ لارسن النرويجيّ، فيُجيبهُ أبو علاء: "إنّهم يبكون، جميعهم، لم يتخيّلوا أبداً أن يعيشوا ليروا هذا اليوم"!

الطّريق إلى "أوسلو"

في لقائه الأوّل مع يوسي بيلين، نائب وزير الخارجيّة الإسرائيليّ آنذاك، يُقدِّمُ تيري لارسن نموذجه التفاوضيّ القائم على المُحادثة الحميميّة بين أشخاصٍ يوضعون في غرفةٍ واحدةٍ مع بعضهم تُجبرهُم على رؤية الآخر إنساناً وليسَ عدواً؛ أيّ "أنسنَةُ" الآخر العدوّ كأساسٍ للمفاوضات بين أيّ طرفين. يقتنعُ بيلين بنموذجِ لارسن التفاوضيّ، ويُعطِيهِ الضّوء الأخضر غير الرّسميّ للبدءِ بتطبيق نموذجه التفاوضيّ، فتجتمعُ زوجتهُ، مونا جول، المسؤولة في الخارجيّة النرويجيّة، بأحمد قريع في لندن، وتعرض المُساعدة الاقتصاديّة النرويجيّة للشعب الفلسطيني في مُقابل جلوسه على طاولة مفاوضات مُباشرة مع مفاوضٍ إسرائيليّ. بهذا العرض الأوّلي، والذي يُؤسِّسُ لمعالجَة اقتصاديّة للقضيّة الفلسطينيّة، يختصِرُ الفيلم القضيّة الفلسطينيّة في إشكاليّة اقتصاديّة لجماعةٍ من النّاس تعيشُ في منطقةٍ جغرافيّة اسمُها غزّة والضفّة الغربيّة، ويبحَث أفرادها عن دولةٍ تُعالِجُ لهم مُشكلاتهم الاقتصاديّة وتجمَعُ القُمامة والضّرائب الفلسطينيّة.

يلتقِي قريع أوّلاً بالبروفيسور هيرشفيلد، ولاحقاً، يتمّ تنظيم اللقاء السرّي الأوّل بين كلّ من هيرشفيلد ومُساعده، وبين أحمد قريع وحسن عصفور، الذي يظهر في الفيلم ليمثِّل شخصيّة الفلسطينيّ الغاضب والعنيد– والذي سيرقُّ مع مرور الوقت ويبدأ بالضّحِك مع "الإنسان" الصهيونيّ– في قصرٍ نرويجيّ في منطقةٍ نائيّة تضمنُ الخصوصيّة. في ذلك القصر، ستتكرّر اللقاءات بين الوفد الفلسطينيّ الذي يظلُّ محصوراً في قريع وعصفور، والوفد الإسرائيليّ الذي يزدادُ إلى أربعة أفرادٍ من بينهم مستشار الحكومة الإسرائيليّة القانوني جو زينغر ومفاوضٌ من وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة. وبينما تظهرُ الشخصيّات الإسرائيليّة تِباعاً، من يوسي بيلين، إلى المفاوضين الأربعة، وأخيراً ظهور شمعون بيريس، تظلّ الشخصيّة الفلسطينيّة محصورة في شخصيّة حسن عصفور الذي لا يتكلّم كثيراً، وشخصيّة أحمد قريع التي يعرضها الفيلم بأنها أقربُ إلى الكاريكاتوريّة منها إلى الواقعيّة؛ أي الشخصيّة التي تعمَدُ إلى الإضحاك، وتعتمدُ في تمثيلها على الأداء المسرحيّ المُتقلِّب، لتؤكِّد على غَرابة الشخصيّة العربيّة مُقابل طبيعيّة الشخصيّة الإسرائيليّة. فالشخصيّة الإسرائيليّة تظهر مُتفوِّقة، أوروبيّة بلكنتها الإنكليزيّة الطبيعيّة، ومُسيطِرة، عالِمَة ومُدقِّقة، عقلانيَّة، وغير عَنيفةٍ على الإطلاق، وبينما يندفع قُريع وعصفور بين الحين والآخر غاضبَين ليهجُما على المفاوض الإسرائيلي، يظلُّ الإسرائيليّ هادئاً محافظاً على توازنهِ واتّزانه الذهنيّ والجسمانيّ، وبينما تظهر الشخصيّة العربيّة منفعلة، بلكنة إنكليزيّة ركيكة، وجاهلة في بعض الأحيان؛ فالمفاوض الإسرائيليُّ يردُّ على انفعال قريع بسبب سؤاله عمّا إذا كانت السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة ستجمع القمامة والضّرائب من المستوطنات الإسرائيليّة، بالقول إنّكم تطلبون إنشاء حكومة، وهذا ما تفعله الحكومة، تجمع القمامة والضّرائب، ويجب أن نعرف أيّ نوع من الحكومة ستشكِّلون.

لا يستندُ الفيلم إلى مصدر توثيقيّ تاريخيّ لمجرياته، بل يستندُ إلى مسرحيّة "أوسلو" للكاتب الأميركيّ جاي تي روجرز، ولذلك، ليسَت الحَقيقةُ هي الشَّاغِل لهذه المَقالة، بل التّمثيلُ الغربيّ لكلٍّ من الشخصيّة الفلسطينيّة والشخصيّة الصهيونيّة، وهو التّمثيلُ المنحازُ للرواية الصهيونيّة والتمثيل الصهيونيّ للفلسطينيّ. وإضافةً إلى التّمثيل، ثمّة إشكاليَّة الانحياز الأوروبيّ للصهيونيّة، أو على الأقلّ، انعِدامُ الفهم المُطلق المتبوع برغبة اعتباطيّة في "تغيير العالم" لمجرّد الرّغبة في ذلك أو بسبب حادِثةٍ ما. فعند سؤالها عن السّبب الذي يدفعها هي وزوجها لارسن لترتيب هذه اللقاءات بين الوفدَين، قالت مونا إنّها تفعلُ ذلك بسبب حادِثةً حصلت معها وشهدت عليها أثناء وجودها في قطاع غزّة، وكانت بينَ شابٍ فلسطينيّ وجد نفسه أمام جنديّ إسرائيليّ يصوِّبُ نحوه بندقيّته، وللحظةٍ بدت عليهما ملامحُ القلق والتردّد والشّعور بأنَّهُما يرغبان في أن يكونا في أيّ مكانٍ عدا هذا المكان في هذه اللحظة بالذّات. وذلك قبل أن يظهر جنديّ إسرائيليّ آخر ويطلقُ الرّصاص على الفتى الفلسطينيّ ويرديه قتيلاً، وفي تلك اللحظة شعرت بملامح الإحباط والتشوّش على وجه الجنديّ/ الفتى الإسرائيليّ الذي لا يزال يصوّب بندقيّته وهو في حالةٍ من الصّدمة. "العالم نفضَ يديهِ من صراعكما"، تقول مونا للوفدين الفلسطينيّ والصهيونيّ بعد أن وصلا إلى طريقٍ مسدود، وتُكمل: "هذه هي فرصتكما، إمّا الآن أو حرب إلى الأبد، لن يأتي أحدٌ آخر لمساعدتكما، فالعالم نفض يديه من صراعكما لأنّه لا يرى أمَلاً في حلّه".

إذن؛ هي الرَّغبة الأوروبيَّة لزَوجَين أوروبيين نرويجيين يُريدان تقديم يدَ العون والنُصْحِ لشعبَينِ عن طريق وضع أربعةٍ منهم في غرفةٍ مُغلَقةٍ وإجبارهم على التوصَّل إلى اتفاقٍ سلامٍ اقتصاديٍّ وأمنيٍّ بحت "لإنهاء دورات العُنف اللانهائيّ" المستمرّ في تلك البُقعَة الجغرافيّة من العالم التي لا يُشارُ إليها على اللسان الأوروبيّ بفلسطين، بل بإسرائيل أو قطاع غزّة أو أريحا. ضمن هذا المنطق، يُجرِّدُ الفيلم الصّراع من سياقه الاستعماريّ، ويُحوِّلُ قضيّة استعمارٍ إلى مجرّد دورة عنفٍ لانهائيّ لا بدّ من إنهائها اقتصادياً وتنموياً، واحتواءِ العربيِّ الغاضبِ من خلال الاعتراف له بحقِّه في الوجود، ومنحه قطعة أرضٍ صغيرةٍ يحلُمُ بها منذُ عقودٍ ليبني عليها سُلطتهُ الأمنيّة والاقتصاديّة التي يبكِي لأجلها على الهاتف.

هذا المنطق مؤسِّسٌ لتمثيل الشخصيّة الإسرائيليّة بوصفها شخصيّة أوروبيّة مُتحضِّرة و"متورِّطة" في احتلال منطقة جغرافيّة "لا تريدُها أصلاً". فالدَّعاية الصهيونيّة التي ظهرت منذُ بداية استعمار الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة منذ العام 1967، هي أنَّ الاحتلال كان ضرورةٌ لا بدَّ منها للحفاظ على أمن وسيادة دولة إسرائيل، وأنَّ السّلوك الأمنيّ القمعيّ للجيش الصهيونيّ، هو سُلوكٌ يُجبَرُ عليه الجنديّ الصهيونيّ المتفوّق أخلاقياً من قبل العربيّ الهمجيّ الذي يُهاجِمُ المستوطن وينتفضُ بين الحين والآخر ضدّ الاحتلال؛ هو منطِقٌ يمكنُ اختصارهُ بعبارة: "انظُروا ماذا فعلتُم بِنا، لقد حوّلتمونا إلى قتَلة"؛ وهي عبارة قيلت ولا تزالُ تقال بطُرُقٍ مختلفة على اللسان الصهيونيّ الذي يُحمِّل الفلسطينيين مسؤوليّة قتلِهم وتحويلهم الجنود الإسرائيليين إلى قتَلَةٍ بسبب تمرّدهم وعصيانهم.

وهذه هي الدّعاية التي كانت حاضرة في الفيلم؛ أيْ "الأمن مُقابل السّلام"، مُعضِلة رابين بين السّماح لعمّال قطاع غزّة بالعمل في إسرائيل وبين ضرورة تكسير عظامهم لتمرّدهم على الاحتلال، وادّعاء الصهيونيّة التاريخيّ بأنّ الفلسطينيين هم من أجبروا العصابات الصهيونيّة على طردهم ببدئهم الحرب ومهاجمة المستوطنين، وبذلك يسقُطُ حقّ العودة عن الفلسطينيين الذين "خرجوا" من أراضيهم نتيجةً لظروف الحرب، وليس نتيجة لمخطّط تطهيرٍ عرقيٍّ شامِلٍ؛ نُفِّذَ بصورةٍ منهجيّة قبل وخلال وبعد حرب العام 1947-1948.

سينما مديح الصّهيونية

ينتَمي الفيلم إلى سينما هوليوود المادِحة للصهيونيّة؛ وهي السِّينما التي تُراوحُ بين تقديم الإسرائيليّ بوصفهِ بطَلاً وبينَ تقديمهِ بوصفهِ إنساناً متفوِّقاً أخلاقياً على عدوّه الفلسطينيّ والعربيّ الذي تُراوحُ بين تقديمهِ بوصفهِ ساذَجاً مسكيناً وبينَ تقديمه بوصفهِ متطرِّفاً إرهابياً.

لكنّ الفيلم لم يفشَلْ في تمثيل الواقع، فثمَّة اختلافٌ جذريّ بين الفشل في إدراك البنية الاستعماريّة المؤسِّسة للكيان الصهيونيّ والتي تجعلهُ آلَة استيطانيّة ضخمَة تُوظِّفُ كلَّ مكوّناته المجتمعيّة، الثقافية، البشريّة، الأيديولوجيّة والميكانيكيّة لخدمة هذه الآلة، وبين التّفكير الغربيّ بإسرائيل كجزءٍ من نسيجها المعرفيّ والثقافيّ الطّبيعيّ، مقابل التّفكير بالعربيّ الفلسطينيّ كآخَرٍ غرائبيّ وهمجيّ. ففي الحالة الأخيرة؛ يظهر الإسرائيلي الصهيونيّ طبيعياً، بينما يظهر العربيّ شاذّاً، وتُدمَجُ الصهيونيّة بعفويّة في الثقافة الغربيّة، بل تظهر كثقافة غربيّة تُكافِحُ ضدَّ الغرائبيّة الهمجيّة الشرقيّة، كِفاحاً متفوّقاً وكاسحاً في بعض الأحيان.

كما تظهرُ مُتكلِّمة، على النّقيض من الشخصيّة الفلسطينيّة الصَّامتة، وإن تكلّمت، فهي تفعل ذلك بلكنتها الغريبة. لذلك ظهر رابين متكلِّماً في خطابه المُلقى في حديقة الأبيض مُخاطباً الفلسطينيين بدعوتهم إلى السّلام، بينما ظلّ ياسر عرفات في الخلفيّة صامتاً، حتّى ظهر أخيراً في مقطَعٍ ينعى فيه رابين، بطلُ السَّلام الإسرائيليّ، ببضع كلماتٍ معدودة. ولذلك طَغى حُضور الشخصيّة الإسرائيليّة على حُضور الشخصيّة الفلسطينيّة طُوال الفيلم، وكانت لغتها أشدُّ دقَّة، وصلابةً، وأكثر بَلاغةً من لغة الفلسطينيّ المُنفعلة بلكنتها الغرائبيّة.

ولكن من بين عديد الأفلام التي أُنتِجَت وخلقت صورة مشوّهة للفلسطينيّ، يمكنُ القول إنَّ فيلم "أوسلو" أكثرُها تشويهاً وأقلُّها فَهْماً للقضيَّة الفلسطينيّة؛ ففي نهاية الفيلم تتكلّمُ مونا، الدبلوماسيّة النرويجيَّة، بنبرةٍ متأسِّفَةٍ على فُرصَةٍ ضائعةً للسّلام، ومع ذلك، فُرصَة كان لا بدَّ من خلقِها في لحظةٍ تاريخيّة ما. فُرصَةٌ انتهت، بحسَبِ الفيلم، باغتيال إسحق رابين على يد متطرّفين إسرائيليين، وبمُقاومةٍ "متطرّفة" من كلا الجانبين لأيِّ إمكانيّة لتحقيق السَّلام. لكنَّها، أيْ الفُرصة نفسها وما نتَج عنها حتّى اللحظة، هي التي حكمَتْ على الشعب الفلسطينيّ أن يُعانِي واقعاً قمعياً مُركّباً.

 

المصطلحات المستخدمة:

نائب وزير

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات