المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أكدت رئيسة الرقابة العسكرية الإسرائيلية حتى عشية "عيد رأس السنة العبرية" الأخير (في منتصف أيلول الفائت)، سيما فاكنين ـ غيل، أن الرقابة العسكرية أحدثت تغييرا جوهريا في توجهاتها وعملها خلال الحروب العدوانية الثلاث الأخيرة على قطاع غزة: "الرصاص المصبوب" (من 27 كانون الأول 2008 حتى 18 كانون الثاني 2009)، "عمود السحاب" (من 14 حتى 21 تشرين الثاني 2012) و"الجرف الصامد" (من 8 تموز حتى 26 آب 2014) وذلك بالاستفادة من دروس ما حصل خلال العدوان على لبنان في صيف العام 2006 ("حرب لبنان الثانية").

وقالت: "لم يعد يعنينا، خلال الحرب، لا اليقين القريب ولا اليقين البعيد بشأن احتمال المسّ بأمن الدولة. فقد أصبح التفسير المعتمد لهذا الاختبار واسعا جدا، لأن الأهمّ هو تجنب إصابة أي جندي وحيال هذا تنزاح حرية الصحافة والتعبير إلى الزاوية".
و"اليقين القريب" هو اختبار/ مقياس وضعته المحكمة العليا الإسرائيلية، في قرارها الصادر في شهر تشرين الأول 1953 في قضية صحيفة "كول هعام"، لسان الحزب الشيوعي الإسرائيلي باللغة العبرية، التي أغلقها وزير الداخلية، سوية مع صحيفة "الاتحاد" (لسان حال الحزب باللغة العربية)، في آذار من العام نفسه، بحجة خرقهما أنظمة الرقابة بنشرهما "ما قد يهدد سلامة الجمهور".

ويحدد هذا الاختبار متى يُسمح بتقييد حرية التعبير في حال تضاربها مع قيم ومصالح أخرى. ومؤدى هذا الاختبار، باختصار، أنه في حال حصول تصادم وجهاً لوجه بين حرية التعبير وأية مصلحة / قيمة مُصانة أخرى، ومنها سلامة الجمهور، تتراجع حرية التعبير (أي، يمكن تقييدها) فقط في حال وجود يقين قريب بأنها (حرية التعبير) ستؤدي إلى مسّ حقيقي وجدي بالمصلحة / القيمة المصانة الأخرى (أمن الدولة، الأمن العام، النظام العام، سلامة الجمهور وغيرها).

وقد شكل قرار الحكم هذا علامة فارقة في القضاء الإسرائيلي وفي ما يتعلق بحرية التعبير في إسرائيل، حتى ذهب بعض الحقوقيين والسياسيين إلى اعتباره "الوثيقة المؤسساتية الأولى التي تعلن أن دولة إسرائيل هي دولة غير ديمقراطية".

"قصورات وأخطاء فادحة في حرب لبنان الثانية"

وبالعودة إلى سيما فاكنين ـ غيل، فقد أوضحت أن "كل شيء بدا مختلفا بعد حرب لبنان الثانية. صحيح أن هذه العمليات (الحروب العدوانية الثلاث المذكورة على قطاع غزة ـ س. س) جرت في حيّز أصغر مما كان في لبنان، صحيح أن العدو كان مختلفا، لكن الأهم هو أنه حينما عملنا مع الجيش بصورة مشتركة وبتنسيق عميق، استطعنا تحقيق نجاح تام"!

وعن الاختلاف بين "العدوّين"، قالت فاكنين ـ غيل: "في لبنان كنا في مواجهة مع عدو ماهر وبارع يدرسك من دون أن تقدم له أية هدايا. فنحن نعرف حزب الله وقدراته التعلّمية العالية، إذ يستطيع تحديد عنصر محدد جدا في مسألة صغيرة والخلوص منه إلى استنتاجات دقيقة".

ونفت الادعاءات التي كانت صدرت في إسرائيل خلال حرب لبنان الثانية وبعدها وكأن حزب الله حدّد أهداف صواريخه ووجهتها وفقاً للتقارير حول مواقع سقوط الصواريخ في إسرائيل. وقالت: "من يعرف طرق عمل حزب الله يعرف، بالتأكيد، إنه لا يعمل بهذه الطريقة. فحتى لو أعلن عن الموقع الدقيق لسقوط الصاروخ، إلا أن هذا لا يؤثر في شيء على الصاروخ التالي. وبالمناسبة، ما حصل في جبهة الجنوب كان على العكس من هذا. فحينما فهمنا أن حماس تعمل بطريقة أخرى، أجرينا تغييرا في التوجه ولم نسمح بنشر مواقع سقوط القذائف".

وتحدثت رئيسة الرقابة العسكرية عما أسمته "انفتاحاً هائلا في التوجه الإعلامي" وقالت: "من جهتنا، كان الإحباط شديداً. لم نستطع التأثير على السياسات، إذ كان الشعور السائد في الجيش أن هذا ما ينبغي عمله. نظرت إلى ما يحدث وقلت: ليتَ الطرف الآخر يتصرف مثلنا"! وكانت تقصد ما حصل من تسريبات عديدة إبان الحرب على لبنان. وأوردت أمثلة على هذه التسريبات، ومن أبرزها: بعد نحو ساعة من منع الرقابة نشر معلومات عن عدد فرق الاحتياط التي كان الجيش يعتزم تجنيدها، وقف رئيس أركان الجيش آنذاك، الجنرال دان حالوتس، أمام الكاميرات وقدم هذه المعلومات بصورة تفصيلية دقيقة وببث حي.

وتحدثت فاكنين ـ غيل عن "قصورات وأخطاء فادحة" في إدارة الشأن الإعلامي خلال الحرب على لبنان، مما ولّد الشعور بأن "كل شي يتسرب"! وذلك على خلفية "انفتاح الجيش بصورة غير قابلة للسيطرة، ربما كسياسة معتمدة، ثقافة تنظيمية عليلة، نهج إرادي من جانب الناطق بلسان الجيش أو نتيجة لتطورات حصلت قبل ذلك بوقت طويل جدا. وكان التوجه السائد بأن من شأن هذا (الانفتاح، كما تصفه) خدمة القتال، لكن اتضح فيما بعد أنه ليس فقط لم يخدم، بل تسبب في حالات معينة بأضرار جدية".

وتعدّد سيما فاكنين ـ غيل بعض هذه القصورات والأخطاء، منها: السماح لصحافيين بمرافقة القوات المحاربة وبث التقارير من الميدان "كان بمثابة هدية للعدو"!

ومنها، أيضا: اتصال مراسل قناة تلفزيونية عربية بها (برئيسة الرقابة العسكرية) وإبلاغها بأن القناة إياها تنقل، في بث حي ومباشر، صوراً لقوات الجيش الإسرائيلي وهي تعبر الحدود.

وأضافت: "حينما أردت وقف هذا البث، قيل لي بأن الأمر يحصل بإذن الجيش"! ومثال آخر: في مؤتمر صحافي عقده ضابط رفيع جدا في الجيش الإسرائيلي لتحديث بعض الصحافيين، فوجئنا بأن مراسلي "الجزيرة" و"العربية" و"الحرة" يجلسون إلى جانب المراسلين العسكريين الإسرائيليين الذين يمكن الوثوق بهم، بينما الضابط الرفيع جدا إياه يشرح عن مواقع تواجد قوات الجيش والمواقع التي ينوي الوصول إليها في الغداة، وكأنه يقدم خطة المعركة بالضبط"! وأًضافت: "كنت أسمع ما يُقال هناك وأقول في سرّي: "سيكون من المستحيل مطاردة هذه المعلومات ووقفها ومنع نشرها"!

وفي تلخيصها الحرب، قالت فاكنين ـ غيل: "رغم كل القصورات والأخطاء، لم يتم تسريب كل شيء. وقد أجرت وحدة أمن المعلومات في الجيش، في أعقاب الحرب، فحصا تبين منه أن الرقابة العسكرية نجحت، نجاحا تاما، في عشرة من بين أهداف الإخفاء والتعتيم. لكن المشكلة كانت أن الهدف الوحيد الذي لم ننجح في تحقيقه بشكل تام هو الهدف المركزي ـ منع المعلومات عن الأنشطة العملياتية".

وردا على سؤال حول ما نُشر عن أن حركة "حماس" كانت تعرف خلال الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزة ("الجرف الصامد")، ومن خلال التسريبات من جلسات "المجلس الوزاري المصغر"، أن إسرائيل لن تمضي (في العدوان) حتى النهاية ولن تدخل بشكل موسع إلى قطاع غزة"، أكدت فاكنين ـ غيل هذه المعلومة مضيفة: "أعتقد أن تسريب أمور من المجلس الوزاري المصغر خلال الحرب هو أمر خطير جدا". وقالت إنها توجهت إلى المستشار القانوني للحكومة وطالبته بالتحقيق في إحدى هذه التسريبات، وهي "تسريب وثيقة أظهرت سيناريوهات الجيش لاحتلال غزة"!

الرقابة العسكرية

أقوال رئيسة الرقابة العسكرية هذه جاءت ضمن مقابلة معها، إثر إنهائها مهام منصبها هذا (في منتصف أيلول الأخير)، نشرت في ملحق "مكور ريشون" (مصدر أول) الأسبوعي لصحيفة "يسرائيل هيوم" (إسرائيل اليوم) التي يمتلكها الثري اليهودي شلدون إدلسون، المقرب جدا من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو. كما نشرت المقابلة، أيضا، في موقع "إنرجي" على الإنترنت.

وسيما فاكنين ـ غيل هي المرأة الأولى التي تتدرج في سلم الرتب العسكرية حتى رتبة "مقدم"، امتدت خدمتها العسكرية على مدى 31 عاما أشغلت فيها العديد من المناصب في سلاح الجو وفي شعبة الاستخبارات العسكرية، حتى تسلمها منصب رئيسة الرقابة العسكرية قبل 10 سنوات، خلفاً لميري ريغف، الوزيرة الحالية عن "الليكود". وتخلف فاكنين ـ غيل في هذا المنصب المقدم أريئيلا بن أبراهام.

و"الرقابة العسكرية" هو الاسم المعروف والمتداول لوحدة "الرقابة على الصحافة والإعلام"، وهي إحدى وحدات "شعبة الاستخبارات" ("أمان")، لكنها تخضع لوزير الدفاع، مباشرة.

وتعمل الرقابة العسكرية بموجب أنظمة الطوارئ الانتدابية (من العام 1945)، التي حددت صلاحياتها في الفصل الثامن. وتمارس "الرقابة العسكرية" الرقابة المسبقة على أية مواد مكتوبة أو مطبوعة، بما يشمل الصحف والكتب، فضلا عن مواد البث في الإذاعة والتلفزيون، تحتوي (المواد) على ما يخص أمن الدولة، سلامة الجمهور والنظام العام. وكانت قد درجت في الماضي على مراقبة/ فحص رسائل الجنود وكذلك رسائل المواطنين الإسرائيليين إلى خارج البلاد، لكنها توقفت عن ذلك.

وقالت سيما فاكنين ـ غيل، في المقابلة، إن "عالم الرقابة يشمل الحملات (الحروب)، الإعلام، الجهاز القضائي والاستخبارات". وأوضحت أن طاقم وحدة الرقابة العسكرية يضم 36 مُراقِبا "وهو عدد قليل جدا"، كما قالت، لكنهم "يجلسون على أي شيء أمني يصدر من دولة إسرائيل أو في خارج البلاد له علاقة محتملة بالأمن. فنحن لا نترك شيئا، على الإطلاق تقريبا، مما حددنا أننا نريد معرفته. وقد توصلنا إلى هذا بفضل تقنيات متطورة جدا، إذ طورنا خلال العقد الأخير (من خلال شركة خاصة تعمل معنا) أربع منظومات حديثة ـ واحدة لإدارة المعلومات، وثانية لمراقبة الإذاعة والتلفزيون ومنظومتان متطورتان جدا لمراقبة الإنترنت". وأضافت: "وبفضل هذه المنظومات، فإن أية معلومة أمنية تقع ضمن تعريفنا بأنها تستوجب الرقابة تقفز أمام أعيننا، مباشرة".

وقالت فاكنين ـ غيل إن "على الرقابة أن تتغير وتلائم نفسها للعصر الراهن، ليس بالتفتيش في "الواتس أب" وإنما بواسطة نموذج جديد وضعته وقدمته لوزير الدفاع". وردا على سؤال حول هذا النموذج، قالت: "المقترح الذي قدمته يقوم على قاعدة القناعة بأن "النموذج الوقائي"، الذي تستعرض فيه الرقابة المواد مسبقا وتقرر بشأن السماح بنشرها أو منعه، ليس مناسبا تماما لدولة ديمقراطية. ففي "الديمقراطية الدفاعية" ثمة مكان للإبقاء على مواضيع مركزية فقط تحت مصطلح "المنع المسبق"، بما في ذلك الاستخبارات والعمليات، حيث لا نستطيع دفع ثمن الخطأ. أما المواضيع الأخرى التي تعالجها الرقابة ـ 36 مجالا ـ فبالإمكان ومن الضروري تقليصها. يجب التخلي عن نموذج المنع الجارف ونقل المسؤولية إلى المحررين في وسائل الإعلام المختلفة، من جهة، وإلى أصحاب السر من جهة أخرى". ثم قالت: "أما في حالات الطوارئ، ولدينا الكثير منها للأسف، فتنبغي العودة إلى المنع التام والجارف. فنحن هنا في حرب وجودية، حرب على البيت، ولذا فليس من المعقول أن نخاطر في حالات الطوارئ".

الصحافيون الإسرائيليون ولا سيما من "هآرتس" يتحلون بمسؤولية كبيرة!

وأشادت رئيسة الرقابة العسكرية خلال المقابلة بالصحافيين الإسرائيليين، وخاصة الصحافيين العسكريين، وبوسائل الإعلام الإسرائيلية (العبرية) عموما، مبينة أنها كانت تحمل رأيا مختلفا تماما قبل إشغال منصبها هذا، لكن هذا الرأي "تحوّل 180 درجة".

وأوضحت أن الرأي السابق لديها كان "كما هو لدى أي رجل استخبارات يتعلم خلال سنوات طويلة أنّ الصحافيين لا يهتمون إلا برغبتهم في الانتشار وفي تحقيق السبق الصحافي من دون أنْ يكترثوا بما يحرقونه في الطريق إلى تحقيق ذلك وأنّ أمن الدولة لا يعنيهم". وأضافت: "لكنني أدركت، خلال عملي الأخير، أن هذا ليس صحيحا على الإطلاق. فقد اكتشفت أنّ الذين يبدون مسؤولية أكبر هم الصحافيون بالذات وليس القائمين على المعلومات التي يتوجب حفظها. فقد حصل أكثر من مرة أن قيمين على المعلومات السرية هم الذين سرّبوها من دون أن ينتبهوا إلى ما ينطوي عليه هذا من مس بأمن الدولة وإلى احتمال وصول هذه المعلومات إلى جهات معادية"!

واستدركت فاكنين ـ غيل لئلا يُفهم من كلامها أن الصحافيين الإسرائيليين "لا يقومون بواجبهم"، منوهة إلى أنه "في المحصلة، هنالك شعور بأن الإعلام يريد القيام بمهماته، أن يكون "السلطة الرابعة" بحق وحقيق، ولكن ليس على حساب دولة إسرائيل".

وتحدثت فاكنين ـ غيل عن "العلاقات الشخصية الوثيقة مع الصحافيين" ومدى تأثيرها على أداء الصحافيين "فلا أفاجأ من إقدام مسؤول رسمي رفيع على الحديث مع صحافي بكل راحة وصراحة، على قاعدة التفاهم بأن الأمور لن تخرج إلى العلن. وهو تفاهم محفوظ ومطبق، إجمالا".

وخصّت فاكنين ـ غيل صحيفة "هآرتس"، تحديدا، بالمديح في هذا السياق، فقالت: "إنها إحدى الصحف التي يدور بينها وبين الرقابة أكبر قدر من الحوار. فقد انتهجت هذه الصحيفة، دائما، خطا معينا نقل الرقابة إلى ما هي عليه اليوم. وقد كانت لرئيس التحرير الأسبق، حانوخ مرمري، مساهمة غير قليلة في هذا، فضلا عن الناشر، عاموس شوكن".

وأوردت فاكنين ـ غيل مثلا على عمق "الحوار والتفاهم" بين الرقابة العسكرية وصحيفة "هآرتس" فقالت: "حتى في قضية المواد التي نشرها الصحافي أوري بلاو (عن وثائق سربتها إليه عنات كام، التي كانت تعمل سكرتيرة في مكتب قائد المنطقة الجنوبية العسكرية ـ س. س.)، وقع من جانبنا خطأ في معالجة أحد التقارير ثم اكتشفناه متأخرا. وحين اتصلنا بالصحيفة، أوقفوا طباعة العدد وقاموا بتحويل جميع النسخ التي كانت تمت طباعتها حتى تلك اللحظة إلى أجهزة طحن الورق. وحتى لم يطلبوا أي تعويض (عن هذه الخسارة)"!.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات