أثارت مشاهد غير مألوفة دهشة سكان كريات غات، المدينة الواقعة على بُعد نحو ثلاثين كيلومتراً شمال شرق قطاع غزة؛ إذ فوجئ الأهالي بجنودٍ أميركيين يتجوّلون في شوارعها القريبة من أحد مراكز التسوّق، بعد أن أجروا عمليات شراء لمعداتٍ وأطعمةٍ من المتاجر المحلية.
لاحقاً، جاء الإعلان الرسمي ليكشف عن إقامة مقر أميركي في المدينة يُعرف باسم مركز التنسيق المدني - العسكري (CMCC)، وذلك خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في 21 تشرين الأول 2025، والذي يعدّ مركزاً رئيسياً فيه لمتابعة تطبيق خطة السلام الخاصة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب والرامية إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة بالمقام الأول.
تقدّم هذه المساهمة استعراضاً حول المركز الأميركي الجديد في كريات غات، متناولةً الغايات المعلنة من إنشائه، إلى جانب تحديد طبيعة المهام المنوطة به. كما تتطرق إلى تركيبة الدول المشاركة فيه، وردود الفعل الإسرائيلية إزاءه.
ما هو مركز التنسيق المدني - العسكري (CMCC)؟
خلال مؤتمرٍ صحافي عقده نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، وبمشاركة عددٍ من كبار المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين، من بينهم قائد القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) الجنرال براد كوبر والجنرال باتريك فرانك، إلى جانب جنرال بريطاني وعدد من القادة العسكريين من دول أخرى في 21 تشرين الأول 2025 أعلن عن تأسيس مركز قيادة دولي جديد بإشراف مباشر من الولايات المتحدة يحمل اسم "مركز التنسيق المدني - العسكري لدعم استقرار غزة"، وذلك بعد خمسة أيام فقط من توقيع خطة واشنطن لإنهاء الحرب في غزة.
وجاء في بيان القيادة المركزية الأميركية أن المركز يضمّ نحو 200 من عناصر القوات الأميركية ذوي الخبرة في مجالات النقل والتخطيط والأمن واللوجستيات والهندسة، وقد تولّوا مهمة إنشاء المركز بإشراف اللواء باتريك فرانك، قائد القيادة البرية الأميركية في المنطقة الوسطى (ARCENT). [1]
كذلك يعاونه ضابط في الجيش البريطاني، أما ممثل الجيش الإسرائيلي في المركز فهو اللواء يكي دولف، الذي يتولّى التنسيق بين القيادة الأميركية والجيش الإسرائيلي. إضافةً إلى عناصر من دول حليفة تشمل الأردن، الإمارات العربية المتحدة، بريطانيا، الدنمارك، وألمانيا، مع توقّع انضمام دول أخرى لاحقاً إلى هذا الإطار.
تميّز المؤتمر بمظاهر رمزية، فقد رُفعت أعلام الولايات المتحدة وإسرائيل في خلفية المنصّة، وإلى جانبيها أعلام الدول المشاركة في المركز، باستثناء علم دولة الإمارات العربية المتحدة التي آثرت البقاء في الظل - وفق تعبير صحيفة "يديعوت أحرونوت"-، كما نُصبت لافتتان كبيرتان على جانبي المنصّة كُتب عليهما بالإنكليزية: "خطة النقاط العشرين لترامب".
يقع المركز في قلب منطقة صناعية في كريات غات، في مجمع لوجستي واسع كان مملوكاً سابقاً لشركة تجارية خاصة. وقد جُهِّز المكان في مدة قياسية لم تتجاوز أسبوعين، ليضمّ ثلاثة طوابق وظيفية: أحدها مخصّص للجانب الإسرائيلي، وثانٍ للقوات الأميركية، وثالث يُستخدم كمستوى تنسيقي مشترك بين الطرفين.[2] كذلك يتكون المركز من غرفة عمليات تمكّن الطاقم من مراقبة التطورات في غزة بشكل لحظي. كما أُنشئت في المركز مكاتب وقاعات اجتماعات تهدف إلى تعزيز التخطيط المشترك والتنسيق بين القادة والممثلين والكوادر العاملة.
تمّ اختيار موقع كريات غات بعناية، إذ تتيح المسافة الفاصلة عن قطاع غزة مراقبة الأوضاع والإشراف على المنطقة من دون تعريض الطاقم العسكري لأي تهديد مباشر، كما لقرب الموقع من مقرّ هيئة الأركان العامة ووزارة الدفاع في تل أبيب.[3] وكانت الخطة الأميركية الأولية تنصّ على إقامة المركز داخل قاعدة حتسور الجوية في إسرائيل، غير أنه تقرّر لاحقاً نقله إلى كريات غات.
كما زُوّد المركز بمنظومات تكنولوجية متقدّمة للمراقبة والاستطلاع اللحظي، تتيح متابعة التطورات الميدانية في قطاع غزة عن بُعد وفي الزمن الحقيقي، بما يعكس مستوى عالياً من التكامل الاستخباراتي والعملياتي. إضافة إلى ذلك فُرضت على المكان إجراءات أمنية مشدّدة، إذ أُحيط بأسوار عالية، وهو يخضع لحراسة دائمة تمنع التصوير أو الاقتراب غير المصرّح به. كما طُلب من المالكين السابقين الامتناع عن الإدلاء بتصريحات إعلامية والحفاظ على سرّية الموقع تفادياً لأي تغطية أو تسريب.
الأهداف الإستراتيجية والغايات العامة
بدأ المركز الأميركي عمله الفعلي ليصبح اليوم المركز المحوري للعمليات الأميركية في قطاع غزة. إذ أُنشئ المركز لغاية تنفيذ خطة السلام التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كما يهدف إلى إدارة المرحلة الثانية من الخطة التي تُعدّ امتداداً لمسار سياسي - أمني جديد أعقب وقف إطلاق النار في غزة.
تتمثل المهمة الرئيسة للمركز في الإشراف على تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، وتنسيق الجهود بين الدول والمنظمات والأطراف المشاركة في تطبيق بنود الخطة، مع تركيز خاص على إعادة إعمار قطاع غزة وتنظيم دخول القوات الأجنبية إليه، بما يضمن استقرار الأوضاع الميدانية وتهيئة بيئة أمنية ملائمة للمسار السياسي المقبل وفق رؤية الولايات المتحدة الأميركية.
وقال براد كوبر، قائد القيادة المركزية الأميركية: "إن جمع الجهات الفاعلة التي تشترك في هدف تحقيق الاستقرار الناجح في غزة هو أمر أساس من أجل انتقال سلمي." وأضاف: "خلال الأسبوعين المقبلين، سيعمل أفراد من القوات الأميركية على دمج ممثلين من الدول الشريكة والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية والقطاع الخاص لدى وصولهم إلى مركز التنسيق".[4]
في ذات السياق ذكر أمير بار شالوم، محلل الشؤون العسكرية في إذاعة الجيش الإسرائيلي، في تصريح لهيئة بي بي سي، أن الهدف الأساس من المركز يتمثل في فرض السيطرة على مجريات الوضع في غزة والمنطقة بأكملها، بما في ذلك حركة حماس وإسرائيل والفصائل الفلسطينية الأخرى. وأضاف أن هذا المركز يجسد النهج الأميركي في إدارة الأحداث والتحكم في مساراتها والإشارات المرتبطة بها داخل المنطقة.
تبعية أم شراكة؟
يدور في إسرائيل نقاش محتدم حول طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، بين من يرى أن التحالف معها بات يمسّ باستقلال القرار الإسرائيلي، ومن يعتبره ضرورة استراتيجية لا يمكن الاستغناء عنها. ففي افتتاح الدورة الجديدة للكنيست، اتهم زعيم المعارضة يائير لبيد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأنه "حوّل إسرائيل إلى دولة تابعة"، بينما عبّر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير خلال جلسة للمجلس الوزاري المصغّر للشؤون الأمنية (الكابينيت) عن ذات الاتجاه عند حديثه عن الرئيس ترامب بقوله: "ليعلم أن إسرائيل دولة ذات سيادة مستقلة"، وفق ما أوردته القناة 14 الإسرائيلية.
وفي هذا الإطار، واجهت فكرة إنشاء مركز للتنسيق المدني - العسكري جملة من الانتقادات والاعتراضات داخل إسرائيل، سواء على المستوى الرسمي المتمثّل في الجيش الإسرائيلي الذي أبدى تحفظات على طبيعة الصلاحيات وآليات التنسيق مع القوات الأميركية، أو على المستوى الإعلامي والسياسي الذي رأى في الخطوة مسّاً بالسيادة الوطنية وتدخّلاً مباشراً في الشؤون الميدانية والأمنية.
فقد تعالت داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أصوات انتقادية تجاه ما تصفه بـ"التدخل الأجنبي المفرط". إذ يؤكد مسؤولون عسكريون إسرائيليون أنّ أي عملية ميدانية في غزة باتت تتطلب موافقة المركز الأميركي متعدد الجنسيات، وهو ما يعتبرونه تقييداً لاستقلالية إسرائيل العسكرية وتحويلاً لمركز اتخاذ القرار إلى أيادٍ أجنبية. [5]
أما صحيفة "يديعوت أحرونوت" فقد رأت في هذه الخطوة تحوّلاً في نمط العلاقة بين واشنطن وتل أبيب؛ إذ لم تعد الولايات المتحدة مجرّد وسيط أو داعم سياسي، بل فاعل مباشر في صياغة قواعد السلوك الأمني والعسكري داخل إسرائيل. وقد شبّه بعض المراقبين هذا النمط الجديد من الانخراط الأميركي بـ "بيبي - سيتر" في إشارة رمزية إلى دور الوصيّ المراقب على رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.[6]
وتقترح الصحيفة استعارة من عالم الرياضة لوصف هذا الدور: "الأميركيون انتقلوا من المراقبة من بعيد إلى ممارسة رقابة لصيقة وشديدة، أشبه برقابة دفاعية في كرة السلة، فهم لن يسمحوا لنتنياهو بإفشال اتفاق وقف إطلاق النار أو الخروج عن حدود السياسة الأميركية المرسومة".
من جانبها، أشارت صحيفة "هآرتس" إلى أنّ ملامح قوة التثبيت الدولية التي تسعى الولايات المتحدة إلى إنشائها في قطاع غزة غير واضحة، إذ لم تؤكَّد حتى الآن مشاركة أي دولة بصورة رسمية في هذا الإطار الأمني. وعلى الرغم من أنّ الرئيس ترامب بالغ في الإشادة بإندونيسيا - الدولة الوحيدة التي أعلنت استعدادها لإرسال عشرين ألف جندي للمهمة - فإنّ الإدارة الأميركية تواجه صعوبات حقيقية في تجنيد دول أخرى للمشاركة، بحسب ما أكّدته أيضاً صحيفة ’نيويورك تايمز’. أما في الشرق الأوسط، فتظل تركيا الدولة الوحيدة التي أبدت حماسةً علنية لإرسال قوات ميدانية إلى غزة، وهو ما أثار انزعاجاً وقلقاً عميقين داخل المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية. [7]
في هذا السياق، صرّح نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس بأنّ واشنطن لا تعتزم فرض قوات أجنبية على إسرائيل في أراضيها من دون موافقتها، مؤكداً في الوقت ذاته أنّ لتركيا دوراً بنّاءً في ترتيبات ما بعد الحرب في غزة، حتى وإن لم يكن عسكرياً بالضرورة. كما شدّد فانس على أنّ الجنود الأميركيين لن تطأ أقدامهم غزة. ومع ذلك، تشير "هآرتس" إلى أنّ دولاً أخرى ربما تشارك التحفّظ ذاته، لكنها تتجنب إعلانه خشية الضغط الأميركي، في ظل سعي واشنطن إلى توسيع المشاركة الدولية في الإشراف على ترتيبات ما بعد الحرب وإعادة الإعمار.
تجدر الإشارة إلى أن القيادة المركزية الأميركية، التي يقع مقرها الرئيسي في قاعدة ماكديل الجوية في تامبا، تشرف على العمليات والأنشطة العسكرية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب آسيا.
[1] القيادة المركزية الأميركية. "القيادة المركزية تفتتح مركز التنسيق المدني– العسكري لدعم استقرار غزة". بيان صحفي، 21 تشرين الأول 2025. https://www.centcom.mil/MEDIA/PRESS-RELEASES/Press-Release-View/Article/4325130/centcom-opens-civil-military-coordination-center-to-support-gaza-stabilization/
[2] ليئات رون وينير يغنه، "جاذبية جديدة في الجنوب: مئات الجنود الأجانب يغزون المدينة الهادئة"، موقع واللا، 22 تشرين الأول 2025. https://finance.walla.co.il/item/3788915
[3] داني شفيتس، "جاء للحراسة؟ قبل القدس: هذا هو السبب الذي يجعل نائب الرئيس يزور أولاً المركز الأميركي في كريات غات"، كيكار هشبات، 21 تشرين الأول 2025. https://www.kikar.co.il/israel-news/t4hh0w
[4] القيادة الوسطى الأميركية، مصدر سبق ذكره
[5] يوفال أفيف، "بطلب من واشنطن: قوة بريطانية ستنضم إلى مركز المراقبة على غزة في كريات غات"، هيدبروت، 22 تشرين الأول 2025. https://www.hidabroot.org/article/1215064
[6] إيتمار آيخنر، "كبار المسؤولين جاؤوا للقيام بدور بيبي- سيتر، وهم هنا للبقاء: الولايات المتحدة في إشراف لصيق على إسرائيل." يديعوت أحرونوت، 22 تشرين الأول 2025، https://www.ynet.co.il/news/article/rkrgzzlrge
[7] ليزا روزوفسكي. "من مبنى في كريات غات، يحاول الأميركيون منع إسرائيل وحماس من الإضرار بإنجازهم"، هآرتس، 22 تشرين الأول 2025، https://www.haaretz.co.il/news/politics/2025-10-22/ty-article/.highlight/0000019a-07ee-d2fc-a79a-9ffe1eb40000
المصطلحات المستخدمة:
كرة السلة, يديعوت أحرونوت, هآرتس, دورا, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, يائير لبيد