في 4 شباط 2025 أثناء لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض والمطلوب من قبل الجنائية الدولية بتهمة الإبادة، وفي ضوء المشهد القيامي الخرائبي لغزة عندما كانت الإبادة في أوجّها، طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب فكرة تحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". اقترح ترامب أن يبدأ بتنفيذ الخطة أولاً من خلال "نقل" سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن- أي تهجيرهم، وبمجرد إتمام ذلك، تباشر "الجهات المختلفة" العمل من أجل تحويل غزة إلى "وجهة سياحية عالمية".
بعد هذا اللقاء بعدة أشهر، تسرّبت وثيقة مفصّلة تمتد على 38 صفحة (أغسطس/ آب 2025) عُرفت باسم "صندوق إعادة إعمار غزة وتسريع الاقتصاد والتحوّل" (GREAT Trust)، لتكشف أن فكرة تحويل غزة لـ "ريفييرا" لم تكن مجرّد تصريحات عابرة، بل كانت جزءاً من خطة متكاملة أعدها فريق متخصص،[1] جمع إلى جانب الباحثين الاستراتيجيين رجال أعمال إسرائيليون، وبالتشاور مع موظفين من معهد توني بلير للتغيير العالمي.[2] جاء طرح ترامب لـ "ترحيل" الغزيين- كما عبّر عنه- خلاصة لاعتقاده بأن غزة لم تعُد قابلة للعيش بسبب الدمار الشامل الذي لحق بها، أي أن طرح التهجير أولاً والريفييرا لاحقاً كمشروع إنقاذ مزدوج من الجحيم ومن ثم بناء وازدهار: "الترحيل يسمح بـ "إنقاذ" مزدوج للإنسان والمكان ينقذ الفلسطينيين من جحيم غزة غير القابلة للعيش". بإخراجهم منها وينتشل غزة من بين الأنقاض ويعيد تدوير خرائبها ليصنع منها "ريفييرا".
بحسب ويكيبيديا فإن الريفييرا Riviera)) كلمة إيطالية، تعني «الساحل»،[3] لكن معناها المتعارف عالمياً (Lingua franca) ويشير لساحل خلّاب، مشمس سياحي مرصع بالفنادق الفخمة، ومستمد من صورة الريفييرا الفرنسية أولاً والإيطالية ثانياً اللتين تشكلان النموذج المثالي للجمال الباهر الحداثي، ويكفي الإشارة إلى ساحل ما بأنه ريفييرا لاستحضار الريفييرا الفرنسية.
تلقّفت إسرائيل حكومة وأحزاباً وجماعات- في ما عدا أصوات قليلة- خطة ترامب بالترحيب، ليس فقط لأن فكرة الترحيل التي طرحها ترامب كانت بمثابة تحقيق مبهر لفكرة التهجير التي أرادتها إسرائيل منذ بداية الحرب، بل لأنها كانت بمثابة اعتراف استرجاعي من زعيم أكبر دولة في العالم بشرعية التهجير حالياً، وسابقاً في الفكر الصهيوني والممارسة، بما في ذلك شرعية الطرد التي أتاحت تحقيق المشروع الصهيوني في فلسطين عبر النكبة، وهو ما حاولت إسرائيل لعدة عقود التنصّل من مسؤوليتها عنه.
على الرغم من أن خطة ترامب لم تخرج إلى حيز التنفيذ بسبب الرفض المصري الحازم للتهجير، فإن التفاعل الإسرائيلي معها ومدى التوافق الداخلي على فكرة الترانسفير أظهرا أن هذه الفكرة مُرجأة لكنها تظل قائمة إلى أن يصبح تنفيذها ممكناً، وأعاد هذا التوافق تظهير البنية العميقة التي تنظم فكرة ازدهار القفار وتحويل فلسطين إلى ريفييرا منذ بدايات الصهيونية.
تتبع صورة فلسطين في المخيال الاستعماري من البداية باعتبارها أرضاً خربة، وطرحت الصهيونية باعتبارها مشروع ترميم وإصلاح كلي لن يؤدي تحقيقها فقط إلى ازدهار القفار، بل وأيضاً إلى إعادة ترميم اليهودي المنفوي البائس وبناء اليهودي الجديد، وكانت الريفييرا بمثابرة شيفرة للإشارة إلى المستقبل كما تتخيله الصهيونية، ساحل مزدهر وخلّاب خارج أوروبا يتمكّن فيه اليهودي من أن يصبح أخيرا أوروبياً، وظل صداها يتردد في الزمن الاستعماري ووعوده ومشاريعه، وإن كانت كل يوتوبيا هي ديستوبيا مقلوبة، فإن الريفييرا الصهيونية كانت هي الوجه الآخر للتدمير والمحو الممنهج لفلسطين بلداً وسكاناً، والتعبير الكامل عن منطق المحو والانشاء الاستعماري الذي يبيد الوجود الأصلاني ويقيم الحلم الاستعماري على أنقاضه. هذه الحقيقة التي استشعر منطقها الأبوكاليبتي الفلسطينيون مبكراً منذ إعلان الهدف الصهيوني إقامة وطن قومي في بلادهم، وخبروا جيداً معناها الكارثي في النكبة، تحوّلت الآن بسبب تعثّر تحقّقها الكامل إلى مرحلة الهمجية الفاجرة، أي إلى المرحلة التي تطرح فيها فكرة تحويل غزة إلى ريفييرا على خلفية البث المباشر للإبادة، لابتزاز الغزيين في مقابل نجاتهم.
"ألتنويلاند": ريفييرا هرتسل
تتكرر فكرة تحويل فلسطين إلى ريفييرا في كتابات الأب المؤسس للصهيونية ثيودور هرتسل، وتتجلّى بشكل واضح في روايته "ألتنويلاند" التي وضعها عام 1902 بعد زيارته الوحيدة إلى فلسطين في خريف 1898 والتي استمرت عشرة أيام، وجاءت بالتزامن مع زيارة القيصر الألماني فيلهلم الثاني بهدف دفعه لدعم الصهيونية وإقناع الباب العالي بالموافقة على إقامة charted company تحت رعاية ألمانيا.[4] تكمن أهمية هذه الرواية في أنها تضع البنية التحتية للتبرير الأخلاقي والفلسفي للاستعمار الصهيوني لفلسطين، وذلك من خلال وصف حال البلاد في لحظتين تاريخيتين: لحظة انحطاط وبؤس لما قبل الدولة اليهودية هي التي يبنيها من انطباعاته التي سجلها خلال رحلته إلى فلسطين، ولحظة انبعاث وازدهار لما بعد إقامة الدولة اليهودية- تلك التي وضع خطاطاتها العملية في كتابه الدولة اليهودية (يودنشتات) عام 1896. لكن الأهم مما كان ومما سيأتي هو ما بين اللحظتين: فاصل من عشرين عاماً لا نعرف عنه شيئاً، ثقب أسود لكنه كفيل بالعمل كسحر، إذ خلاله تتحول الخرابة إلى ريفييرا أوروبية!
تبدأ الرواية من فيينا نهاية القرن التاسع عشر، بقصة فريدريخ لوفنبرغ (Friedrich Löwenberg) وهو الاسم الحركي الأدبي لهرتسل، شاب يهودي فييني مثقّف (ودكتور مثل هرتسل) عاطل عن العمل يائس محبط ومكتئب بلا أمل وبلا معنى للحياة، مُحاط بكارهي اليهود وبالمظاهر البرجوازية الخدّاعة، تتخلّى عنه حبيبته لتتزوج رجلاً ثريّاً، أصدقاؤه أيضاً يائسون محبطون حائرون، أحدهم ينتحر (قصة حقيقية يكتب عنها في مذكراته) من شدّة اليأس، وآخر يهاجر إلى أميركا الجنوبية ثم ينتحر (قصة حقيقية يشير لها في يومياته)، وهو أيضاً يفكّر في الانتحار، لكن صدفة تغيّر مساره: إعلان غامض لشخص باسم "نو- بودي" (no body) في صحيفة يبحث عن شخص ليرافقه في رحلة عزلة طويلة في جزيرة نائية بالمحيط الهادئ، يستجيب فريدريخ للفكرة وينضم للنو- بودي الذي هو كينغسكورت (Kingscourt) نبيل بروسي مسيحي هاجر الى أميركا ثم عاد منها (مزيج من مسيحية أفنجيلية، وأرستقراطية ألمانية واستعمارية أميركية). وقبل بدء الرحلة، يتعرف فريدريخ على ديفيد ليتفاك (David Littwak / Litwak) وهو ابن عائلة يهودية فقيرة لكنها تحمل حلماً عظيماً بالعودة إلى "أرض الآباء والأجداد"، فيتأثر ببؤسهم ويساعدهم أكثر من مرة بدفع ثمن الطعام والإيجار وتسديد الديون.
وكانت البلاد خراباً!
ينطلق الاثنان في رحلتهما على متن السفينة، وحين يقتربان من فلسطين، يسأل كينغسكورت (المسيحي الأوروبي) لوفنبرغ (اليهودي الأعمى عن وطنه حتى حينه):
- قل لي يا دكتور، أليست بك رغبة في رؤية أرض آبائك قبل أن تودّع العالم؟
أرض آبائي؟ قال فريدريخ مستغرباً، وهل تنوي العودة إلى ترييسته؟
- حاشا لله!- صاح كينغسكورت- أليست أرض مولدك أمامنا، فلسطين!
أهذا قصدك؟ لكنك مخطئ. ليست لي أي علاقة بفلسطين. لم أكن فيها قط. لا تعني لي شيئاً ولا تمسّ قلبي ولو قليلاً. أجدادي تركوها منذ ألف وثمانمائة سنة. فما الذي يمكن أن أبحث عنه هناك؟ بل إن هذه مقولة لا تليق إلا بمعادي السامية أن يقولوا إن فلسطين هي وطن اليهود...[5]
يقنع الأوروبي المسيحي اليهودي بأن له وطناً عتيقاً كان قد نسيه، فيقبل الأخير بزيارة فلسطين ويمضيان بضعة أيام حيث تظهر البلاد أمامهم خربة بائسة مقفرة مثيرة للشفقة، مستنقعات وتلال جرداء وخليط بشر من عرب وأتراك ويونان ويهود بائسين، مع ذلك فيها خلف كل البؤس جمال يجب فقط اكتشافه. فقد "أثارت فيهما يافا انطباعا بائساً، مع ذلك... موقعها على ساحل البحر اللازوردي يحقق الإبهار حقاً" لكن "كل ما فيها كان مهملاً لدرجة تبعث على الشفقة"، "الميناء حقير"، "الأزقة مليئة بالروائح الكريهة، قذرة، وحيثما كنت تتجه ببصرك- لا ترى غير الفقر الذي عرفه الشرق، أتراك فقراء، عرب جياع ويهود فزعون عاطلون عن العمل، كلّهم كسالى فقراء فاقدي الأمل، ورائحة العفونة، كرائحة القبور، تكتم الأنفاس".[6] يُسرع كينغسكروت وفريدريخ في الهروب من المدينة البائسة وروائحها المثيرة للاشمئزاز، يستقلّون قطاراً متداعياً إلى القدس وفي الطريق "لم يريا غير مناظر اضمحلال رهيب، فأراضي السهل كلها تقريباً رمال ومستنقعات. والحقول البائسة بدت وكأن النار قد التهمتها، قرى عربية بدائية بسكانها من الفقراء، أطفال يلعبون بتراب الشوارع وهم عراة، وفي الأفق البعيد تبدو جبال يهودا الجرداء. ومن ثم مر القطار في أغوار صخرية قاحلة. منحدرات يابسة، باستثناء آثار قليلة لحضارة الماضي أو الحاضر".[7]
بعد هذه المشاهد الكئيبة يغادر الاثنان البلاد، ولا يبقى للقارئ إلا أن يشعر بالاشمئزاز والقرف مما يتخيله، ويصبح على كامل الاستعداد النفسي والأخلاقي لأن يتقبّل مشاريع ترميم الخراب، وخطط الإنقاذ للبلاد من براثن الانحطاط. لكن كيف سيتم الإنقاذ؟ ما هي الخطوات التي ستتيح أن يتم تحويل الخراب إلى ما يشبه الجنة؟ هذا كما يبدو ليس من شأن القارئ. يعود فريدريخ وكينغسكروت إلى سفينتهما ويبحران نحو الجزيرة النائية، وقبل أن يختفيا عن الأنظار والزمن لعقدين، يشرح كينغسكروت لليهودي عن تاريخه العظيم، عن موسى وبطولته، وعن تغير العالم في ظل التطور التكنولوجي الحالي، وفعلياً يطرح أمام المثقف اليهودي المتردّد رؤية فكرية تمزج التاريخ القديم بالعلم: عصا موسى مع السفن البخارية، ويشير له "بوسعكم (يقصد اليهود) أن تبنوا وطن التجارب من أجل البشرية، هنالك، حيث كنا... أن تخلقوا على الأرض القديمة وطناً جديداً، وطناً جديداً- قديماً!"،[8] إن فكرة التجارب هنا تعني أنها مفتوحة على النجاح أو الفشل، على الأخطاء كما النجاحات، لكن أساسها هو علمي عقلاني، ومنطقها هو أن فلسطين مختبر التجارب.
ثم صارت ريفييرا!
بعد عشرين عاماً يعود المسافران من جزيرتهما النائية، وفي طريق عودتهما يعرّجان من جديد لزيارة البلاد، هذه المرة يصلان حيفا، وإذا بها هوكس فوكس لا تشبه بشيء ما تركاه "حدثت معجزة هنا".[9] لقد تحولت البلاد خلال عقدين من أرض خربة إلى بلاد مزدهرة، حديثة صناعية خلّابة بجمالها: ريفييرا، أحياناً "ريفييرا بلوس" بعد أن قام بها مجتمع جديد، في إحالة إلى المشروع الاستعماري الصهيوني.
يشاهد الزائران حيفا وينبهران، كل ما فيها حديث وجميل ونظيف وريفييري:
"الأمر الذي كان يحملك على الاعتقاد بأنك تقف في ميناء إيطالي كبير، زرقة السماء والبحر وبهاء الألوان أعادا إلى الأذهان ساحل الريفييرا المبارك بفارق واحد هو أن الأبنية هنا أكثر جدة وأكثر نظافة، وصخب الحركة في الشوارع، رغم تدفقها بالحياة، أقل صخبا".[10]
وناهيك عن الترتيب والجمال الأخّاذ لحيفا، والذي يمحو فعلياً ذاكرة ميناء يافا القذر، فإن المدينة تتميز برقي ثقافي وبمظهر أوروبي: "ليالي المسرح والأوبرا الراقية، بملابس النساء والرجال الأوروبية الأرستوقراطية تعيد للذاكرة ليالي الريفييرا الجميلة".[11]
في الجمال الأخّاذ تصبح حيفا قطعة من أوروبا: "المنطقة الساحلية كلها تشبه الريفييرا"،[12] "والساحل فيه رقة الريفييرا الإيطالية والفرنسية"،[13] ومثلما تبهر حيفا الأعين كذلك أيضاً بحيرة طبريا:
"فالبحيرة خلّابة تعبها سفن كبيرة وصغيرة محدثةً أمواجاً صغيرة. الأشرعة والصواري لمعت ببياضها، والطلاء النحاسي للزوارق الكهربائية أشرق في ضوء الشمس. وعلى الطرف الثاني من الساحل، وفوق الهضاب الخضراء المغطّاة بالأحراش ظهرت فيلات بيضاء ناصعة، بلدة حديثة بهيجة تغرق كلها في الحدائق التي تحيط ببيوتها الجميلة... وبدا لهم منظر سحري لبهجة الحياة وسط جمال الطبيعة- أنه شيء أعاد إلى ذاكرتهما أيام الموسم العجيبة في الريفييرا بين نيس وكان".[14]
كيف تتحول البلاد من عفونة الشرق إلى ريفييرا أوروبية على شاكلة الريفييرا في نيس وكان؟ يحدث هذا في العشرين عاماً التي لا نعرف عنها شيئاً، والتي تمثّل ثقباً أسود، تنقطع خلالها سلسلة الأحداث، يختفي كينغسكروت وفريدريخ في جزيرة نائية وتختفي معهما فلسطين عن أعين القارئ، وعندما نعود يكون الخراب صار ازدهاراً، والساحل ريفييرا.
الرواية نظيفة من أي إشارة إلى أساليب عنيفة، من أي تلميح لسلب أو نهب أو طرد لسكان البلاد، على العكس تماماً يصف لنا هرتسل مجتمعاً جديداً مثالياً ويوتوبيا، متسامحاً متعدداً ومتساوياً واستيطانيا يهوديا، يعرف هرتسل أن فلسطين ليست بلاداً خالية وتم تحذيره باكراً من مغبّة ما يحمل المشروع الصهيوني من كوارث على أهلها، بحسب ما يورد رشيد الخالدي في كتابه حرب المئة عام، كان يوسف ضياء الخالدي (1842–1906)، المثقّف المقدسي وعضو البرلمان العثماني، أحد أوائل الأصوات الفلسطينية التي واجهت الفكر الصهيوني الناشئ بوعي نقدي مبكر. كتب الخالدي رسالة شخصية إلى ثيودور هرتسل عام 1899، حذّره فيها بوضوح من مغبّة تجاهل وجود السكان الأصليين، وبكلماته:
"فلسطين ليست أرضاً بلا شعب، بل هي آهلة بأهلها منذ أقدم العصور، وسكانها الأصليون لن يقبلوا أبداً استبدالهم بآخرين... إنكم تواجهون خطراً عظيماً إن تجاهلتم هذه الحقيقة. بحق الله، اتركوا فلسطين لشأنها".[15]
جاء ردّ هرتسل على الرسالة متجاهلاً تماماً جوهرها، إذ كتب:
"أنا أفهم مشاعرك تماماً، وأُقدّرها تقديراً عميقاً. لكنني أعتقد أن حركتنا، في النهاية، ستعود بالنفع على الجميع. فكل من سيعيش في البلاد سيجني الخير منها".[16]
بدلاً من ذلك، اخترع هرتسل في "ألتنويلاند" شخصية المستعمَر الممتنّة ممثلةً برشيد بيك، وهو عربي مسلم ينتمي إلى طبقة الأعيان العثمانية، ويُصوَّر كرجل متحضّر من يافا، وعضو فاعل في "الجمعية الجديدة" وحلّ من خلالها مسألة التناقض بين تحقيق المشروع الاستعماري- الريفييرا والسكان الأصليين.
يكشف الحوار الذي يضعه هرتسل على لسان رشيد بيك إدراكه المبطّن أن الاستعمار ليس حدثاً جيداً، حتى بالمنطق السليم لتلك الفترة التاريخية، إذ يصعب على الاوروبي المسيحي كينغسكروت فهم موقفه حيث يخاطبه مستغرباً:
"إنكم قوم عجيبو الأطوار أنتم المسلمون! ألا ترون في اليهود أجانب استباحوا حدودكم؟" ليردّ عليه رشيد بك بلهجة ودية: "ما أغرب كلامك، أيها المسيحي! إن الإنسان الذي لم يأخذ منك شيئاً وإنما أعطاك شيئاً- هل تعتبره لصّاً؟ لقد أغنانا اليهود فعلاً، فعلامَ نتذمّر منهم".[17]
لم يظهر السكان المحليون فقط من خلال شخصية رشيد بيك الممسوخة في رواية "ألتنويلاند"، بل كانوا فرش المكان المتناثر بكسل وعفونة في المشهد الذي يتجلّى عند اقتراب سفينة كينغسكروت ليافا، بين هذه الكائنات الكسلى والسيد رشيد بيك الممتنّ للمستعمِر يتمدّد المشروع الاستعماري، السكان مجرد مواضيع لأفكار تخلف ما قبل الاستعمار في مقابل حداثة وتقدم ما بعده، رشيد بك هو الخلاصة الحداثية، الفكرة الصافية للتطور.
أما كيف حدثت هذه المعجزة؟ كيف نجح المستعمِرون في تحويل البلاد البائسة الخربة إلى ريفييرا؟ فهذا لا يمكن معرفته إلا من خلال الحكايات التي يرويها المستعمِرون عن تلك السنوات المبهمة، أو بعبارة أخرى، عبر السردية القومية عن البعث والتأسيس، تلك التي يريد أن يبني عليها وعياً جماعياً وعالمياً عن "المعجزة". في المشهد الختامي يقف زعيم المجتمع الجديد متسائلاً: إننا نرى هنا صورة جديدة لحياة مجتمع تعاوني منظم لإسعاد الناس أكثر مما كانوا عليه في السابق- فمن فعل هذا وحقّقه؟
يقول أحدهم- الضائقة، ويقول المهندس الشعب الذي عاد فاتحد، ويقول كينغسكورت المواصلات الجديدة، ويقول الدكتور العلم، ويقول آخر الإرادة، ويقول البروفيسور قوى الطبيعة، ويقول القسّ الإنكليزي- "التسامح المتبادل" أما ابن البلاد رشيد بيك وهو بالمناسبة حصل على تعليمه في جامعات ألمانيا ولكن زوجته مخفية خلف جدران البيت حفاظاً على العادات والتقاليد التي يحترمها المجتمع الجديد فيقول: إيمان الانسان بقواه الذاتية. أما ديفيد ليتفاك الذي التقاه قبل عقدين في أزقة فيينا فريدريخ وهو شبه متسول وأصبح قائداً كبيراً فيقول الحب والألم، وتنتهي الإجابات عندما يقوم الحاخام شموئيل العجوز بالإعلان من مكانه: الله.[18]
توفي ثيودور هرتسل عام 1904، وتحولت الرواية إلى مانيفستو صهيوني، صورة متخيّلة يوتوبياً عن الذات وقيمها المثالية، وبمنزلة تعبير عن الفكرة الاستعمارية الأصيلة أن فلسطين قبل الصهيونية خراب، وعن الفلسفة الرومانسية عن الدولة التي ولدت في الخيال كرواية قبل أن تتجسّد في الحقيقة، وعن المعجزة التي حقّقها الصهاينة بالعمل والحب والتعب والإصرار، عن ريفييرا أوروبية نبتت في أرض البؤس الحزينة، تلك الأرض التي كان لا بدّ من أن يُطرد سكّانها وأن تُهدم قراها وأن تُفرّغ مدنها في النكبة عام 1948 كي تصبح الريفييرا حقيقة!
[1] ريفييرا الشرق الأوسط: مشروع أميركي"، الجزيرة نت، 10 نيسان 2025، https://short-url.org/1huug.
[2] المرجع نفسه.
[3] للمزيد: https://short-url.org/1cMhy.
[4] Theodor Herzl, The Complete Diaries of Theodor Herzl, vol. 1, ed. Raphael Patai (New York: Herzl Press and Thomas Yoseloff, 1960), 733-734.
[5] تيودور هرتسل، أرض قديمة جديدة، ترجمة: عبد الوهاب المسيري (القاهرة: مركز الدراسات الصهيونية، 1981)، 40.
[6] المرجع نفسه، 42.
[7] المرجع نفسه، 43.
[8] المرجع نفسه، 50.
[9] المرجع نفسه، 54.
[10] المرجع نفسه، 60.
[11] المرجع نفسه، 83.
[12] المرجع نفسه، 100.
[13] المرجع نفسه، 107.
[14] المرجع نفسه، 124.
[15] رشيد الخالدي، حرب المئة عام على فلسطين: تاريخ الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917–2017، ترجمة: صلاح منصور (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2021)، 17-18.
[16] المرجع نفسه، 25-26.
[17] هرتسل، أرض قديمة جديدة، 103.
[18] المرجع نفسه، 210-211.