المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما هي "الدولة اليهودية" وبمَ تختلف عن أية دولة "عادية"؟ - هذا السؤال المركب هو المحور المركزي الذي يدور حوله الكتاب الجديد الذي صدر في إسرائيل مؤخرا عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" (بالتعاون مع "يديعوت سفاريم"ـ دار النشر التابعة لصحيفة "يديعوت أحرونوت")، ويحاول تقديم الإجابة عنه من منظورات مختلفة نظرا لكونه "سؤالا مفتاحيا في الكينونة الإسرائيلية"، كما جاء في تصدير الكتاب، الذي شارك في تأليفه خمسة من الأساتذة الجامعيين والباحثين الإسرائيليين في مجالات مختلفة: يديديا شتيرن، بنيامين براون، كالمان نويمان، غدعون كاتس ونير كيدار.

ويقوم الكتاب، الذي يحمل عنوان "حين تلتقي اليهودية بدولة" ويحتوي على 512 صفحة من القطع المتوسط، ونُشر ضمن سلسلة "مكتبة الديمقراطية" التي يصدرها "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" (في إطار "مشروع أبحاث الدين والدولة")، على قاعدة اعتبار "إقامة دولة إسرائيل الحدث الأكثر أهمية في تاريخ الشعب اليهودي خلال القرن الأخير، وربما خلال آلاف السنوات الأخيرة حتى" وأن "اللقاء المتميز والمثير بين الدولة بوصفها جسما سياسيا حديثا وبين اليهودية بكونها ثقافة قومية لشعب عريق قد أوجد المصطلح التوليفي "دولة يهودية"، الذي ظهر في "وثيقة الاستقلال"، للمرة الأولى، ثم أصبح لاحقا جزءا مكوّنا في التعريف الدستوري لدولة إسرائيل".

ويعتبر المؤلفون والناشرون كتابهم هذا "مشروعاً متميزا، لأنه يرسم، للمرة الأولى، خارطة المواقف المتحاججة في الحياة الإسرائيلية العامة حول مسألة يهودية الدولة ـ مواقف المفكرين، الحقوقيين، السياسيين وآخرين، وجميعها تعبر عن رؤى متباينة حيال الدولة، المجتمع الإسرائيلي والشعب اليهودي".

تحوّلان مركزّيان حاسمان

يستهل البروفسور يديديا شتيرن المقدمة التي وضعها لهذا الكتاب بالسؤال: "ما هي اليهودية؟". ويردف قائلا: عاش أبناء وبنات الأجيال السالفة يهوديتهم كتعبير عن تميز متعدد الأبعاد: ديني، قومي، اجتماعي وثقافي. فبالنسبة لهؤلاء، تغذى وجود اليهود، المادي، الروحاني والإدراكي، على جميع مركّبات الهوية المذكورة معا، دون التمييز بينها. غير أن جملة من التغيرات الجوهرية في أنماط حياة اليهود خلال الأجيال الأخيرة أدت إلى تفكك حزمة الهوية هذه. ويبرز من بين هذه التحولات، بوجه خاص، اثنان مركزيان وحاسمان:

الأول ـ العَلمَنة. فقد كانت مركزية المركّب الديني في الهوية اليهودية واضحة ومفهومة ضمنا، على الدوام. هكذا كانت الحال في جميع مراحل تاريخ الشعب اليهودي: في فترة الهيكل، ثم خرابه ثم غيابه; لدى فوزه بحكم ذاتي ثم تشتته بين الأمم; في فترات الازدهار، النمو والعصر الذهبي، كما في فترات الانحطاط، الانتكاس والإبادة; في فترات الشتات في الغرب والشتات في الشرق. ولكن الملاحظ خلال القرنين الأخيرين بروز وتفضيل يهودية أخرى جديدة: أبناء وبنات الجماعة معنيون بحفظ هويتهم المتميزة، من خلال تأكيد وإبراز مركّبات القومية، المجتمع والثقافة (أو أي منها)، بينما ينفض كثيرون المركّب الديني عن أنفسهم. وبالفعل، فخلافا للمنسحبين من جادة الدين خلال الأجيال السابقة، والذين جسد ابتعادهم عن الدين رغبة في خلع هويتهم اليهودية الكلية والتحرر منها، نرى أن اليهود الذين يختارون نمط الحياة المتحرر من أي التزام ديني ـ "العلمانيون" ـ في الأجيال الأخيرة، يتمسكون بهوية يهودية كاملة وغير مهادنة، إذ يشكل الدين بالنسبة إليهم مركبا أساسيا وحيويا في الهوية اليهودية. هؤلاء ليسوا جزءا من الجماعات اليهودية المتدينة، لكنهم جزء حي من الجمهور اليهودي بمعان ومفاهيم أخرى. وقد شكل هذا التغيير منعطفاً ونقطة تحول في تاريخ اليهودية، لأنه يحدد (من حدة)، إلى أقصى حد، مسألة ماهية اليهودية.

ويقول شتيرن إن تعدد المواقف تجاه الدين في إطار المجموعة المعرّفة باليهودية والمتماثلة معها في الجيل الحالي يؤدي إلى نشوء معسكرات فكرية واجتماعية من اليهود المنقسمين على أنفسهم في القضايا الأساسية التي تخص الوجود اليهودي. فحتى لو كانوا موحدين في المصير المشترك (في داخل دولة إسرائيل، على الأقل)، إلا أنهم غير موحدين في غايات مشتركة. إنهم يعيشون معا حياة يومية تبث، تجاه الخارج على الأقل، صورة من النسيج الموحد المتجانس المسمى "المجتمع اليهودي"، غير أن تفسيراتهم لواقع حياتهم مختلفة تماما، بصورة جوهرية. ومن شأن تقسيم المجتمع اليهودي في إسرائيل على أساس علاقته بالدين أن يكشف عن خمسة معسكرات مركزية: العلمانيون، التقليديون، المتدينون غير المتعصبين، المتدينون المتعصبون والحريديم.

وعند هذه النقطة، يشير شتيرن إلى أن "هذا الكتاب لا يتطرق إلى مواقف يهود المهاجر (اليهود خارج إسرائيل) بشأن يهودية دولة إسرائيل، كما لا يتطرق أيضا إلى مواقف مواطني إسرائيل العرب بشأن الدولة اليهودية، وإنما يتركز فقط في النقاش اليهودي الداخلي والإسرائيلي الداخلي".

ثم يوضح أن البحث يتركز، بوجه خاص، في معسكرات ثلاثة فقط: الحريديم، المتدينون المتعصبون والعلمانيون، "وهي المعسكرات التي تصدر منها الأصوات الأساسية في النقاش اليهودي الإسرائيلي العام"، مع التأكيد على أن "للمعسكرين للآخرين (التقليديون والمتدينون غير المتعصبين) أهمية كبرى في نظرنا ويستحقان انتباها كبيرا، لكن مواقفهما بشأن موضوع البحث في الكتاب ـ اللقاء مع الدولة ـ لا تحمل أية مميزات خاصة".

الدولة اليهودية ـ حلبة الخلاف المركزية حول الهوية اليهودية

التغيير الثاني الحاسم في مسألة الوجود اليهودي في الجيل الحالي ـ كما يقول شتيرن في مقدمته ـ هو إنشاء دولة إسرائيل. "فقد عاش اليهود في الشتات آلاف السنين، ما أدى إلى تغييب الأبعاد الجماهيرية في اليهودية، فتبلورت كطريقة حياة أفراد، عائلات ومجموعات صغيرة". ويضيف: لكن هذا الوضع تغير مع إقامة دولة إسرائيل، إذ أصبح اليهود يسيطرون على منطقة جغرافية وانتقلوا من وضعية الأقلية المحكومة إلى وضعية الأغلبية السيادية المسؤولة عن نفسها. وأدى قيام الدولة إلى نشوء مجتمع يهودي يتيح وجود سياسة يهودية، جيش يهودي، جهاز قضائي يهودي ومجال عام يهودي. وقد شكل ذلك تجديدا ثقافيا، قوميا ودينيا مثيرا. الطاقة الجماهيرية الكامنة في الحضارة اليهودية، والتي كانت مخبأة في حلكة الشتات، أصبحت قابلة للتحقق. ولا عجب، إذن، أن دولة إسرائيل اعتُبرَت معجزة يتحقق من خلالها حلم أجيال متعاقبة من اليهود.

ويقول: كان من المفترض أن يؤدي إنشاء دولة إسرائيل، ظاهريا، إلى توضيح مسألة الهوية اليهودية. فتجميع مجموعات مشتتة وتركيزها في مكان واحد، وضع مسؤولية سياسية كاملة على أعضائها وخلق حالة من الهيمنة الثقافية في الحيز الاجتماعي ـ كان من شأنها أن تشكل، مجتمعة، مواد الأساس الضرورية لبناء الأمة. ولكن، بعد ستة وخمسين عاما من قيام الدولة، يتضح أن الدولة اليهودية، وبدلا من حسم مسألة الهوية، قد تحولت إلى حلبة الخلاف المركزية حول مضمون الهوية اليهودية. فقد أثار نجاح الصهيونية السياسية، بكل حدة، أسئلة كانت تتطلب حسماً فكريا وعمليا تتعلق بماهية الوجود الجماعي اليهودي ودلالاته. وبعث وجود دولة اليهود وأداؤها العملي الروحَ في رؤى مختلفة تنافست فيما بينها لتفسير معنى "اليهودية" ومرادها.

ومن هنا، يصل شتيرن إلى تحديد وتأطير "موضوع البحث في الكتاب": اللقاء بين مجتمع يهودي متعدد الطبقات ومعقد من حيث منظومة معتقداته وقيمه، كما لم يكن من قبل قط، وبين شكل التنظيم الأكثر أهمية في الوجود اليهودي خلال الجيل الحالي ـ الدولة، التي لم تكن من قبل، هي أيضا، بمفهومها الراهن.

يتضمن هذا الكتاب أربعة أبواب.

يرسم الباب الأول صورة شمولية عن اللقاء بين اليهود في إسرائيل والدولة، من خلال عرض وتحليل العوائق والمصاعب الأساسية التي تعترضه وتميزه. إحدى التجارب الرئيسة التي مر بها الوجود الإسرائيلي في أجيال قيام الدولة وترسيخها هي تجربة الخلاف. وقد كانت جبهة خلاف واسع وعميق، بل حاد في بعض الأحيان، يشمل عدم الاتفاق على الرواية التأطيرية الإسرائيلية، وجهة الإسرائيليين وتوجهاتهم الثقافية، طابع الحيز الجماهيري العام في إسرائيل ومكانة الدين في الدولة. وعلاوة على هذا، يجد الإسرائيليون صعوبة كبيرة في الاتفاق على الطريق التي ينبغي اعتمادها من أجل التوصل إلى حلول، توافقية أو ترجيحية، لهذه الخلافات. ويقول شتيرن: "يبدو أننا نعيش أزمة هوية تلقي بظلالها الثقيلة على الحياة العامة في جيلنا الحالي".

ومن الصورة الشمولية إلى الصورة القطاعية. فكل واحد من الأبواب الثلاثة الأخرى في الكتاب يعرض ويحلل جملة المواقف المركزية حيال الدولة، كما تتبناها كل من مجموعات / قطاعات الهوية اليهودية الرئيسة في إسرائيل.

يتمحور الباب الثاني حول مجموعة الحريديم. يعتبرها شتيرن، في مقدمته، "معسكرا كان هامشيا في السابق، لكنه يجتذب اليوم ـ بسبب وزنه العددي الكبير ـ اهتماما جماهيريا واسعا جدا". والمعروف أن الحريديم، إجمالا، لا يتبنون الأيديولوجية الصهيونية، التي يعتبرون أنها "تسعى إلى خلق هوية وشعب يهوديين جديدين، كنتاج للفكر القومي الحديث الذي ظهر على خلفية التطورات في الغرب، ولذا فهي مرفوضة". والحريديم ليسوا معنيين، ولو في الممارسة على الأقل، بالاندماج في المجتمع الإسرائيلي أو الانخراط في ما يسمى "إعمار البلاد". أما علاقتهم بالدولة فتتراوح بين البرود والجفاء، من جهة، والرفض المطلق من جهة أخرى. وهم يتخبطون في أسئلة أيديولوجية وعملية صعبة يثيرها لديهم مجرد وجود الدولة، فيما يطرح قادتهم إجابات مختلفة، بل متناقضة أحيانا.

ومع هذا، يشير شتيرن إلى أن الكتاب يميّز بين ثلاثة تيارات في هذا المعسكر: الأول ـ التيار الحريدي المعتدل، الذي يمارس تعاطفا فعليا مع الدولة ومصيرها، حتى وإن كان لا يوليها أهمية دينية، بل يعتبرها مجرد أداة لا أكثر. ويشمل هذا التيار، حسب تصنيف الكتاب، مثلا: حركة "حباد" وحزب "شاس". والثاني ـ هو تيار راديكالي يتبنى مواقف متطرفة في معاداة الصهيونية، ينكر أي حق وجود لأي كيان سياسي يهودي قبل قدوم المسيح (بغض النظر عن ممارسات هذا الكيان) ويعتبره تمردا على ملكوت السماء. ويشمل هذا التيار، طبقا للمؤلفين: الطائفة الحريدية، حركة "نيطوري كارتا" ومجموعات متطرفة أخرى. أما الثالث، فهو "التيار المركزي" كما يصفه الكتاب، ويتبنى مواقف براغماتية في القضايا السياسية، من منطلق الحفاظ على التعايش المشترك مع الأغلبية في الشعب الإسرائيلي. ويعتبر هذا التيار نفسه غير صهيوني مؤكدا: "نحن في الشتات في الأرض المقدسة". ويركز جل اهتمامه في الجهد الثقافي ـ التربوي من خلال تعزيز وتحصين مؤسساته التعليمية والدينية. ويشمل هذا التيار، أساسا، حركة وحزب "أغودات يسرائيل".

ويتمحور الباب الثالث حول المعسكر الصهيوني ـ الديني. وهو المعسكر الذي كان لاعبا ثانويا فقط في الحياة العامة الإسرائيلية خلال السنوات التي سبقت إقامة الدولة والعقود الأولى على قيامها، بينما أصبح لاحقا أحد اللاعبين المركزيين في "الدراما الإسرائيلية"، كما يصفها شتيرن. ويزداد وزن هذا المعسكر باستمرار، خلال السنوات الأخيرة، في كل ما يتصل بتحديد الأجندة القومية، سواء على المستوى الفكري أو المستوى العملي، حتى أصبح وزنه هذا يفوق وزنه العددي والنسبي من مجمل السكان اليهود في إسرائيل. وهو يقف اليوم، مرة تلو أخرى، في واجهة الخلاف حول قضايا عديدة في الحياة العامة الإسرائيلية، بل يشكل محركا للفكر والعمل. ويتميز المعسكر الصهيوني ـ الديني بتماثله التام مع الدولة، رغم أنه يجد صعوبة في تقبل كونها دولة غير دينية، من حيث تعريفها ومن حيث طرق إدارتها وأدائها. ويحدد المؤلفون ثلاثة مقترحات/ نماذج يطرحها هذا المعسكر لتسوية وتنظيم العلاقة بين الدين والدولة: نموذج الفصل (الذي يفصل بين الهوية الصهيونية والهوية الدينية)، نموذج الكلّية (الذي يسعى إلى تغيير طابع الدولة العلماني واستبداله بالطابع الديني) ونموذج القبول (الذي يقبل الدولة كما هي، لكنه يسعى إلى إصلاحها وتخفيف حدة الاحتكاكات والتوترات بينها وبين الدين). وهذا الأخير هو "النموذج الأكثر شيوعا"، كما يصفه شتيرن، مشيرا إلى "تغيرات عميقة" حصلت في داخل هذا المعسكر خلال الجيل الأخير تمثلت، أساسا، في "تعميق وتعزيز البُعد الديني، بروز ميول مسيانية والتشديد على قدسية أرض إسرائيل"، وهو ما أحدث أيضا تغييرا في علاقة المعسكر الصهيوني ـ الديني بالدولة، قد تكون له نتائج بعيدة المدى وعميقة الأثر.

ويتناول الباب الرابع، بالعرض والتحليل، مواقف مفكرين ومثقفين من المعسكر العلماني حيال يهودية الدولة، وهو المعسكر الذي ينتمي إليه "واضعو أسس انبعاث الشعب اليهودي السياسي وقادة الدولة حتى اليوم". ويقول شتيرن إنه بينما يعتقد المعسكران الصهيوني ـ الديني والحريدي أنهما "يَعرفان" ما هي اليهودية وأن تخبطاتهما تتمحور حول مكانة الدولة ومؤسساتها في سياق التميز اليهودي "الواضح ضمنا"، يبدي المعسكر العلماني، في المقابل، قبولا تاما للدولة الحديثة بوصفها معطى أساسيا ـ فصلاحياتها وأهميتها هي المرسى الذي يبحر منه النقاش ـ لكنه قلق حيال السؤال حول ماهية اليهودية (أهي تقاليد دينية أم ثقافة قومية؟) وإسقاطاتها على الكيان السياسي. وتتعلق الأسئلة المركزية بمكانة الدولة ودورها كمسرح لبلورة وتجسيد التراث، الثقافة والهوية اليهودية، فضلا عن المحنة الناجمة عن الابتعاد عن الدين، الذي شكل في الماضي القاعدة الأساسية للحياة الاجتماعية والسياسية اليهودية.

وفي الختام، يقول شتيرن في مقدمته إن أبواب الكتاب، معا، "تعرض تشكيلة واسعة من وجهات نظر اليهود الإسرائيليين بشأن الدولة اليهودية ودلالاتها. ويدل تعدد هذه الآراء ووجهات النظر على عمق الخلاف الإسرائيلي، الذي يغذي ويكرس العوائق والعقبات أمام استمرار الوجود اليهودي في إسرائيل، الشعور المستمر بعدم الراحة والمرارة الذي يولده الانتماء الإسرائيلي في هذا الجيل، بينما يثري الحياة العامة في إسرائيل، في المقابل، ويغني سوق الأفكار فيها ويوفر طاقة ثقافية كبيرة. وفي كل الأحوال، تشكل المواقف المتباينة حيال الدولة اليهودية ومعانيها قاعدة التوتر الأيديولوجي والاجتماعي الذي نعيش في خضمه"!

"لا وجود لقومية إسرائيلية"!

يؤكد أحد مؤلفي كتاب "حين تلتقي اليهودية بدولة" البروفسور يديديا شتيرن منذ فترة طويلة أنه لا وجود لـ"قومية إسرائيلية".

وكان آخر وقائع ذلك عندما رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا العام 2013 التماسًا يدعو إلى تسجيل "الإسرائيلية" كقومية.

ومما كتبه في ذلك الحين:

"ما زالت أحجية الهوية (الإسرائيلية) تشغل سوق الأفكار في إسرائيل. ومن حين إلى آخر يحاول أحد المتنازعين حول هذه المسألة الدفع بموقفه قدماً عن طريق استصدار قرار قضائي يتبنى ميوله وتفضيلاته في هذا الصدد.

وتشكل بنود- حيثيات- الدين والقومية في تسجيل النفوس في إسرائيل إحدى الساحات التي يدور فيها الصراع المستمر منذ سنوات طوال حول قضايا وشؤون "الشعب والقومية، والدين والدولة، والتهويد حسب أصول الشريعة الدينية اليهودية أو ليس حسب هذه الأصول، ومن هو اليهودي وغير اليهودي".
وهكذا يتواصل مسلسل هذا الصراع والجدل.

في العام 2013 طلب من المحكمة الإسرائيلية العليا مجدداً الحسم- بعدما كان الموضوع قد بحث قبل أكثر من أربعة عقود أمام رئيس هذه المحكمة شلومو أغرانات- في مسألة ما إذا كانت الإسرائيلية هي فقط مسألة مقولة مدنية أم أنها أيضاً مقولة قومية. وقد طالب الملتمسون أمام المحكمة العليا- ومن ضمنهم عوزي أورنان، أوري أفنيري، شولاميت ألوني، يهوشواع سوبول، بالإضافة إلى عدد من المواطنين العرب- إصدار حكم مبدئي- تصريحي- يقضي بأنهم ينتمون إلى القومية الإسرائيلية، ودعوا إلى وجوب تغيير فحوى بند القومية في سجل النفوس (السكان)، بحيث يستعاض عن المقولات الإثنية والدينية مثل "يهودي" و"عربي" أو "درزي"، عن طريق تحديد "قومية الدولة بمفهومها القانوني"، بمعنى "إسرائيلي".

على الرغم من أن التسجيل في حد ذاته ليس له سوى مغزى فني فقط، إلا أن الملتمسين يسعون منذ سنوات طوال إلى تغييره، نظرا لأن التسجيل الحالي حسب رأيهم، والذي يركز كما أسلفنا على الأصل الإثني والديني، يشكل "أداة انتماء"، تستدعي وتتيح المس بالمساواة بين المجموعات السكانية ذات الأصول الإثنية المختلفة (اليهود والعرب). وقد رفض القاضي نوعام سولبرغ الالتماس، عندما بحثه كقاض في المحكمة المركزية، معللا ذلك بقوله إنه يعتقد أن المسألة هي في جوهرها مسألة سياسية- قومية- اجتماعية وليست قانونية بالذات. فمسألة وجود، أو عدم وجود، قومية إسرائيلية محددة المعالم، ليست أمراً تتمتع المحكمة بأفضلية نسبية للبت فيه، كما أن الانعكاسات والتداعيات التي ستترتب على خلق الوضعية أو المكانة الجديدة، ستكون كارثية ومصيرية بالنسبة لصورة الدولة وطابعها ومستقبلها.

غير أن المحكمة العليا قررت أن الموضوع قابل للنقاش والبت القضائي (ليس فقط من الناحية المعيارية وإنما أيضا من الناحية المؤسسية)، لا سيما وأن بنود تسجيل النفوس نوقشت وبحثت مرارا في الماضي أمام المحاكم الإسرائيلية. وعليه توجهت المحكمة العليا نحو بحث جوهر الموضوع. وقد ادعى الملتمسون بأن نموذج القومية الملائمة هو نموذج القومية المدنية، والذي تعتبر القومية والمواطنة بموجبه وحدة واحدة لا فرق بينهما. ففي فرنسا، على سبيل المثال، يعتبر جميع المواطنين الفرنسيين أبناء القومية الفرنسية، وكل من هو غير مواطن في الدولة لا يمكن له أن يكون ابن هذه القومية. ويعارض الملتمسون النموذج البديل، نموذج القومية الإثنية- الثقافية، الذي ينبثق فيه الانتماء للقومية من سمات موضوعية مشتركة من قبيل: اللغة، الدين، الثقافة والذاكرة التاريخية الجماعية. وقد قضت المحكمة العليا، بحكم الأمر الواقع، بأن القانون الإسرائيلي يرفض نموذج القومية المدنية، وهناك دلائل قاطعة على ذلك، وعلى سبيل المثال فإن تسجيل النفوس ذاته يتضمن فصلا بين "المواطنة" و"القومية"، ويؤكد بذلك على عدم وجود تماثل بين الأمرين، إذ أن المواطنة (أو الجنسية) إسرائيلية في حين أن القومية هي إثنية- ثقافية.

ولكن السؤال: هل توجد قومية إسرائيلية بالملموس أو "على الأرض"، حتى وإن لم يكن القانون قد اعترف بها بعد؟!
هذه المسألة تنطوي على أهمية بالغة، ذلك لأنه في القضية السابقة أكد رئيس المحكمة الإسرائيلية العليا أغرانات أن إصدار قرار حكم مبدئي بشأن وجود قومية إسرائيلية يستوجب إثبات وجودها بمعايير موضوعية، وأنه لا يكفي أن الملتمسين يشعرون، من الناحية الذاتية، بأنهم أبناء قومية إسرائيلية.

وعليه رفضت المحكمة العليا الالتماس الجديد، فـ 65 عاما من "الاستقلال" و"السيادة الإسرائيلية" لم تنتج قومية جديدة، إسرائيلية، يتشارك فيها أبناء الديانات المختلفة، والمجموعات الإثنية المختلفة في إسرائيل.

هل تعتبر قراءة المحكمة الإسرائيلية العليا للواقع قراءة سليمة؟!

لا شك في أن غاية الملتمسين نبيلة وسامية: منع التمييز للأسوأ ضد العرب في إسرائيل. غير أن الطريق التي اختاروها لتحقيق هدفهم- الاعتراف بوجود قومية إسرائيلية- هي طريق مرفوضة وباطلة، وقد أشارت المحكمة العليا إلى عدد من انعكاساتها بعيدة الأثر، إذ يترتب عليها تقليص اليهودية إلى أبعاد دينية خلافاً للرأي السائد وللمفاهيم والمنطلقات الأساس للصهيونية وأصحاب فكرتها المركزيين وفي مقدمهم هرتسل، كما أن من شأنها تجزئة اليهودية إلى قوميات مختلفة (إسرائيلية، أميركية... إلخ) وبالتالي سينشأ فصل بين يهود إسرائيل ويهود الشتات، كذلك سيضطر مواطنو إسرائيل اليهود إلى اختيار دائرة انتمائهم- إسرائيليون أم يهود؟.

وهذا ما ينطبق أيضا على "عرب إسرائيل" الذين سيفقدون هويتهم القومية الخاصة وسيضطرون إلى أن يكونوا إسرائيليين في قوميتهم. إلى ذلك ستكف إسرائيل عن كونها دولة قومية للشعب اليهودي، وسيصبح التعريف الدستوري للدولة كـ "يهودية وديمقراطية" علامة ميتة.

لقد اعتقد مؤسسو الدولة بأن قيامها (إسرائيل) في حد ذاته سيحل لغز الهوية القومية الذي أقلق يهود الشتات، غير أنه اتضح أن العكس هو الصحيح، فالسيادة تؤسس (تشكل) ساحة الصراع على الهوية من خلال البعد الملموس الذي تعطيه لهذا الصراع. هذا فيما يريد أصحاب الالتماس حل اللغز بواسطة محو الهوية القومية اليهودية، وهو ما ترفضه المحكمة العليا والأكثرية العظمى من يهود إسرائيل والشتات.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات