المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقلم: أساف عنبري

إن الطريق الوحيد لتحمل ما يجري هنا في السنوات الاخيرة، هو الإمعان في الواقع الاسرائيلي على أنه آلام ولادة وليس حشرجة احتضار.
ومن يبحث عن قرائن على احتضار دولة اسرائيل، سوف يجدها بوفرة في جميع ميادين الحياة التي باتت أكثر إحباطا من يوم الى يوم. وهذا لا يتطلب أي جهد، إنه فقط يحتاج الى الكثير من الورق. ولكن حتى إن كان اليأس مبررا من ألف زاوية، فإنه ليس مبررا من الزاوية التسامحية للتاريخ. لأنه بنظرة تاريخية، فإن اسرائيل تتشكل. إنها لا تتفكك، بل تتشكل. والولادة أمر مؤلم جدا. والولادة الحقيقية هي ما تجري حاليا، وليس ما جرى عام 1948. والأسئلة الاساسية حول وجودنا في المنطقة، حول الهوية اليهودية، أو "العبرية" أو ثمة من يقولون "المدنية" للدولة التجريبية هذه، الاسئلة حول جوهر الرسمية (في ظل غياب الدستور)، الاسئلة حول مكانة ثقافتنا بين الشرق والغرب، الاسئلة حول الرابطة بين اليهودية والرفاهية، الاسئلة القبلية الطائفية المهاجرية ، الاسئلة الاساسية التي أخفيناها عقودا طويلة من الزمان، تنهض فجأة لتصفعنا بقوة في وجوهنا. ومن الأفضل أنها نهضت.


إن الحقيقة المؤلمة ظهرت. وهذا وهم. فالانتباه كان منصرفا، وبحق، نحو البناء، الحروب الوجودية و"فرض الوقائع على الأرض" (الاستيطان والزراعة، استيعاب المهاجرين، الاسكان، التصنيع) في اسرائيل البنغوريونية، حيث جرى إغفال كل شيء آخر. و"الوضع الديني القائم" كان بديلا عن النقاش. ولم يكن هناك من توجه اليه أصابع الاتهام في هذا، عندما تنشئ، عندما تحارب بشكل عاصف، ليس هناك وقت للتفكير. وقد انتهت المهلة وانتهى الإغفال القومي. والمواجهة الحقيقية، المؤلمة والمثيرة، مع جذور مشاكلنا، تحدث الآن في نهاية المطاف. على شاكلة آلام ولادة ومن دون مخدر.


"2"
لذلك تعود وبقوة الاسئلة التي أغفلت (أو أخفيت) في مرحلة "جيل الدولة": الاسئلة التي ميزت نقاشات "جيل الانبعاث": آحاد هعام وبرديتسباسكي، برنار وبياليك، غوردون وبيرل، الحاخام كوك وبوبر، هو غوبيرغمان، ليفوفيتش، غرشوم شالوم وآخرين من المفكرين والمبدعين في مرحلة ما قبل قيام الدولة، وكان هناك الكثير من النعاج الجريئة في أفكارها وهي أكثر من تلك التي جاءت بعدها حتى العقد الأخير. وقد لامسوا دون تردد مسلحين بضلوعهم في مصادر اليهودية، أو بالمخزون الثقافي الأوروبي المعضلات الكبرى التي فقط الآن عادت الى طاولة النقاش. فمنذ قيام الدولة وحتى العقد الأخير سادت هنا مشاعر الرضى عن الحاضر وعن التجربة المباشرة وعبر تعامل شبه لفظي، غير مبرر، لشيء شبه بوريس، شبه نيويورك في الفن والأدب، في المسرح والسينما، في الفكر والصحافة، وعدا ذلك كل شيء شاذ.
دانتسيجر وكاديشمون، سافح يزهار، دافيد شاحر، بنحاس ساديه وداليا رابيكوفيتش في قصائدهم الأولى، عاموس كينان، ع هيليل عبروا عن موقف شبه تقديسي، شبه سلفي. ويورام كانيوك، حانوخ لفين، يوسف باريوسف ويوئيل هوفمان أعربوا عن موقف معاكس، مولدون يتماثلون تحديدا مع موقف المهاجرين، مع تجربة المقتلعين، مع "المصير اليهودي".
أما فيزلتير، تومركين، دان تسلكا، يورام برونوفسكي (الذين لم يودلوا هنا، وإنما "هاجروا" وهم أطفال) فأفصحوا عن موقف أوروبي، مثقف بشكل تظاهري، ضد نزعة "الافتقار" (للمادة والفكر) وضد التأثير الاميركي (المادي، والحماسة السعيدة، والانقطاع عن تاريخ الثقافة الغربية).
ومن دون ريب، كانت هناك اتجاهات مثيرة للاهتمام لوحظت خلال نصف القرن الماضي. ولكن هل يمكن الاكتفاء ب"اتجاهات مثيرة للاهتمام"، بالمحاولات المؤدبة والمعكرة فكريا؟ وهل المطلوب لنا "ثقافة" بالمعنى البرجوازي ("الثقافة" كصورة ملطفة للثرثرة) أم أن المطلوب لنا ثقافة تصوغ وتحدد الاسئلة المبدئية والمشكلات المصيرية؟
لقد أنتج جيل الدولة الكثير من الأمور الجيدة، فهو لم يعان من أي نقص في المواهب المؤكدة، ولكن يبرز إحساس عمومي بالتراجع الفكري، بالسقوط من مستوى الحوار ومستوى الابداع الذي نشأ في مرحلة ما قبل الدولة (جيل الانبعاث). وينبغي الإقرار بذلك، ليس من منطلق حنين عاطفي الى الأجداد المؤسسين لثقافتنا العبرية، وإنما من منطلق المقارنة الانتقادية والصادقة بين إنتاجهم وإنتاج من جاؤوا بعدهم. إذ لم ينتج أي شاعر اسرائيلي مثيلا لما أنتجه بياليك، أو مثل أوري تسفي غرينبرغ، الرافعة الأدبية التي حملت الجبل العبري اليهودي الذي صنعه التاريخ. كما أن أي صهيوني متدين من جيل الدولة لم ينتج مثيلا لما أنتجه الحاخام كوك، أو غوردون أو هوغو بيرغمان، فكر ديني ينطوي على تجديد، وكذلك لم يظهر أي أديب اسرائيلي عالم اللغة الهائل كالذي أظهره عجنون في كتبه، ولم ينتج أي اشتراكي اسرائيلي، ذلك المزيج بين المشروع الاجتماعي ("إصلاح العالم") والقومي كالذي أنتجه بيرل أو بوبر، كما أن أي مولود في إسرائيل "صبار" واع لذلك مثل ديان الذي كانت هويته فلسفة حياة لم يكن استنتاجيا أبدا مثل راتوس.
إن السمات المميزة للمفكر في جيل الدولة هي سمات اليساري الليبرالي، رجل الضمير والسلام الذي يحمل قيم تورغناييف وتشيخوف: الاعتدال، التسامح، الحساسية تجاه الظلم. وهذه سمات عاموس عوز ويهوشع وغروسمان (وقبلهم سامخ يزهار)، وهي سمات آساكيشر، يرمياهو يوفال، غرشون شاكيد دان ميرون ومعظم الكتاب ذوي الشعبية. فالضمير عندهم هو النزعة، في جيل الدولة، هو الذي يظهر بدلا من فلسفة الحياة عند معظم البارزين بين أبناء هذا الجيل. والنزعة الانسانية لديهم هي نوع من المزاج، موقف نفسي أكثر مما هي برنامج واضح ومبرر اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا أو سياسيا. ومعظم هؤلاء هم من العلمانيين، خريجي الحركة العمالية علمانية ويسارية لم يفحصوها أبدا ولم يستوضحوا بدائلها، وإنما تقبلوها كبديهية. إنتلجنسيا ليبرالية من جيل الدولة لم تتميز بإظهار الاسئلة التي تتطلب موقفا مرتبا وليس فقط الضمير، وإنما بإخفائها.


"3"
لقد أعفى الاحتلال أناس الضمير، وبشكل تام، من الانشغال بقضايا أخرى. فالاحتلال، لبنان، الانتفاضة، اغتيال رابين، أحداث وفرت لليبرالي الضميري القاعدة المريحة للاحتجاج والحضور، وفرت له الدور الحضاري لمعارضة مريرة. وهذا دور غير متطلب من الناحية الفكرية. وكان أكثر تطلبا أن تقول شيئا واضحا عن الاشتراكية، عن الضرر في عدم وجود دستور لإسرائيل، عن قانون العودة، عن تقسيم الأراضي في الدولة، عن صورة الزواج والطلاق والمقابر هنا، عن مستوى الضرائب، عن أسئلة "بوتقة الانصهار" (التي عادت بكامل شدتها مع الروس والأثيوبيين)، عن الفعالية القضائية ("كل شيء يخضع للقضاء")، عن علاقاتنا مع الولايات المتحدة، عن البرامج التي يجري تدريسها في المدارس الرسمية (هل تربي يهودا؟) عن فحوى وصلاحية مفهوم "الثقافة العبرية".
صحيح أن الأدباء والفنانين ليسوا مضطرين لإبداء الرأي في القضايا الاقتصادية، القضائية، التربوية، فهم ليسوا خبراء في أي مجال سوى مجال إبداعهم، ولا ينبغي الطلب منهم أشياء سوى جودة عملهم الفني. ولكن أدباء جيل الدولة الذين لم يقوموا فقط بكتابة قصص، وإنما طوال حياتهم، كتبوا مقالات في السياسة، لا يستطيعون التباهي بهكذا تبرير يصلح فقط للأدباء الذين تجنبوا تقديم المواعظ. فإذا عمل الأديب ككشاف اسرائيلي، وإن تطلع للتأثير في الجمهور (الاعلامي والسياسي، الخارج عن نطاق الأدب)، من المسموح به مطالبته بإبداء موقف من الاقتصاد والقضاء والتعليم، وليس فقط من الاحتلال. والضمير ليس حجة، بل انه غير ذي صلة، عندما يتعلق الأمر بقضايا تتطلب، أولا، الخبرة وثانيا الاختيار بين السيئ والأسوأ، أو بين جدول أعمال الثقافة والهوية، وليس الأخلاق فقط.
وإذا كان هذا المطلب يسري علي الأدباء وكل المبدعين الذين يبدون آراءهم في "الوضع"، فإنه يسري بشكل أشد على المفكرين من رجال الاكاديميا، الفلاسفة، المؤرخين، وعلماء الاجتماع الذين يقتحمون وسائل الاعلام بين الفينة والأخرى لإبراز رأيهم السياسي. وقد انجذب معظم مفكري جيل الدولة الذين يظهرون مشاركة في الحياة العامة، وكذلك أدباء هذا الجيل، الى الاحتلال والى دور "صوت الضمير". فمتى سمع الجمهور أو قرأ فيلسوفا اسرائيليا إلا إذا خرج على الجمهور برسالة سياسية بالمعنى الضيق للكلمة؟
لقد تساجل أحاد هعام وبرديشباسكي حول طابع وغايات الأدب العبري.
وتساجل غرشوم شالوم مع بوبر حول مفهوم "اليهودية" واتهمه بأنه يقدم لليهودية تفسيرا غير تاريخي، وبالتالي غير جدي وغير صهيوني.
وتساجل أردون وزريتسكي وصاغا موقفين متعارضين: الأول نصوصي رمزي يهودي والثاني شعوري حديث أوروبي.
وصاغ روبين وغوتمان، مهندسا العشرينيات من المدرسة "الشرق أوسطية" بالألوان والحجارة نزعة شرقية وقف قبالتها في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات مهندسو "النزعة الأممية" ورسامو الجسد العاري والتماثيل التشكيلية.
وتساجل بن غوريون وجابوتينسكي وهما من القراء المتحمسين للتاناخ حول أهداف المشروع الصهيوني من خلال الاعتماد المتباين جدا على البرنامج التوراتي.
ورفض الحاخام كوك "توراة الخارج" وفتاوى الشتات الصادرة عن المؤسسة الحاخامية، وبالمقابل حاجج ليفوفيتش بعدم قدسية الأرض وعدم قدسية الشعب وبالتأكيد لا قدسية الدولة، ولذلك فإن التوراة (الشتاتية) هي التوراة و"العمل الانقاذي" الصهيوني الديني ليس سوى نوع من الفاشية والعمل الأجنبي وتجديد للشباتية.
وحاجج كورتسفيلي، مقابل راتوش أنه لا مجال لإنتاج ثقافة "عبرية وليدة" تساوي في مستواها التراث اليهودي (الذي اعتبر كورتسفيلي أن ضياعه في إسرائيل يعادل الكارثة).
وحاول حاييم كوهين، الذي درس في مدرسة دينية وتعلمن، ومناحيم ألون رجل التوراة، طوال حياتهما القضائية، بناء الجسور بين القضاء العبري والقضاء المدني.
عندما صاغ كل هؤلاء أسئلة وأجوبة في محاور الخلاف حول الثقافة والهوية، لم يتم إدخال "الضمير" في السجال القيمي. لم يكونوا "رجال ضمير" وإنما مفكرين، أدباء، مبدعين، قضاة وزعماء يمتلكون برنامجا، لا قلبا طيبا وحساسا فقط. وكانت لديهم أولويات وثقافة رفيعة، ولديهم وضوح وسمات لا ينطبق عليها وصف سوى "التحليق". كانوا رجال الفكر والعمل الذين أسسوا اسرائيل ووقعوا أسس الثقافة.


"4"
وعقد التأسيس، الذي يمتد من عام 1948 1958 حيث كانت حرب الاستقلال بدائية وعملية سيناء وتوابعها في نهايته، كان عقدا شلت فيه الأفعال القوية القدرة على التفكير القوي والتحليق قليلا فوق الواقع. والسنوات الكبيرة وعديمة الفكر تلك مرت باستيعاب أمواج هائلة من المهاجرين، وبازدهار البناء والصناعة وإشاعة الكهرباء وشق الطرق وإقامة الأجهزة الرسمية السلطوية، الأمنية، الاقتصادية، الصحية، التعليمية، الثقافية وهذه المرحلة التنفيذية بلورت اسرائيليين "من حياة فكرية كبيرة، من دون حب كبير، من دون فكر... من دون شحنة ثقافية عبرية وإنسانية عامة ومن دون رؤية" كما كتب ماتي ميجد عام 1950.
ويقتبس إيهود لوز في كتابه "المرور في وادي يابوك" عن ماتي ميجد وأدباء آخرين رأيهم في الاسرائيلي النموذجي المعاصر، ويلخص ذلك بأنه "نموذج معاد للمثقف يجسد نفسه أساسا في نشاط ملموس مكثف... ولكن عالمه الروحي والنفسي ضيق ولا يشذ عن حدود أرض اسرائيل". ويذكر لوز على سبيل المثال في كتابه دان ميرون واليعزر شافيد بشأن الانتماء الثقافي والتاريخي لأبطال سافح يزهار (وبالمناسبة فإن شافيد قال ذلك أيضا عن كل الأدب الذي نشأ في اسرائيل)، وأقوال زيفا شامير عن أن السمة المركزية في الأدب الوليد هو أن "المواضيع اليهودية الكلاسيكية... اختفت وصارت أثرا بعد عين".
وكتبت أنيتا شابيرا أشياء مشابهة عن العالم المحدود ل"الصبار"، وكذلك كتب عمانويل سيفان وعوز ألموغ. ويقتبس لوز عن إيهود بن عيزر الذي حذر من بلورة وصياغة "الاسرائيلي المجندة كل قواه وحواسه لمهمة واحدة: حماية الوجود المادي، القومي وضد العدو ولا تهمه أية قضية كونية أخرى"، ويوسف اورن الذي كتب "اننا بتنا مخصيين كمبدعين أصيلين للثقافة، كشعب تميز دوما بقدرته الثقافية". إذ ان "أثر الدولة يفقد الشعب عبقريته التي أقامت له مكانا خاصا بين باقي شعوب الأرض".
وهكذا فإن الوعي الذاتي لدى أبناء جيل الدولة هو وعي المحدودية الثقافية والتدني الفكري مقارنة بأعلام مرحلة ما قبل الدولة. ولو كانت هذه مجرد انتقادات تأتي من الخارج، كانتقادات كورتسفيلي في بداية عهد الدولة او كتلك التي يطلقها منذ سنوات جورج شتايز، لما كان من المنطقي الارتباط مع جوقة التحقير هذه. ولكن إن كان جيل الدولة يعتبر نفسه جيلا ساقطاً فإنه ليس في اتهامه بالسقوط أي استخفاف أو تشهير به. وإذا كانت النخبة الثقافية التي أسست دولة اسرائيل هي "نخبة من دون ورثة" حسب عنوان كتاب العالم الاجتماعي يونتان شابيرا، وإن كان جيل الدولة يرى نفسه كمن لا يستحق أن يكون وريثا، فليس هناك من يستطيع الزعم بأن هذا تفسير مضلل.


"5"
وفي العقد الثاني لدولة اسرائيل، من عملية سيناء حتى حرب الأيام الستة، تحولت نخبة مثقفي جيل الدولة من التكيف الى الانتقاد، وفي العقد الثالث، من حرب الأيام الستة حتى الانقلاب السياسي عام 1977، تحول هذا الجيل من الانتقاد الى المرارة الاحتجاجية. وكان أ.ب يهوشع جنديا في العشرين من عمره وعاموس عوز في السابعة عشرة من عمره عندما وقعت حرب سيناء. وقد دخلا الى الأدب والى المشاركة السياسية في ظل حرب الخيار العدوانية هذه، التي تحولت فيها اسرائيل من داوود الى جوليات (سواء باتفاقها مع قوتين عظميين استعماريتين، او ب"انتصارها" الفظ على مخيمات اللاجئين في قطاع غزة او بتقديسها للدولة والجيش والشخصية البن غوريونية والديانية التي ميزت الطغمة القومية بعدها). وكما هو معلوم فإن سكرة القوة بعد عملية سيناء كانت صحوة مقارنة بسكرة القوة بعد حرب الأيام الستة، مثلما كان دخول الجيش الاسرائيلي مخيمات اللاجئين عام 1956 فعلا لطيفا مقارنة باحتلال المناطق عام 1967. وكتاب "حوارات مقاتلين" (الذي يبدأ بعبارة: "لم نعد من الحرب منتصرين"، نشر فقط بعد أربعة شهور من حرب الأيام الستة: وكان عاموس عوز وهو في الثامنة والعشرين من عمره أحد المبادرين والمشاركين في هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره الوثيقة الاساسية ل"اليسار الجديد" الحمائمي الضميري.
وينبغي أن نتذكر أن "اليسار الجديد" تشكل في الولايات المتحدة، وأوروبا وهنا في الوقت نفسه. واحتج اليسار في الولايات المتحدة على الحرب في فيتنام وفي أوروبا نشأت "ثورة الطلاب". وفي أجواء الاحتجاج، الغربية عموما، حيث أثارت فيتنام وبراغ وغزة الضمير نفسه، استبدلت النزعة القديمة على شاكلة الحركة العمالية، باليسارية الجديدة لشبان جيل الدولة. وتحول منتجون غير مثقفين وغير مؤثرين في مستواهم الاخلاقي، مثل أوري زوهر ودان بن اومتس، مثلا، الى أبطال لثقافة اليسار الجديد، لأن ضميرهم مقابل الاحتلال (ومقابل المؤسسة الرسمية) كان حينها كل المطلوب بدلا من الفلسفة السياسية. وبالفعل حظي ليفوفيتش بمكانة رفيعة لأنه أدان الاحتلال، ولم يغير من الامر شيئا لدى جمهور مستمعيه انه قال ما قاله من منطلق رؤية دينية وليس "إنسانية" العلمانيين. لقد كان ذلك العقد الممتد من نهاية الستينيات حتى الموت النهائي لليسار القديم، ل"ملكة الحمام" و"تنظيف الرأس". للسخرية الفوضوية من كل شيء يتحرك هنا، مع سخرية حادة جدا غطت على ضبابية الموقف الذي يجري التعبير عنه (فاليأس الشامل ليس موقفا يتخذه أناس ناضجون، والنقد الاجتماعي من أناس ناضجين هو تصويت ضد سوء محدد وباسم خير محدد). وفي سنة الانقلاب السياسي نشرت روايتا "المحب" ليهوشع و"مذكرة" لشبتاي. والروايتان هما نعي أدبي ("اسرائيل القديمة" الحيفاوية العمالية (والتل أبيبية عند شبتاي) وعبرتا عن تعلق حنيني بجيل الدولة وشبه استسلام للحاضر غير المفهوم، الخطر، اليميني، لصعود الشرقيين، المتدينين الحريديم.
وفي ذلك العقد غدا يهوشع وعاموس عوز زعماء اليسار الجديد في الأدب وخارجه في الاعلام. وبعد عقد من ذلك انضم اليهم غروسمان وشاليفا، ومنذ ذلك الحين تقود هذه الرباعية الأدبية الاعلامية تمثيل اليسار ليس فقط في اسرائيل وإنما صارت "واجهة عرض" وسفارة صوت الضمير الذي وضع جيل الدولة مقابل اسرائيل وتحدث باسمها ايضا. وفي قاعدة النزعة الجماعية لهذه الرباعية إيمان بنوع من "السوية الاسرائيلية" (أي موقف اليسار نفسه) الذي عليه ان يحمي البلد من "جنون" كل موقف مغاير (وجميعها مواقف "مجنونة"). وكتاب يهوشع عام 1980 "من أجل ان نكون طبيعين" هو إعلان غطرسة ومحدودية "الاسرائيلية" هذه التي ليست "اسرائيلية" وانما تشرذمية وجزئية، لأن "الطبيعي" عنده ان اسرائيل هي مزرعة مسيجة لليبراليين علمانيين من صنف جيل الدولة.
وفي مؤتمر عقد في جامعة تل أبيب عام 1997 قال يهوشع: "لو طلب مني إعطاء عنوان بجملة واحدة عن إدراك الهوية لدى جيل الدولة حسب رأيي لقلت: ان معنى الاسرائيلية هو اليهودية الكاملة". وبعد ذلك في خطابه عاد وقال ان "الاسرائيلية كهوية... هي اليهودية الكاملة". و"الاسرائيلية" (كما يراها يهوشع هي هوية متملصة) تشمل إذن ال"يهودية"، لا العكس. ف"الاسرائيلية" أكثر ثراء من "اليهودية"، التي هي القاعدة الثقافية الكيانية لشعب اسرائيل. وعليكم الانتباه لنزعة السيادة. انتبهوا الى الرضى عن الذات. هذا هو جيل الدولة "الطبيعي".
وفي عام 2000 كتب عاموس عوز في مجلة "ميكاروف" (عن كثب) "انني لا أستخدم كلمة "اليهودية" لأنها تمثل فقط جزءا، جزءا من الزمان وجزءا من مساحة الثقافة الاسرائيلية". ومن الوجهة الظاهرية يبدو ذلك جيدا، فالثقافة العبرية من التاناخ وحتى عوز نفسه هي تصنيف واسع اكبر فعلا من الثقافة "اليهودية" الشتاتية. ولكن ما هي "الثقافة العبرية" في نظر عوز، التي باسمها يترفع عن كلمة "اليهودية"؟ ويكتب عوز ان "شارة الثقافة العبرية هي ربما مركزية قيمة الانسان الفرد الذي خلق في صورة وغدا عالما بكامله، وحياته مقدسة". و"أنا اقول ذلك اليوم تحديدا، لأناس يلوحون بتناقض لا يمكن حله بين ثقافة اسرائيل والنزعة الانسانية". وانتبهوا الى كلمة "ربما". اذ ان عاموس عوز الحذر من قول أشياء من دون ثقة بـ "ربما" تحوم فوقها. هذه المبادرة منه، كما لو انه متشكك، تتيح له صياغة قول حاسم بشكل مذهل، وتبسيطي بشكل مخيف. ف"الثقافة العبرية" هي "النزعة الانسانية"، هي الضمير: وهذا ما لدى عوز ليقوله عن آلاف سنوات الثقافة العبرية، الآرامية الييديش والعبرية مرة اخرى، وبذلك يلخص الثقافة العبرية ب"تقديس الحياة" للفرد. فهل هذا صحيح؟
ويواصل عوز كلامه: "إن الادب العبري الحديث هو، في نظري، الوريث الثيولوجي لثقافة اسرائيل. هو وليس الحاخامية، هو وليس من يخدم المقدسات". فمن الذي أوفى بهذا المتطلبات: بيرنر، برديسفاسكي وعجنون أوفوا بذلك. بياليك أوفى بذلك. ولكن ماذا عنكم؟ ما هو "الثيولوجي" في الادب العلماني الليبرالي لجيل الدولة؟


"6"
من الواضح ان "جيل الدولة" مفهوم واسع، غير دقيق وهو يحوي أكثر من جيل واحد، مثلما ان "جيل المؤسسين" يحوي كذلك أكثر من جيل. ولكن الامر يتعلق بحقب زمنية لا بسنوات، ولذلك من المهم النظر الى القاسم المشترك بين "جيل 48" وبين رجال الستينيات والسبعينيات بأهمية أكبر من الاختلاف. فسنوات 1948 و1956 و1967 و1973 هي معالم طريق بلورت أبناء جيل الدولة، وهي تستدعي، بداهة، الاقرار بالتغييرات، فهناك "جيل" ينشأ وهو لا يسقط من السماء كما هو. غير ان الاشارة للفارق بين أدباء الستينيات وأدباء "جيل البلماخ" الذين كتبوا عن "نحن" وبين كتاب السبعينيات لن تشوش الاساس: فالذين نشأوا في الدولة منذ بدايتها يتقاسمون شحنة انضباطية وتعليما اسرائيليا، ليس يهودياً وليس أوروبيا ولديهم تجربة مشتركة. لذلك فإنهم "جيل" يختلفون عن جيل الانبعاث، ولا يقل أهمية انهم يختلفون ايضا عن جيل الانهيار، الجيل الحالي.
وثمة أمور كثيرة تنهار الآن. الانتماءات التي بلورت اسرائيليين الى وقت غير بعيد، والتي صاغت الادب والفكر الذي كتب هنا، لا تبدو ذات صلة مع وضع الامور. وهذا الانهيار مؤلم، مثير للذعر، ولكن الانهيار هو انهيار التسويات الاجتماعية والانظمة الثقافية والتي يجب ان تنهار. فهل نحن بحاجة الى جيل ساقط آخر يفتقر الى الجرأة والقدرة على التحليق، والذي أفضل ما لديه مسلح فقط ب"الضمير"؟ هل ثمة حاجة لجيل آخر إن انتقلنا الى الاقتصاد يؤيد فيه تقريبا كل الاجراء الشرقيين الحزب الذي يخصخص دولة الرفاهية، فقط بسبب كراهيتهم التي أعمت أبصارهم، للمعراخ؟ وهل نحن بحاجة الى جيل ان تحدثنا عن الاحتلال يستعد فيه نصف الشعب لتحمل الاحتلال عبر قمع شعب آخر وفي ظل الذعر الروتيني من عمليات تقع في كل مكان؟ ولا شيء يكفينا اقل من الانهيار. وسيكون الامر أفضل اذا ساءت الامور فعلاً، الى حد إصابة الجميع باليأس. ونحن نهرول في هذا الاتجاه. وهذا هو الانهيار ولكنه ينطوي على بركة ايضا.
والنخبة الثقافية الجديدة، المختلفة في مزاجها وفي داخلها عن نخبة الضمير في جيل الدولة، تمركزت في الجهاز الاكاديمي، في الادب ووسائل الاعلام في العقد الاخير. وهذه نخبة راديكالية ترضع من تيارات ماركسية جديدة، فرويدية جديدة، وما بينهما، وهي تنشغل في تدمير "الرواية الصهيونية" (والادب القائم على أساس هذه الرواية) من منطلق رفض فكرة الدولة القومية. وليس هذا موضع السجال مع راديكالية ما بعد الحداثة، أو تقطيع أوصال اللغة المنفوخة التي يستخدمونها. ولكن المهم والذي يشهد على ايجابية الانهيار انهم عادوا لطرح الاسئلة الاساسية حول "الدولة" و"القومية" و"الهوية" وعن الخلاف بين الحقيقة وبين النقاش في "الذاكرة" الجمعية. وهذا السجال مهم أكثر من الاجوبة المتذاكية، المحرجة لدرجة الغضب في الكليشيهات الفكرية وكليشيهات المعطيات التي تستند إليها. لقد انهار السجال المحدود، الصهيوني الضميري، العلماني الليبرالي الغامض والذي كان يلامس النقاش الحضاري والسياسي حتى التسعينيات. وهذا أمر مثير للغضب.
فالشبان الاسرائيليون يسألون مرة اخرى عن هويتهم ويطالبون مرة اخرى برؤية واسعة وعميقة كرؤية السجال في مرحلة ما قبل الدولة. وقد أسست في السنوات العشر الاخيرة أكثر من مئة معهد وكلية علمانية للدراسات اليهودية. وهذه ليست موضة، انها نزعة. انها ميل اناس ظمأى جداً للمغزى، للألفة مع تراثهم ومع النوعية العالية للصفحات الكلاسيكية. وتمر صيرورة معاكسة على الشبان من ذوي القبعات الدينية المنسوجة الراغبين في الشذوذ عن قواعد مدارسهم، انظروا كم عدد الذين يذهبون منهم نحو الادب والرسم، والسينما والتلفزيون، نحو الصحافة والدراسة الجامعية بدلا من البقاء في المدارس الدينية.


"7"
إن الجيل الحالي ليس ساقطا، انه مدمر. لذلك ينطوي على الطاقة التي يوفرها الظمأ وحافة اليأس التي لم تتوافر لجيل آبائه وأجداده. وهذا جيل أكثر تعليما. صحيح ان التعليم الرسمي أسوأ مما كان، ولكن على الصعيد الأكاديمي، هذا جيل أكثر استعداداً للتنافس. ففي جيل الدولة لم تكن الشهادات الجامعية مطلوبة من أجل الحصول على عمل هنا. واليوم لم تعد الشهادة الجامعية الاولى كافية، كما انه في مواضع كثيرة اخرى صارت شهادة الدكتوراه شرطا. وحتى الستينيات كانت في اسرائيل جامعة واحدة. كم عدد من تعلموا فيها؟ اليوم هناك خمس جامعات وعدد الكليات صار بالعشرات. وترجمت الى العبرية في التسعينيات أمهات الكتب، التي لم تكن موجودة في عهد الآباء، والذين كانوا في أغلبهم لا يعرفون سوى اللغة العبرية.
إن هذا جيل أكثر تعليما من الناحية النظرية، وليس النظرية فقط، بل ان تجربته العاطفية والمادية أكثر غنى. والشبان لا يتزوجون اليوم في الثانية والعشرين من أعمارهم، وهم قلقون ويهتمون بالحصول على التعليم لزيادة قدرتهم على العيش في الاربعينيات من أعمارهم. ومن يقرر الزواج (مع صديقته الخامسة بعد المرور، إضافة الى الصديقات الاربع بعشرات العلاقات القصيرة) كان يعتبر في عهد آبائنا "طائشا" وفي عهدنا "بوهيميا"، صار اليوم مجرد أعزب في الثلاثين من عمره. وهذه هوة وعي واتصال بين الجيلين. فجيل الدولة هو جيل ساذج جنسيا لا يعرف شيئا عن العزلة الطويلة الطافحة بالخبرة لشبان جيل الانهيار.
إن اللغة العبرية التي يكتب بها هذا الجيل قصصه وأشعاره وسيناريوهاته ومقالاته في الصحف، هي لغة مباشرة وأكثر صدقية من العبرية الصرفة، المصطنعة التي كتب بها جيل الدولة. كانت تلك لغة التسامي، والفرق العسكرية والضواحي وجسر اليركون كانت لغة جميلة ولكنها كاذبة وفارغة. شالوم حانوخ، مئير ارييل، يعقوب روتبليت، على موهر، يونتان جيفن، راحيل شابيرا وايهود مانور كتبوا عبرية أكثر شخصية، ولكنها ليست شخصية مقارنة بعبرية ميخا شطريت، حيمي رودنر، عيران تسور، عميرليف او عمير بنيون.


"النافذة ممزقة، ينقصها برغي
شوكة في علبة زبدة الجوز
وعلى الرف اثنان من ليئا غولدبرغ،
الترمان، زاخ وعاموس عوز"،

هكذا كتب روتبليت في قصيدته "ايام الزهر والحب" ورف كتب روبتليت "ليئا غولدبرغ، الترمان وزاخ وعاموس عوز" هو رف كتب جميع كتاب القصائد في جيل الدولة الذين حاولوا المزج بين الشعر المقفى لالترمان وغولدبرغ والصبغة الشخصية لزاخ، والذين أرادوا أكثر من أي شيء آخر ان تكون قصائدهم جميلة. وكتاب جيل الانهيار لا يسعون الى الكتابة الجميلة. إنهم يعرضون أنفسهم ولا يزينونها. لأنهم يكتبون عن الانهيار.
وقصائد هذا الجيل لا تحتوي على تزوير. وهي لا تريد وزناً أو قافية بأي ثمن. والنساء يكتبن. عشرات الروائيات. عشرات الباحثات. وهذا جديد ايضا. فكم روائية وباحثة كان في جيل الدولة؟ يمكن تعدادهن على أصابع اليد الواحدة.
إن جيل الانهيار، على وجه العموم، يهتم بالهوية. وشبان جيل الانهيار لا يشعرون بأن مفهوم "الاسرائيلية" يعبر عن كل شيء أو حتى يقول الاساس حول هويتهم الطائفية أو الجنسية أو الدينية. وبات هذا هو الموضوع المركزي في الادب الحاضري. وكل ما ألغاه جيل الدولة بوصفه "لا اسرائيليا" أو تجاهل وجوده، احتل الآن مركز الصدارة.
وخمس السكان اليهود في الدولة وصل إليها فقط في العقد الاخير. ولا أحد من المليون مهاجر من الاتحاد السوفياتي، وخصوصا احد آلاف المبدعين او المثقفين بينهم، لا يشترك تقريبا في شيء مع صباري جيل الدولة: لا في شحنة التجربة ولا في شحنة الثقافة. فقد جاؤوا مع جروح ونظرة خاصة، ومع قدرات ثقافية ستتفجر هنا قريباً.


"8"
ان الطوفان البحثي في السنوات الاخيرة، في أبحاث الادب، والفكر الاسرائيلي، وفي الدراسات الثقافية هي نهضة مثيرة. والجميع يدرك ان هذا العرض النظري يشهد على الطلب. انظروا عشرات الابحاث في الفكر الاسرائيلي التي صدرت في العقد الاخير عن دار نشر "الكيبوتس الموحد"، وانظروا سلسلة الكتب التي صدرت بموازاة ذلك عن دار نشر "عام عوفيد". وانظروا الى المشروع الفكري الهائل ل"مكتبة اوفكيم" وكتب الابحاث التي تصدر سنويا عن معهد واحد مثل معهد "هيرتمان" وسواها.
انظروا الى محطات التلفزة متعددة القنوات، والى الانترنت. إن هذا جيل يغرق في المعلومات المتوافرة. وبعد عشرين سنة من قناة التلفزيون التي كانت تبث الدعاية وتخفي الحقائق المؤلمة عن الجمهور، حدثت هنا في العقد الاخير ثورة: انت تشاهد التلفزيون وتعرف ما يحدث.
إن هذا الجيل، جيل الانهيار، يشبه "جيل المؤسسين" الذي لا يعرفه أكثر مما يشبه آباءه. ف"الاحفاد" الذين لم يقرأوا أي نص ل"الأجداد" يتصرفون مثل الاجداد وليس مثل جيل الدولة. انهم يسألون عن كل شيء ويسألون بإلحاح لان الامور تتقطع هنا من يوم لآخر. فهل هذه هي سكين الجزار؟ أم مبضع الجراح؟ يجدر بنا تحمل الانهيار واستخلاص العبرة منه ونيل الامل الديالكتيكي من اليأس باعتبار ان الانهيار ولادة، ويجب علينا اختيار مبضع الجراح، لأ نه لا خيار آخر أمامنا.

معاريف 5/10/2003

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات