المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.


* وجهان في المرآة

* الوجه الأول: الصحفية الإسرائيلية عميرة هس، مراسلة صحيفة "هآرتس" في المناطق الفلسطينية، فازت بجائزة "اليونسكو" للصحافة الحرة لهذا العام، تقديرًا لها "على ما تتحلى به من شجاعة غير اعتيادية... وإذا ما تم التوصل إلى السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فسيكون ذلك بفضل أمثال هس التي تتعامل مع الحقائق دون التأثر بمواقف مسبقة" - كما جاء على لسان كويشي ماتسورا، المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو).

كما فازت عميرة هس أيضاً، بجائزة الديمقراطية للعام الحالي، وهي جائزة تمنحها سنويًا مجلة "دي بلاتر" (الأوراق) الألمانية التي تضم هيئة تحريرها الفيلسوف الألماني يورغن هبرماس، والناشط الألماني في الدفاع عن حقوق الإنسان يينس رايخ، الذي تحدث في حفل منح الجائزة عن "جرأة هس وشجاعتها الشخصية المذهلة".

جائزة اليونسكو للصحافة الحرة ستمنح لعميرة هس في إطار فعاليات اليوم العالمي للصحافة الحرة، والذي سيقام في جامايكا في الشهر القادم.

أما جائزة "دي بلاتر" للديمقراطية، فقد أقيم حفل منحها على هامش معرض للكتب نظم في مدينة لايبزغ الألمانية بين 20 و23 آذار الجاري. والمثير في الأمر هنا أن هس لم تشارك في المعرض ولم تحضر حفل منحها الجائزة، بل اكتفت بتوجيه رسالة شكر أوضحت فيها سبب اضطرارها إلى عدم الحضور بشكل شخصي: اندلاع الحرب ضد العراق والغموض الذي يكتنف اسقاطاتها المحتملة على ما يجري في المناطق الفلسطينية "ولذلك، اشعر أن واجبي الصحفي يستدعي بقائي ووجودي هنا في هذه الأيام"، كما كتبت هس في رسالتها إلى القيمين على الجائزة الألمانية ("هآرتس" 24/3).

* الوجه الثاني: "الحرب في العراق هي من مصلحة الشعب العراقي. وهذا الهجوم الذي تشنه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها سيطيح حتماً بالرئيس العراقي صدام حسين، وستنتهي هذه الحرب بالنتائج التي حددت لها. فمن الضروري، اليوم، الإطاحة بهذا النظام من اجل تحرير الشعب العراقي الذي يعاني معاناة كبيرة. وإذا تمت الأهداف كما يجب، فإن هذا سيمكن الشعب العراقي من نيل حقوقه الكاملة التي تترجم عن طريق إقامة برلمان يتمتع بالديمقراطية وصلاحيات دستورية، تمكنه من العيش بسلام".

هذا المقتبس الطويل، نسبياً، هو غيض من فيض تصريحات أدلى بها الصحفي الإسرائيلي إيهود يعري لموقع "المشهد الإسرائيلي".

* "نداء الواجب.."

عميرة هس وإيهود يعري يمثلان التجسيد الأبرز لحالتين / فئتين متناقضتين / متنازعتين في "الإعلام الإسرائيلي"، الذي لا تزال الغلبة والسيادة الفاضحتان فيه من نصيب يعري وأمثاله ممن وصلوا الى "عالم الصحافة والإعلام" فوق أرضية أمنية، الأمر الذي ضمن ويضمن لهم - مع استمرار ارتباطهم الوريدي بالأجهزة الرسمية المختلفة، وتحديداً الأمنية منها - التربع على "عرش" الإعلام في إسرائيل .

عميرة هس تمتنع عن السفر إلى ألمانيا لتسلم جائزة، استجابة لنداء واجبها الصحفي بالتزام موقعها حيثما هي (في المناطق الفلسطينية، حيث تقيم منذ بضع سنوات) تحسبًا لأي استغلال إسرائيلي محتمل لدخان وجلبة الحرب في العراق من اجل تنفيذ مخططات تصفوية - ترحيلية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهو، بالضبط، "الإحتمال" الذي يدأب الصحفيون وكتاب الأعمدة الإسرائيليون من فئة عميرة هس، على قلتهم، على الكتابة محذرين منه، بشجاعة ووضوح بارزين. وفي المقدمة يقف الصحفيون غدعون ليفي ونير برعام و ب. ميخائيل وغال اوحوفسكي وأوري أفنيري وآخرون.

أما ايهود يعري، فلا يتورع عن المماثلة بين ما يعتبره "من مصلحة الشعب العراقي" و "من مصلحة الشعب الفلسطيني"، رغم أن "التزامن في مثل هذه الحالة نابع من الصدفة، من دون أي امر مخطط"، كما يدعي في حديثه الى "المشهد الاسرائيلي"، مضيفًا ان "الوضع اليوم هو كالتالي: حل في العراق مع الإطاحة بصدام حسين ونظامه، يتزامن مع نهاية سلطة (أي: "الإطاحة بالرئيس ياسر" - س.س.) عرفات التي خسرها جراء سياسته... الإطاحة بصدام حسين ونهاية سياسة (الرئيس ياسر) عرفات ستغيران الصورة المعهودة في الشرق الأوسط، خاصة بعد تحمل عرفات المسؤولية عن {الإرهاب} في المنطقة".

هذا "التزامن المصادف"، وفق منطق يعري، ينبغي تفكيك معادلته إلى عناصرها ومرتكزاتها الأساسية التالية: الحرب ضد العراق هي لمصلحة الشعب العراقي. والإطاحة بصدام حسين ونظامه هي أمر ضروري لتحرير الشعب العراقي الذي يعاني معاناة كبيرة. وتحقق أهداف الحرب هذه سيمكن الشعب العراقي من نيل حقوقه الكاملة عن طريق اقامة برلمان يتمتع بالدمقراطية والصلاحيات الدستورية.

الآن، لم يبق أمامنا سوى "التعويض" بلغة الرياضيات في العناصر المفككة أعلاه: ضع "ياسر عرفات" ، بدل "صدام حسين"؛ وضع "الشعب الفلسطيني"، بدل "الشعب العراقي"، لتحصل على خلاصة ما يقوله ايهود يعري ويدعو إليه: الحرب (هنا، كما هناك، أو بالعكس). و.. "الحرب هي الحرب"، كما يقولون!

هذه "التحليلات" الموجهة ليست غريبة عن "محرر الشؤون العربية" الأبرز في الإعلام الإسرائيلي ولا هي دخيلة عليه. ولن تكون هذه، بالقطع، آخر صولاته وجولاته وهو الذي يتمتع بمكانة مركزية في الإعلام الإسرائيلي، تأسيسياً على واقع الصراع الإسرائيلي - العربي والواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط. وطالما استمر هذا الواقع، سيظل يعري يتبوأ هذه المكانة، بقطع النظر عن القناة التلفزيونية التي يتمترس فيها: الأولى، أو الثانية، أو العاشرة، أو التي لم تفتتح بعد. فمع كل تصعيد في احتدام منظومة العلاقات العربية - الإسرائيلية، ومع كل لمحة توتر في أي من مؤشرات الصراع أو ساحاته، يسارع يعري إلى تمزيق قناع الصحفي – المحرر - الإعلامي عن وجهه و "يحتل" الأستوديوهات التلفزيونية، ثم يبدأ باطلاق صواريخ "تحليلاته" التي لا تقبل الإعتراض أو الجدل، فلا تكون غير توليفة من "تقارير أمنية سرية للغاية"، وحزمة أوامر يصدرها "الجنرال – الصحفي - الأعلى"، الجالس أمام الكاميرا، إلى صناع القرار السياسيين والعسكريين، والى من يأتمر بأوامرهم من القادة الميدانيين.

لسنا في حاجة إلى استحضار الماضي البعيد للتدليل على ما نذهب إليه هنا، بل تكفي الإشارة السريعة إلى بعض المحطات / الأحداث من السنوات الأخيرة للتأكيد على هذه المسلكية "اليعروية": خلال الحرب الأولى ضد العراق (1991)، وخلال الإنتفاضة الفلسطينية الثانية منذ بدئها وحتى اليوم (لم يتورع يعري، في مرات عديدة، عن كيل المديح لـ "إنجازات" الجيش الإسرائيلي في اغتيال قادة ونشطاء فلسطينيين، ولم يتردد في التعبير عن انزعاجه من عدم اعتقال مروان البرغوثي، حتى لحظة اعتقاله)، وخلال هبة أكتوبر 2000 بين العرب الفلسطينيين في داخل إسرائيل والسلطة الحاكمة، وخلال "كامب ديفيد" الثانية. وها هو يتصرف بمثل هذا الآن في ما يتعلق بالحرب الأمريكية - البريطانية على العراق.

وأما قول يعري انه "ليس من وظيفة الإعلام التعاطف مع طرف في النزاع" وان "الإعلام الإسرائيلي وظيفته أن ينقل الصورة كما هي من دون أي نوع من التلون، وكل ما هو غير ذلك ليس من وظيفتنا" (من تصريحاته لموقع "المشهد الإسرائيلي") فأقل ما يقال فيه انه عكس الحقيقة والواقع، كما هما في ممارسة الإعلام الإسرائيلي، ويعري في مقدمته، ومحاولة تضليل من الصنف الرديء.

الخوف الأكبر

ولئن كان الحديث تمحور وطال هنا حول ايهود يعري تحديدًا، فلأنه الممثل الأبرز والأقوى لجحافل "الصحفيين" في وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة، السمعية منها والبصرية، الذين يحولونها، بمحض نوازعهم ونزعاتهم وارتباطاتهم، الى وحدات عسكرية احتياطية لا تتأخر عن التجند التلقائي، حتى قبل أن تطلق صفارة الإنذار. وحين يرتضي الصحفيون لأنفسهم ومهنتهم التنفس من رئة واحدة هي "رئة" الناطقين العسكريين، كما حدث في عدوان حملة "السور الواقي" الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وبعده، وكما يحدث الآن في الحرب ضد العراق، على كل ما تخلل ذلك ويتخلله من تضليل وكذب ("حرب نفسية"!)، لا بد أن يستحيل هذا "الهواء" لوثة تصيب العقول والأرواح (دعك من الضمائر!). هكذا تزول الحدود وتتلاشى المسافات وتمحي الحواجز، وتستقيل المهنة بأصولها وضوابطها من بين أيدي "الصحفيين" وشفاههم. وإلا، كيف يمكن تفسير ما هو حاصل الآن من احتلال الجنرالات لمختلف القنوات التلفزيونية في إسرائيل، والقرار الذي أصدره الجيش بمصادرة البث في جميع القنوات لصالح مكتب الناطق الرسمي بلسان الجيش، في حال سقوط صواريخ عراقية على إسرائيل؟

هذا الإنزلاق في وسائل الإعلام الإسرائيلية لم يبدأ اليوم. لكن بلوغه هذا الحضيض لم يستغرق وقتاً طويلاً، نسبياً. ولا يزال ثمة ما يدعو إلى القلق، إذا ما استمر هذا الإنزلاق. أما عميرة هس وغدعون ليفي وزملاؤهما الذين "يغردون خارج السرب"، والذين هم استثناء على القاعدة، كحال الجنود الذين يرفضون الخدمة العسكرية، فيواصلون الدفاع عما تبقى من أسوار المهنة وشرفها في محاولة منهم لدرء الخطر / الخوف الأكبر: أن تفقد وسائل الإعلام في اسرائيل ما تبقى لها من هوامش العمل الصحفي الحر والمستقل، فتتحول إلى شريك فاعل بالكامل في ما قد يرتكب من موبقات وجرائم.

هذا الخطر / الخوف يصبح ملموساً اكثر بالنظر الى مسلكية وسائل الإعلام الإسرائيلية خلال الأيام الأخيرة تحديداً، بالمقارنة مثلا مع ما ظهر في شبكتي الأخبار البريطانيتين "سكاي" و "بي. بي. سي" في نهاية الأسبوع الأخير، من ملاحظات تشكيكية عن "الدعاية الأمريكية" وانتقادات للبيانات العسكرية الرسمية الصادرة عن الجيوش الغازية. حتى إن أحد مقدمي الأخبار في شبكة "سكاي" عقب على مشاهد كانت تبثها الشبكة لعمليات القصف ضد بغداد، بالقول: "أنا واثق من أن أي إنسان يشاهد هذه الصور الآن لا بد ان ينتابه شعور ما تجاه سكان بغداد... حقاً، إنها صور فظيعة ومفزعة".

أما في إسرائيل، فمشاهد القصف وصور الدمار في بغداد وأخواتها تثير انبهارًا لا يجتهد أصحابه لمداراته، ونشوة يستعصي على الكاميرات إبقاءها مموهة.

لقد عاف الإعلام الإسرائيلي التقنع وضاق ذرعًا بالأقنعة.

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات