المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أجمع أربعة من الرؤساء السابقين للمحكمة العليا في إسرائيل على أن إسرائيل تشهد سيرورات مثيرة للقلق قد تؤول، في نتيجتها، إلى "إعلان بداية نهاية النظام الديمقراطي في إسرائيل"!

وأوضح الرؤساء الأربعة للمحكمة العليا الإسرائيلية أن ما يثير القلق، الحقيقي والجدي، ليس هذا التصريح أو ذاك مما يُطلقه السياسيون ضد المحكمة العليا بشكل خاص والجهاز القضائي بشكل عام، ولا حتى بعض القوانين ومشاريع القوانين التي تستهدف محاصرة هذه المحكمة وتقييد صلاحياتها بذريعة "الفاعلية القضائية الزائدة"، وإنما ما تشكله هذه التصريحات وهذه القوانين ومشاريع القوانين مجتمعة على خط تسلسلي واحد يؤشر إلى سيرورة واضحة تنطوي على خطر جسيم. ذلك أن هذه التصريحات والقوانين، وما يشبهها من ممارسات وإجراءات، تسبب تآكلا مستمرا في موقف الجمهور العام من الجهاز القضائي وفي ثقة الجمهور بهذا الجهاز، علما بأن هذه الثقة هي "السند الأقوى والمرجعية الأمتن لعمل الجهاز القضائي، لحريته واستقلاله وموضوعيته، وإذا ما افتُقدت ثقة الجمهور بالمحاكم، فقد كان ثمة مَن قال إن هذا يشكل بداية نهاية النظام الديمقراطي"!


وكان القضاة الأربعة الرؤساء السابقون للمحكمة العليا، والجهاز القضائي الإسرائيلي برمّته، يتحدثون خلال مقابلة مشتركة جمعتهم معاً أجرتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" لمناسبة الذكرى الـ 68 لقيام دولة إسرائيل ونشرتها في عددها الاحتفالي الذي صدر يوم الأربعاء الماضي (11 أيار 2016). والقضاة / الرؤساء الأربعة هم: مئير شمغار (91 عاما)، وهو الرئيس السابع للمحكمة العليا ترأسها لمدة 12 عاما من العام 1983 حتى العام 1995; أهارون باراك (79 عاما) الذي ترأس المحكمة العليا لمدة 11 سنة، من العام 1995 حتى العام 2006; دوريت بينيش (74 عاما) التي ترأست هذه المحكمة لمدة 6 سنوات من العام 2006 حتى العام 2012 وآشير غرونيس (71 عاما) الذي أشغل المنصب لمدة ثلاث سنوات حتى العام 2015، حيث خلفته الرئيسة الحالية للمحكمة العليا، مريام ناؤور. وفي المجمل، فقد أشغل هؤلاء الأربعة رئاسة المحكمة العليا والجهاز القضائي في إسرائيل ما مجموعه 32 عاما، أي نحو نصف عُمر هذه المحكمة (تأسست في 22 تموز 1948).

ورغم إجماع القضاة الأربعة على السيرورة التي ذكرناها أعلاه، إلا إن التباين كان واضحا في أسلوب ولغة كل منهم في التعبير عنها.

فقد قالت دوريت بينيش: "يمكننا القول إن الوضع الآن ينطوي على مخاطر بعيدة المدى... الشعارات المتداولة اليوم ترمي إلى ضرب مكانة المحكمة والجهاز القضائي"، بينما قال مئير شمغار إن "المشكلة تكمن في أن ثمة سيرورات قد حصلت خلال السنوات الماضية تتعلق بالأسلوب، باللغة وبالتشدد الكلامي". وقال أهارون باراك: "أتفق مع القول بأن ثمة تسلسلا وثمة نقاطا على هذا التسلسل. إذا ما نظرنا إلى النقاط، فلسنا إزاء حالة طوارئ وليس ثمة خطوط حمراء قد جرى تجاوزها حتى الآن، لكنني أعتقد أننا قد مررنا بسيرورات تحمل في طياتها خطر تآكل ثقة الجمهور بالمحكمة وتقديره لها". وقال آشير غرونيس: "نعم، هنالك سيرورات تحصل في المجتمع الإسرائيلي ينبغي الانتباه إليها جيدا لكنني لا أعتقد أن الحديث يجري عن حالة طوارئ أو عن خطر محدق بالديمقراطية، في هذه المرحلة على الأقل... غير أن هذه السيرورات قد تعود، في نهاية المطاف، بضرر جسيم على الديمقراطية في إسرائيل".

العنصرية وخطر الفاشية في إسرائيل

في الحديث عن حالة التطرف والتعصب التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي وتتعمق فيه باستمرار خلال السنوات الأخيرة، رفض مئير شمغار اعتبار أن دولة إسرائيل تواجه "خطر التحول إلى دولة غير ديمقراطية، ناهيك عن دولة فاشية"، مستندا إلى "طبيعة المواطن الإسرائيلي المتوسط" الذي "لا يمكن أن يقبل العيش في مجتمع يأمرونه فيه كيف يتصرف وكيف يتكلم".

وأيد أهارون باراك "عدم الخشية من قيام نظام فاشي"، لكنه أضاف: "غير أن السؤال هو كيف نعرّف الديمقراطية؟ من جهتي، الديمقراطية هي حكم الأغلبية، أولا، لكن الديمقراطية هي الفرد أيضا. أي، الديمقراطية هي ليست "نحن" فقط، وإنما هي "أنا" أيضا. لا ديمقراطية بدون حكم الأغلبية ولا ديمقراطية بدون ضمان حقوق الفرد. ينبغي أن تكون المحكمة قادرة على القول لـ"النحن": لقد تجاوزتم الحدود وهذا محظور عليكم. هذا هو التوازن الحساس الذي تمت المحافظة عليه طوال سني الدولة منذ تأسيسها. لكن ما يثير القلق لدي هو أن الهجمات المتكررة على المحكمة العليا والمتصاعدة في السنوات الأخيرة قد تدفع الجمهور إلى الاعتقاد بأن المحكمة ستصبح أكثر ميلا إلى "نحن" وليس إلى "أنا"، جراء هذه الهجمات وبتأثيرها".

وأوضح أهارون باراك إن "الجذور الديمقراطية في إسرائيل ليست ضاربة عميقا بصورة كافية. فنحن نرى أن بإمكان أي شخص في إسرائيل أن يقول، مثلا، إنه يؤيد حقوق الإنسان وإنه يؤيد طرد العرب مواطني الدولة، وكأن الأمرين منسجمان وغير متناقضين. وجذور الديمقراطية الإسرائيلية ليست عميقة لأن جزءا كبيرا من المواطنين هنا ولدوا في دول شيوعية أو توتاليتارية، إضافة إلى الموضوع الأمني. فجزء كبير من الشعب مستعد للتخلي عن بعض حقوق الإنسان الأساسية من أجل ضمان الأمن. وهذا ما تفعله الحكومة بشكل عام".

وقال باراك إن "الديمقراطية ليست في خطر، لكنها ليست متينة بما فيه الكفاية. نحن لسنا دولة عنصرية، لكن فيها عددا غير قليل من المواطنين الذين يحملون آراء عنصرية ويعبرون عنها".


وقالت دوريت بينيش إن "التطرف، الانقسام والصدوع في المجتمع الإسرائيلي هي ظواهر مثيرة للقلق. ثمة في إسرائيل كثير جدا من التعابير العنصرية ومن لغة الكراهية. كل مَن لا يوافق معنا هو "عدو" و"خائن". ينبغي العمل، في المستويات كافة، لنشر قيم التسامح، التفاهم واحترام الغير، الاهتمام بالفئات المستضعفة واجتثاث أصوات العنصرية والتحريض التي تتعالى بين ظهرانينا".

وزيرة العدل وواجب حماية المحكمة

في سياق الحديث عن الهجوم المتواصل الذي تتعرض له المحكمة العليا من جانب سياسيين، برلمانيين وحكوميين، وخاصة من اليمين الإسرائيلي، والذين انضمت إليهم أيضا وزيرة العدل الحالية، أييلت شاكيد، التي وجهت للمحكمة العليا انتقادات لاذعة في أعقاب عدد من قراراتها، وخاصة في قضية اللاجئين طالبي العمل الأفارقة وفي قضية مشروع الغاز الإسرائيلي، اعتبر رؤساء المحكمة السابقون أن الوزيرة، بمسلكها هذا، تتصرف بما يتناقض مع مسؤوليتها الرسمية في الدفاع عن المحكمة وحمايتها من أي هجوم يستهدف ممارسة الضغوط عليها، ترهيبها أو إجبارها على التواطؤ، قضائيا، مع رغبة السياسيين وتشكيل ختم مطاطي لتوجهاتهم.

وقال آشير غرونيس: "مَن يتوجب عليه حماية الجهاز القضائي هو المستوى السياسي، من جميع الأطياف السياسية والحزبية، إذ يجب أن يتذكر الجميع أن الأيام تدور وأن أغلبية اليوم قد تمسي أقلية غدا وائتلاف اليوم قد يغدو معارضة غدا. والمشكلة أن جزءا كبيرا من السياسيين ومن الجمهور لا يدرك ولا يفهم حقيقة الدور المستقل الذي ينبغي للمحكمة تأديته في الدفاع طويل الأمد عن الديمقراطية".

ونوه غرونيس إلى الدافع المركزي وراء النقد الموجه للمحكمة العليا والهجوم عليها، فقال: "أعتقد أن ثمة مشكلة مركزية واحدة وهي تتمثل في الفجوة ما بين صورة المحكمة وكأنها تلغي قرارات الحكومة أو المؤسسات الحكومية بسهولة فائقة وبصورة مبالغ فيها، من جهة، وبين الواقع الحقيقي من جهة أخرى. فإن من يتفحص هذا الواقع يجد أن عدد المرات التي أقرت فيها المحكمة العليا إلغاء قرارات حكومية هو قليل جدا. أي، ثمة فجوة كبيرة بين الصورة المرتسمة في التصريحات السياسية وبين الواقع".

وقال أهارون باراك: "المسؤول المباشر من قبل الدولة الذي يفترض فيه حماية المحكمة والدفاع عنها هو وزير العدل، ذلك أن وزير العدل ورئيس المحكمة العليا هما المسؤولان المباشران عن الجهاز القضائي. وزير العدل هو الحلقة التي توصل بين المحكمة وبين السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست). وبهذا المعنى، فلوزير العدل مسؤولية مضاعفة: تجاه المحكمة ـ عليه أن ينتقد ما يستوجب الانتقاد ويقترح إصلاح ما يستوجب الإصلاح، وتجاه الخارج ـ عليه أن يدافع عن المحكمة ويحميها. لكننا نرى أن هذا السور قد تصدع اليوم".

أما دوريت بينيش فرأت أن "الجهاز القضائي قوي بما فيه الكفاية وليس بحاجة إلى أي دعم خارجي، لكن يجب ضمان عدم مهاجمته". واعتبرت إن "وراء الادعاءات الموجهة ضد المحكمة تختفي رغبة المنظومة السياسية في تحصين نفسها من أية رقابة قضائية".

وقال مئير شمغار: "أعود وأكرر هنا ما أقوله منذ سنوات طويلة عن أن المحكمة هي مثل سفينة لا يمكن أن تغرق وهي أقوى من كل الأجسام والهيئات الأخرى. ولا أعتقد بأن ثمة حالة يمكن فيها لأية قوة في الدولة أن تُخرس المحكمة".

إسرائيل الدولة الوحيدة بدون دستور

تطرق القضاة الأربعة إلى واقع أن دولة إسرائيل لا تزال بدون دستور رغم مرور 68 سنة على تأسيسها واعتبروا أنه من الضروري جدا أن تضع الدولة لنفسها دستورا مناسبا.

وقال مئير شمغار: "سمعت أحاديث كثيرة عن قرارات مختلفة صدرت عن المحكمة العليا، لكنني لم أسمع كلمة واحدة عن أن إسرائيل لا تزال الدولة الوحيدة في العالم كله، تقريبا، التي ليس لديها دستور. إنها إحدى المسائل التي يجب معالجتها فورا، إذ كان من الضروري وضع دستور للدولة منذ وقت طويل، بحيث يعالج الدستور ليس فقط حقوق الأجسام والسلطات السياسية المختلفة، وإنما معالجة وضمان حقوق الأفراد أيضا".

وقالت دوريت بينيش: "إن ما ينبغي أن يثير قلق المجتمع الإسرائيلي كله، وليس المحكمة فقط، هو السؤال بشأن القاعدة القيمية المشتركة التي تجمعنا. فطالما لا تتوفر قاعدة قيمية مشتركة للجميع في وضع مجتمع مقسم مثل المجتمع الإسرائيلي، فليس ثمة ما يضمن بقاءنا. ثمة حاجة إلى دستور يصوغ هذه القاعدة القيمية ويكرسها. إنني قلقة جدا من وجود أوساط صهيونية كثيرة تؤمن بالدولة ومؤسساتها ـ الحكومة والكنيست، لكنها لا تقبل بالمؤسسة القضائية ولا تتبنى القيم الأساسية التي كانت وراء إنشاء الدولة. فقد قامت دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. وإذا لم نكن متفقين على ماهية الدولة اليهودية ولا على ماهية الديمقراطية، فلا قاعدة مشتركة لوجودنا وبقائنا".

وقال أهارون باراك: "في الولايات المتحدة، الرئيس أيضا ينتقد المحكمة العليا ويهاجمها. لكن هذا لا يحدث أي ضجيج ولا أية مشكلة. أما عندنا، إذا ما هاجم وزير ما المحكمة العليا، فسنجد في اليوم التالي مشروع قانون على طاولة الكنيست لتغيير صلاحية المحكمة. والمؤسف، أنه يتم إقراره بأغلبية أوتوماتيكية. ليست لدينا بنى وتشكيلات دستورية طالما لا يوجد دستور. ينبغي وضع دستور لدولة إسرائيل، بما يضمن استقلالية الجهاز القضائي ويضمن حقوق الفرد".

المصطلحات المستخدمة:

يديعوت أحرونوت, باراك, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات