المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أكدت دولة إسرائيل، في ورقة رسمية، أنها تنظر إلى مظاهرات المواطنين العرب فيها وأنشطتهم الاحتجاجية بمنظور أمني خالص وتعتبرها تهديدا أمنيا، لأنها تعتبر هذه المظاهرات والاحتجاجات "نشاطاً قومويا متطرفا ذا طابع تآمري"، وليس حقا أساسيا مكفولا، بالقوانين، لأي مواطن من مواطني الدولة!!!

ويأتي التعبير عن هذا الموقف الإسرائيلي في ورقة رسمية قدمتها النيابة العامة للدولة إلى "محكمة العدل العليا الإسرائيلية" ردا على الالتماس الذي كانت تقدمت به جمعية حقوق المواطن في إسرائيل ضد "جهاز الأمن العام" (الشاباك) لاستصدار أمر من المحكمة يلزم هذا الجهاز بالتوقف عن سياسة ونهج استدعاء نشطاء سياسيين واجتماعيين لما يُعرف باسم "محادثة تحذير" يستغلها هذا الجهاز، عادة، لترهيب هؤلاء النشطاء والضغط عليهم وابتزازهم.

ورغم أن النص الذي تضمنته الورقة الرسمية تحدث عن مظاهرات المواطنين العرب في إسرائيل وحلفائهم من الديمقراطيين اليهود ضد "مخطط برافر" (لاقتلاع المواطنين البدو من قراهم وأراضيهم في منطقة النقب وتهجيرهم منها)، تحديدا، ووصفها بأنها "تنطلق من دوافع إيديولوجية تآمرية، على خلفية قومية"، إلا أن الواضح أن هذا الموقف ـ وما يتبعه من ممارسات ـ لم ولا يقتصر على الأنشطة الاحتجاجية ضد "مخطط برافر" فحسب، بل هو موقف عام وشامل يعتبر الاحتجاج المدني الذي يمكن أن يتطور إلى ما يسمى "إخلال بالنظام العام" ليس فقط نوعا من "الخطر الأمني" المحتمل، بل هو "يمس بأمن الدولة"، بمعنى التحقق!

وكانت هيئة محكمة العدل العليا قد عقدت مؤخرا جلستها الأولى للنظر في هذا الالتماس (المقدم إليها منذ تموز 2013، أي قبل سنتين!). ويستدل من قراءة محضر هذه الجلسة أن النقاش تمحور، في غالبه، حول محاولة تعريف وتحديد القضايا والمجالات التي تعتبرها الدولة (من خلال ممثل النيابة العامة في المحكمة) "قضايا أمنية" أو "تمس بأمن الدولة". وخلال هذا النقاش، تبين من أقوال ممثلة النيابة العامة، المحامية دانا بريسكمان، أن هذه المجالات والقضايا تشمل "مسائل العلاقات بين اليهود والعرب في دولة إسرائيل... فثمة لهذه إسقاطات أوسع بكثير" (!!) و "أعمال شغب على خلفية قوموية.... فهذه قد تقود إلى أشياء أخرى... وقد تكون لأعمال شغب معينة تأثيرات على أمن الدولة"، علما بأن مصطلح "أعمال شغب" هو المستخدم إسرائيليا، رسميا وإعلاميا، لوصف أية أعمال احتجاجية ينظمها وينفذها الفلسطينيون، سواء كانوا مواطنين في إسرائيل أو في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ومن هنا، ولأن الأمر كذلك، فإن هذه الأنشطة الاحتجاجية تقع ـ كما أوضحت ممثلة النيابة العامة أمام المحكمة ـ ضمن مسؤولية جهاز "الشاباك"، باعتباره المسؤول عن "أمن الدولة"، داخليا. وكانت تقصد، من وراء هذا الكلام وبه، الدفاع عن نهج هذا الجهاز في استدعاء أعداد كبيرة جدا من الناشطين السياسيين والاجتماعيين، العرب بوجه خاص، إلى "محادثة تحذير" هي ليست تحقيقا رسميا بشبهة أو تهمة ارتكاب مخالفة محددة، وإنما وسيلة ترهيب وضغط وابتزاز، بالأساس. وهو ما تعترض عليه جمعية حقوق المواطن في التماسها وتطالب بإصدار أمر قضائي يمنع الاستمرار فيه نظرا لما يشكله من "تجاوز للصلاحيات التي يحددها القانون" ومن "مس فظ وعميق بحقوق أساسية ودستورية مكفولة للمواطنين، بما فيها الحق في حرية التعبير والاحتجاج، الحق في الكرامة الشخصية، الحق في الخصوصية والحرية والحق في إجراءات عادلة".

من جهتها، شددت المحامية ليلي مرغليت، مقدمة الالتماس باسم جمعية حقوق المواطن، على أنّ "الضرر الأكبر على حقوق الانسان يكمن في استناد الشاباك إلى تفسير موسع لمصطلح "التآمر" ومصطلح "أمن الدولة"، كما يكمن في التمييز المرفوض بين المظاهرات طبقا لهوية منظميها". وقالت: "إن مجرد تعريف المظاهرة بأنها "شأن أمني" يردع المواطنين عن المشاركة فيها وعن ممارسة حقهم الديمقراطي في التظاهر".

وعقبت مرغليت على موقف الدولة الرسمي هذا بالقول إن "تعريف الشاباك للنضال ضد مخطط برافر بأنه نشاط قوموي تآمري لا يمس فقط بحرية التعبير عن الرأي، بل يشكل تمييزاً واضحاً ضد الأقلية العربية في إسرائيل. لا يعقل أن يتم التعامل مع مظاهر الاحتجاج المدني للجماهير العربية على أساس تعريف دوافعها بأنها قوموية تآمرية".

تهديدات سافرة ومحاولات ابتزاز صريحة

التماس جمعية حقوق المواطن إلى محكمة العدل العليا موجه ضد "جهاز الأمن العام" (الشاباك) الذي يبادر إلى استدعاء الناشطين إلى "محادثات التحذير" هذه ومحققوه هم الذين يتولّون أمرها وضد شرطة إسرائيل، التي غالبا ما تشكل "ساعي بريد" لدى جهاز "الشاباك" في توجيه هذه الاستدعاءات وإيصالها إلى أصحابها.

وأكدت الجمعية في التماسها أن هذا النهج وهذه السياسة يتناقضان مع نصوص المادتين رقم 7 ورقم 8 من "قانون جهاز الأمن العام" اللتين تعرّفان وتحدّدان وظائف الجهاز، مهماته وصلاحياته. كما تشكل هذه السياسة، أيضا، استغلالا موسعا وغير مبرر لمصطلح "التآمر" الوارد في نص القانون المذكور، "بما يتعارض مع قيم دولة إسرائيل كدولة ديمقراطية ويشكل مسّا خطيرا بحقوق الفرد الأساسية والدستورية، بما فيها حقه في حرية التعبير والاحتجاج، حقه في الكرامة الشخصية، حقه في الخصوصية والحرية وحقه في الخضوع لإجراءات قضائية عادلة".

وتضمن التماس جمعية حقوق المواطن شهادات عديدة لمواطنين، فلسطينيين ويهود، جرى استدعاؤهم من قبل الشرطة للمثول أمام محققي "الشاباك" لما يسمى "محادثة تحذير" (وتسمى، أحيانا أخرى: "استيضاح"!)، مؤكدا أن هذا النهج قد اتسع بصورة لافتة خلال السنوات الأخيرة حتى أصبحت "نهجا معتمدا ومقبولا"، رغم أن الأمر ينطوي على مغالطة كبيرة من حيث تصوير هذه بأنها "مجرد محادثة" بينما هي تحقيق غير رسمي، في واقع الأمر وحقيقته! فخلال مثل هذه "المحادثة" يوجه محققو جهاز "الشاباك" للناشطين أسئلة مختلفة حول نشاطاتهم السياسية والاجتماعية، حول أعمالهم ومعارفهم وحول نشطاء آخرين. وفي حالات عديدة، طلب محققو الشاباك من الناشطين الذين مثلوا أمامهم تزويدهم بأسماء وأرقام هواتف بعض أقاربهم أو معارفهم، بل ويوجهون لهم أيضا أسئلة حول أوضاعهم الاقتصادية و"كيف يتدبرون أمورهم"!! وكل هذا من خلال إفهامهم بأن "الشاباك يعرف عنهم تفاصيل شخصية عديدة ويراقب تحركاتهم"، مما يشكل تهديدا واضحا وسافرا، لا مبطنا فحسب، ومحاولة ابتزاز صريحة، في أكثر من معنى وصورة.

وعلى الرغم من أن هذه "المحادثة" ليست تحقيقا رسميا، إلا أن محققي "الشاباك" الذين يجرونها يحرصون في كثير من الحالات على "تنبيه" الناشط الماثل أمامهم إلى أنه "حتى الآن، ليست هنالك شبهات قانونية ضدك، ولكن عليك أن تكون حذرا في المستقبل فلا ترتكب مخالفة قانونية ولا تمسّ بأمن الدولة"!! وهو ما يشكل أسلوبا ترهيبيا وتهديديا واضحا. كما يعمد محققو "الشاباك" في حالات كثيرة من تلك "المحادثات" إلى استخدام حجج وادعاءات عمومية بشأن "المشاركة في أعمال شغب وإخلال بالنظام العام" من دون عرضها كشبهات حقيقية ورسمية، فضلا عن إخضاع العديد من الناشطين لدى مثولهم إلى هذه "المحادثة" لتفتيشات مهينة ومذلّة.

ومن بين الشهادات التي تضمنها التماس الجمعية ما رواه المواطن الفلسطيني راتب أبو قرينات، وهو ناشط ميداني في "فوروم التعايش في النقب للمساواة المدنية". فقد تم استدعاء أبو قرينات، خطيا، للمثول إلى جلسة "استيضاح" في مركز شرطة القرى البدوية في منطقة النقب. لكن كتاب الاستدعاء لم يكن يحمل أي توقيع ولا أية تفاصيل عن مرسله والمسؤول عنه ولا أية إشارة إلى موضوع "الاستيضاح". ورغم ذلك، كان أبو قرينات قادرا على "تخمين" صاحب الكتاب، بناء على تجارب الماضي في هذا المجال. فقد كان تم استدعاؤه قبل ذلك بثمانية أشهر إلى مركز آخر للشرطة. كان ذلك في حزيران من العام 2012، إذ تلقى أبو قرينات مكالمة هاتفية من شرطي يدعى "إيغور" طلب منه "المثول للتحقيق" في مركز الشرطة في مفترق شوكت. وحينما وصل إلى مركز الشرطة المذكور، جرى تحويله إلى قاعدة "حرس الحدود". وهناك، أخضع أبو قرينات للتفتيش المهين على جسده، مرتين ـ واحدة عند البوابة الرئيسة وأخرى في داخل إحدى الغرف. ومن ثم أدخل إلى مكتب كان ينتظره فيه شخص يدعى "كيمي" الذي سارع إلى التوضيح: "نحن هنا في محادثة عادية وليس تحقيقا"!!

واستمرت هذه "المحادثة"، باللغة العربية، أكثر من ساعتين ونصف الساعة، قام "كيمي" خلالها باستجواب أبو قرينات حول نشاطه الاجتماعي، السياسي، آرائه ومواقفه، أقاربه وأصدقائه ومعارفه، بمن فيهم مواطنون من الضفة الغربية وقطاع غزة، وحول تعليمه وعمله وحول وضعه الاقتصادي، كما طولب بتقديم أسماء وأرقام هواتف أشقائه وأصدقائه!!

وتخلل "المحادثة"، أيضا، توجيه أسئلة إلى أبو قرينات حول موقفه من "مخطط برافر" ختمها المحقق "كيمي" بالقول: "إفعل ما تراه مناسبا في قضية برافر... لا يهمني نضالكم الداخلي بتاتا ومن المهم أنك جزء من هذا النضال... ولكن، إحذر من الاقتراب إلى أمن الدولة أو توسيع نشاطك"!!

وفي ختام "الجلسة" أطلق المحقق التهديد التالي نحوه: "عليك أن تصليّ كي لا تصل إلى هنا مرة أخرى"!!

تخوف الناشطين من إجراءات انتقامية!

حين تسلم الاستدعاء الجديد، في شباط الأخير، توجه أبو قرينات إلى جمعية حقوق المواطن التي توجهت بدورها إلى جهاز "الشاباك" نفسه وإلى المستشار القانوني للحكومة مؤكدة أن هذا الاستدعاء لا يحمل أية صفة قانونية ملزمة وأن لا حاجة لوضع المواطن المعني في هذه المعضلة الموترة والضاغطة المترتبة على استدعائه. وعليه، طالبت الجمعية بإبلاغ المواطن رسميا ببطلان كتاب الاستدعاء وإلغائه. وفي اليوم التالي، تلقت الجمعية رسالة جوابية من الدائرة القانونية في "الشاباك" توضح أن "أبو قرينات غير ملزم بالمثول في مركز الشرطة وإذا لم يكن معنيا بذلك، فله حرية عدم القدوم"!!
وتغيب هذه الحقيقة عن أعين وأذهان كثيرين جدا من الناشطين السياسيين والاجتماعيين - حقيقة أن هذا الاستدعاء غير ملزم، إطلاقا، من الناحية القانونية وللشخص المستدعى كامل الحق القانوني بعدم الالتفات للاستدعاء وعدم الاستجابة له.

وقد تطرق قضاة المحكمة العليا إلى هذه المسألة خلال الجلسة المذكورة، إذ عبروا عن مخاوفهم من جراء "عدم الوضوح القانوني" بشأن إلزام المواطن بالاستجابة للاستدعاء أو بالتعاون مع محققي "الشاباك". وفي سياق ذلك، اعترف "الشاباك" بأنه لا يملك أية صلاحية قانونية في إلزام أي مواطن بالمثول لديه لما يسمى "محادثة تحذير"، كما لا يملك صلاحية قانونية بإلزام من يقرر المثول بالتعاون مع المحققين والإجابة على أسئلتهم. وعلى الرغم من ذلك وردا على أسئلة القضاة، اعترفت ممثلة النيابة العامة للدولة خلال جلسة المحكمة بأن "الشاباك لا يوضح هذه الحقيقة للناشطين لدى استدعائهم" وأنه "يقوم بهذا فقط في حال تساؤل المستدعى عن الإسناد القانوني لاستدعائه والتحقيق معه"!

ورغم هذا، أكدت جمعية حقوق المواطن أنها وثـّقت، في تصريحات مشفوعة بالقسم أرفقت بالالتماس، حالات عديدة تساءل فيها النشطاء الذين تم استدعاؤهم عما يمكن أن يحصل لهم إذا ما قرروا عدم تلبية الاستدعاء فكان جواب محققي الشاباك: "سنقوم بإرسال سيارة شرطة لاقتيادك"!! وفي حالة أخرى، صرحت ناشطة تم استدعاؤها لـ"محادثة تحذير" لدى "الشاباك" بأنها ترفض المثول أمام محققي هذا الجهاز، فقيل لها إنهم "لا يريدون سوى إيصال رسالة لها وبعد ذلك يمكنها الذهاب"!!

وأوضحت جمعية حقوق المواطن أنها هي التي قدمت الالتماس، باسمها هي وليس باسم نشطاء سياسيين واجتماعيين تم استدعاؤهم من قبل "الشاباك" والسبب: خوف هؤلاء من الزج بهم في مواجهة مباشرة مع "الشاباك" بما يعنيه ذلك من احتمال تعرضهم لإجراءات انتقامية لا يمكن التكهن بكنهها ونتائجها! ومع ذلك، فقد وقع هؤلاء على تصاريح مشفوعة بالقسم ترسم صورة تفصيلية عن نهج الاستدعاءات هذه وعن سير "محادثات التحذير" وفحواها.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات