المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

فرص فوز متهم عربي باستئناف جنائي تزداد، كثيرا، بوجود قاضٍ عربي في هيئة المحكمة!

في المقابل لا يغيّر وجود القاضي العربي في هيئة المحكمة كثيرا من احتمالات قبول / رفض استئناف مواطن يهودي، رغم أن تركيبة من قضاة يهود فقط (في هيئة المحكمة) هي الخيار الأمثل بالنسبة للمواطن اليهودي!

بحث جديد، لكنه ليس الأول الذي يؤكد الحقيقة المعروفة، على أرض الواقع، منذ بدايات القضاء في دولة إسرائيل: جهاز القضاء في إسرائيل، معقل "العدل والعدالة" وملاذهما الأخير، هو جزء لا يتجزأ من المؤسسة الإسرائيلية الرسمية التي تعشش فيها وتتجسد، في مختلف مناحي الحياة ومرافقها، عقلية التمييز ضد الإنسان العربي، لمجرد كونه عربيا.

ورغم هذه الحقيقة ـ إنه ليس البحث الأول ـ إلا أنه يكتسب أهمية بالغة جدا نظرا لعوامل عدة، أبرزها: إنه بحث علمي ـ أكاديمي رفيع، إنه ينشر في واحدة من أهمّ المجلات العلمية (المتخصصة في العلوم السياسية) في العالم، إنه البحث الأول الذي يتطرق إلى أهمية وجود القضاة العرب، من الفلسطينيين مواطني إسرائيل، في الجهاز القضائي الإسرائيلي ودورهم القضائي في إطاره.

والعنوان الرئيس الذي يمكن اعتماده من نتائج هذا البحث واستخلاصاته، بإيجاز، هو: وجود قاض عربي في هيئة المحكمة التي تنظر في استئناف مواطن عربي على حُكم إدانته وعقوبته بمخالفات جنائية يرفع من احتمالات قبول هذا الاستئناف (إلغاء الإدانة و/ أو تخفيف الحُكم)! وفي المقابل، لا يغيّر وجود القاضي العربي في هيئة المحكمة كثيرا من احتمالات قبول استئناف مواطن يهودي، رغم أن تركيبة من قضاة يهود فقط (في هيئة المحكمة) هي الخيار الأمثل بالنسبة للمواطن اليهودي!

هذا البحث أجراه أربعة باحثين أكاديميين، اثنان منهم إسرائيليان واثنان أميركيان. أما الإسرائيليان فهما: البروفسور أورن غزال ـ إيال، أستاذ القانون في كلية الحقوق في جامعة حيفا، والبروفسور غاي غروسمان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا (الولايات المتحدة). وستنشر نتائج البحث التفصيلية في العدد القريب من "المجلة الأميركية للعلوم السياسية" (The American Journal of Political Science)، التي تعتبر إحدى أهم مجلتين للعلوم السياسية في العالم.

والبروفسور غزال ـ إيال معروف في الأوساط الأكاديمية والقضائية بفضل أبحاثه الأكاديمية العديدة، وخاصة ما يتعلق بالقضاء الجنائي، الإجراءات الجنائية وصفقات الإدعاء، بدائل الإجراءات الجنائية والأحكام الجنائية، فضلا عن إشغاله منصب رئيس "مركز أبحاث القضاء، الإجرام والمجتمع" في جامعة حيفا، كما أشغل في الماضي منصب مستشار أكاديمي لوزارة العدل الإسرائيلية وللجنة الدستور، القانون والقضاء في الكنيست الإسرائيلي.

فجوة هائلة وواضحة!

شمل هذا البحث، الذي ينشر تحت عنوان "التمثيل الوصفيّ والنتائج القضائية في مجتمعات متعددة الأعراق"، عينة قوامها 450 استئنافا قدمها متهمون إلى محاكم مركزية في إسرائيل على أحكام قضائية صدرت بحقهم في مخالفات جنائية، خلال السنوات من 2007 حتى 2011. وقد تألفت هيئات القضاة التي نظرت في تلك الاستئنافات، غالبا، من ثلاثة قضاة يهود فقط وفي أحيان أخرى من قاضيين يهوديين وقاض عربي واحد وفي حالات نادرة جدا من قاضيين عربيين وقاض يهودي واحد.

وشمل البحث ثلاثا من المحاكم المركزية الأساسية في إسرائيل، هي: المحكمة المركزية في الناصرة، المحكمة المركزية في القدس والمحكمة المركزية في تل أبيب. ولم يشمل المحكمة المركزية في اللد والمحكمة المركزية في بئر السبع نظرا لعدم جلوس أي قاض عربي في أي من هيئات القضاة التي نظرت في الاستئنافات، بينما جرى إسقاط المحكمة المركزية في حيفا من عينة البحث لأنه لم يكن فيها سوى حالة واحدة فقط كان فيها قاض عربي عضوا في هيئة المحكمة التي نظرت في استئناف جنائي.

وأشار الباحثون إلى أن قاضيا عربيا واحدا شارك في ثماني حالات استئناف جنائية في هيئة المحكمة المركزية في القدس، هو القاضي عوني حبش، الذي أشغل منصب نائب رئيس المحكمة وخرج إلى التقاعد في منتصف العام 2009، ومنذ ذلك الحين لم يبق في المحكمة المركزية في القدس أي قاض عربي (في محكمة الصلح في القدس قاضيان عربيان فقط)!

ويبين البحث أن تركيبة القضاة في هيئة المحكمة التي تنظر في استئنافات جنائية لا تغيّر كثيرا في النتائج حينما يكون المتهم يهوديا، إذ إن احتمالات نجاحه في الاستئناف أمام هيئة "مختلطة" (بوجود قاض عربي) مطابقة، تقريبا، لاحتمالات نجاحه أمام هيئة قضاة يهود فقط: 36% من الاستئنافات الجنائية التي تقدم بها متهمون يهود أمام هيئات "مختلطة" تم قبولها، مقابل 39% من تلك التي نظرت فيها هيئات من قضاة يهود فقط.

وفي المقابل، بيّن البحث أن احتمالات نجاح المتهمين العرب في استئنافات جنائية تقلّ بصورة كبيرة إذا كانت هيئة المحكمة التي تنظر في الاستئناف مكونة من قضاة يهود فقط، بدون أي قاض عربي: 24% فقط من الاستئنافات الجنائية التي تقدم بها متهمون عرب أمام هيئات من القضاة اليهود فقط تم قبولها، بينما ارتفعت هذه النسبة إلى 36% (بمقدار النصف!) لدى وجود قاض عربي في هيئة المحكمة التي تنظر في الاستئناف! ويصف الباحثون هذه الفجوة بأنها "هائلة وواضحة".

ويؤكد الباحثون إن هذه النتائج تبقى على حالها حتى عند الأخذ في الحسبان معايير أخرى، أيضا، مثل احتمال توقيع عقوبة السجن على المتهم أو فترة اعتقاله بعد الاستئناف. وهذا، حتى مع تحييد عوامل أخرى قد تكون ذات أثر ما، مثل منطقة القضاء (مكان المحاكمة) أو نوعية المخالفة.

تأثير الهوية الإثنية على الإجراءات والقرارات القضائية

وهذا البحث، الذي يضاف إلى أبحاث أخرى في هذا المجال، يدحض الادعاء الرسمي القائل بأن لا حاجة لوجود تمثيل لمختلف شرائح المجتمع والسكان في إسرائيل في الجهاز القضائي بزعم أن القضاة "يحكمون وفق اعتبارات مهنية مجردة فقط"!

ويشكل البحث الجديد، بنتائجه البينة، استئنافا جوهريا على فرضية أساس تعتمدها "لجنة تعيين القضاة" في إسرائيل وتوجّه سياستها وعملها ومفادها أن "خلفية القضاة (القومية، الدينية، الاجتماعية وغيرها) ليست ذات شأن ولا تأثير لها على عملهم القضائي، بل الجانب المهنيّ فقط هو الأهمّ"! [نشير هنا إلى "لجنة تعيين القضاة" تتألف، وفقا للقانون، من تسعة أعضاء: ممثلان عن الحكومة، ممثلان عن الكنيست، ممثلان عن نقابة المحامين وثلاثة قضاة من المحكمة العليا، من بينهم رئيس هذه المحكمة. وقد أقر الكنيست، في مطلع كانون الثاني 2014، تعديلا خاصا لهذا القانون يُلزم بضمان التمثيل النسائي بأربعة أعضاء من أعضاء اللجنة التسعة، بينما لم يشغل أي عربي عضوية هذه اللجنة حتى دورتها الأخيرة، إذ انضم إليها المحامي خالد حسني زعبي من الناصرة ممثلا عن نقابة المحامين].

وفي السياق، كانت لجنة خاصة ترأسها قاضي المحكمة العليا سابقا، البروفسور إسحاق زمير (أشغل في الماضي، أيضا، منصب المستشار القانوني للحكومة) قد فحصت، في العام 2000، إجراءات انتخاب وتعيين القضاة في إسرائيل وتوصلت، في ختام عملها الذي وثقته في تقرير خاص، إلى الاستنتاج ذاته: "الادعاء بضرورة أن تكون تركيبة القضاة بوجه عام، وفي المحكمة العليا بشكل خاص، ممثلة للتركيبة السكانية ومعبرة عنها ليست مقبولة على اللجنة"، كما سجلت في تقريرها.

وزادت هذه اللجنة القول إن "مثل هذه التمثيلية ملائمة لهيئات وأجسام منتَخـَبة مهمتها وضع وإقرار السياسات في شؤون قومية أو محلية، مثل الكنيست أو السلطة المحلية، لكنها ليست ملائمة لهيئة مهنية مثل المحكمة. ذلك أن المهمة المركزية الملقاة على عاتق المحكمة هي تفسير القانون وتطبيقه بصورة موضوعية، طبقا للقيم الأساس المعتمدة في الدولة، وليس على قاعدة تمثيل هذا القطاع أو ذاك فيها. فالخلاف القضائي يستوجب حسما قضائيا. ومن حق أي مواطن يمثل أمام المحكمة تقرير مصيره من قبل قاضٍ تم تعيينه في منصبه بفضل مؤهلاته المهنية وملاءمته أكثر من سواه، خلافا للقاضي الذي يتم تعيينه لأنه يمثل قطاعا معينا فقط"!

غير أن نتائج هذا البحث الجديد تأتي لتعزز وتؤكد نتائج مماثلة تنقض هذا التوجه الرسمي المذكور، كانت خلصت إليها أبحاث سابقة في هذا المجال، وخاصة بشأن التأثير المحتمل لهوية القضاة الإثنية على قراراتهم وأحكامهم القضائية، خاصة وأنه (البحث الجديد) بحث هذه المسألة في ضوء النظرية المسماة "أثر الهيئة" (Panel effect) ـ أي تأثير القاضي الفرد على النتيجة القضائية التي تتوصل إليها الهيئة (القضائية) كلها.

وقد أظهر بحث كان قد أجراه البروفسور غزال ـ إيال نفسه، سوية مع د. رعنان سولتسيانو كينان المحاضر في قسم العلوم السياسية والسياسة العامة في الجامعة العبرية في القدس، في العام 2007، أن احتمال الإفراج عن متهم يهودي من الاعتقال، رغم طلب الشرطة تمديد اعتقاله، يزداد حينما يكون القاضي يهوديا. بينما تكون فرص الإفراج عن متهم عربي أكبر، في المقابل، حينما يكون القاضي عربيا.

وتوصل إلى النتائج ذاتها، أيضا، بحث آخر كان أجراه البروفسور موشي شعيو ود. أساف زوسمان من الجامعة العبرية في القدس في مجال الدعاوى الصغيرة في إسرائيل. ومن تلك النتائج، أن فرص فوز مواطن يهودي في هذا الإجراء القضائي (دعوى صغيرة) هي أكبر حينما يكون القاضي يهوديا، بينما تزداد فرص فوز المواطن العربي كثيرا حينما يكون القاضي عربيا.

كما توصل بحثان جديدان أجريا في الولايات المتحدة في قضية "التمييز التفضيلي / التصحيحي" على ملفات قضائية مختلفة إلى نتيجة مفادها أن مشاركة قضاة من الأقليات الإثنية في الهيئات القضائية كان لها أثر واضح على النتائج القضائية، لصالح متهمين من مجموعات الأقلية تلك. فقد كان لمشاركة قضاة سود، مثلا، تأثير واضح على قرارات الهيئات القضائية التي نظرت في مسائل تتعلق بدستورية "التمييز التصحيحي" للسود في الولايات المتحدة وفي دعاوى أخرى موضوعها النزاعات والمشاحنات على خلفية عرقية هناك.

ويوضح أحد معدّي البحث الجديد، البروفسور غاي غروسمان، أن الأبحاث التي درست، حتى الآن، تأثير قاض من أقلية عرقية على الهيئة القضائية التي يشارك فيها تركزت، فقط، في الملفات القضائية المرتبطة مباشرة بالتوتر العرقي في الولايات المتحدة، بينما هذا البحث (الجديد) هو "الأول الذي يبيّن، بوضوح، أن للتركيبة الإثنية أهمية وتأثيرا كبيرين في الملفات القضائية العادية، مثل الملفات الجنائية، غير المتعلقة بموضوعة حقوق الأقليات". ويضيف غروسمان: "إذا كان ثمة تأثير لقاض عربي على الهيئة القضائية التي يشارك فيها في الملفات اليومية "العادية" هذه، فمن الواضح إذن أن لنسبة تمثيل العرب بين القضاة أثرا بالغا يفوق ما كان معتقدا حتى الآن، بكثير".

وعلاوة على "أثر الهيئة"، كما ذكر آنفا، تؤكد نتائج البحث الجديد، أيضا، ظاهرة معروفة في علم الاجتماع تدعى "الانحياز للجماعة الداخلية"، أي ميل الأشخاص وانحيازهم، عادة، لصالح نظرائهم، سواء في الخلفية الإثنية، العرقية أو الطبقية. وكما يوضح البروفسور غزال – إيال، فإن "الناس يميلون إلى التماثل أكثر مع الأشخاص الذين يشبهونهم، إلى تصديقهم أكثر وإلى التخوف أكثر من المختلفين عنهم". ويضيف: "القضاة هم بشر ويخضعون لهذه التأثيرات، كما الآخرين. ليس القصد هنا هو تمييز مقصود ومتعمد، إذ يبذل القضاة قصارى جهدهم للنظر والحسم بصورة متساوية طبقا للقانون، غير أن هذه الميول الإنسانية تؤثر عليهم أيضا، دون شك".

لكنّ ما أثار قلق الباحثين، بوجه خاص، هو ما بينته نتائج البحث بشأن ممارسة النيابة العامة للدولة في مجال الاستئناف على الأحكام القضائية الجنائية والقرارات القضائية التي تصدر عن المحاكم في مثل هذه الاستئنافات. فقد تناول البحث 136 استئنافا قدمتها الدولة (النيابة العامة) بادعاء أن "العقوبة مخففة" وتبين منها أن فرص نجاح هذه الاستئنافات بحق متهمين يهود لا تتأثر كثيرا بتركيبة هيئة القضاة، خلافا للحال بالنسبة للمتهمين العرب: 79% من الاستئنافات التي قدمتها الدولة خلال فترة البحث (2007 - 2011) وطالبت فيها بتشديد العقوبة بحق متهمين يهود تم قبولها من جانب المحاكم، سواء كانت هيئة القضاة من اليهود فقط أو بمشاركة قاض عربي. أما في الاستئنافات التي قدمتها، بالادعاء والطلب نفسيهما، بحق متهمين عرب فقد قبلت المحاكم 83% منها حين تشكلت هيئة المحكمة من قضاة يهود فقط، بينما انخفضت هذه النسبة إلى 62% لدى وجود قاض عربي في عضوية هيئة المحكمة.

وقد دفعت هذه النتيجة، المقلقة بحد ذاتها في نظرهم كما ورد، إلى التأكيد على أن "الانحياز" ليس قصرا على القضاة فقط، بل هو قائم لدى النيابة العامة أيضا، إذ تبادر إلى تقديم استئنافات على أحكام قضائية بحق متهمين عرب بسهولة أكبر بكثير مما تفعله بحق متهمين يهود. ويوضح البروفسور غزال ـ إيال هذا "الالتباس" بالقول إنه "ليس من المعقول أن تعمد هيئة قضائية مختلطة، تتألف غالبا من أغلبية يهودية، إلى التمييز سلبا ضد متهمين يهود. لكن علينا أن نتذكر، في هذه النقطة، أنه في الاستئنافات التي تقدمها النيابة العامة للدولة ثمة عنصر آخر فاعل، هو النائب العام اللوائي (رئيس النيابة العامة في لواء ما)". ويضيف: "القرار بشأن الحالات التي تقدم فيها النيابة العامة استئنافات كهذه هو قرار يتخذه النائب العام اللوائي، وجميع الذين يشغلون هذا المنصب في إسرائيل هم من اليهود"!!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات