قامت قناة "كان" الرسميّة الإسرائيليّة في شهر تموز المنصرم بعرض سلسلةٍ وثائقيّةٍ جديدةٍ حول عالم الآثار تحمل اسم "لُصوص الكنز المفقود"، إخراج تسفيكا بيندر. عُرّفت السلسلة كوثائقيّ – جريمة، ليس بفعل موضوعها وكيفيّة سرد خبايا عالم التّنقيب غير القانونيّ عن الآثار (وفق القانون الإسرائيليّ) والمُتاجرة بها فحسب، بل بإضافة قراءة بصوت الممثل أوري غابريئيل الذي عُرف في التلفزيون والسينما بأداء أدوار الشر والإجرام، فرفع ذلك منسوب الإثارة. أما الذروة فتتجلى حين الكشف عن هوية لصوص الآثار المَهَرة - الفلسطينيون، لذا تُفتتح السلسلة بتصريحٍ مكتوبٍ حول تدخل الأذرع الأمنيّة المختلفة للقبض على اللصوص مع الاحتفاظ ببعض المعلومات لحساسيّة القضيّة.
عالجت السّينما العالميّة والعربيّة في الماضي قضايا تجارة الآثار من خلال أفلام أيقونية مثل سلسلة "إنديانا جونس" الأميركيّة للمخرج ستيفن سبيلبيرﭾ، أو "المومياء" المُقدّم بالكثير من العبقريّة للمخرج المصريّ شادي عبد السلام، وأظهرت هذه الأفلام، كما هذا المسلسل، أن عالم الآثار يحمل عدداً من الجوانب المظلمة، حيث يجد اللصوص وعلماء الآثار والسماسرة ساحة يتشاركونها تتسم بتنوّع المصالح والكثير من المال. لكن هنا، يتحوّل عالم الآثار الإسرائيلي والسمسار إلى مجرد مُشترين، فيما يكون الفلسطيني هو اللص! رغم شراكتهم في الجريمة، إلا أن ذرائع البحث عن الآثار اليهوديّة والحرص على أن تكون ملكاً للدولة كما ينص القانون، ومعروضةً في متاحفها ومؤسساتها الأكاديميّة، تُعزز الفرق بين الطرفين لصالح رواية أكبر بكثير من العثور على عُملة أو قطعة بردى مدفونة في الصحراء.
منذ سنواتٍ طويلةٍ تعمل سلطة الآثار الإسرائيليّة بالتعاون مع كليات أكاديميّة وخبراء وعلماء للعثور على مخطوطات في الصحراء جنوب فلسطين، والمُسماة بالعبريّة "صحراء يهودا"، وذلك بعد أن عثر راعٍ صدفةً على "مخطوطات قُمران" في جرار داخل كهف، وهي مخطوطات كتبت عليها نصوص العهد القديم. خلال البحث عن هذه المخطوطات المكتوبة باللغة العبريّة من فتراتٍ زمنيّةٍ مختلفةٍ، يعثر الباحثون على آثار أخرى لا تقل أهميةً بالنسبة لهم عن المخطوطات. لكن الاستماتة في هذه الحكاية كلها هو العثور على أي كلمة بالعبريّة تربط اليهود بهذه الأرض حتى لو كانت مكتوبةً على قطعةٍ من جلد ماعزٍ عمرها ألفَ عامٍ تحمل آثار بولٍ لحيوان الظربان. هكذا يُفتح فصل آخر من فصول الصراع، ويصبح لص الآثار الفلسطينيّ مجرماً على خلفيّة قوميّة.
تعامَل الإعلام الإسرائيليّ مع السلسلة بالكثير من الإعجاب، وكُتبت المقالات التي تصورّها كمادة تلفزيونيّة رشيقة المحتوى والأسلوب، وأثنت على قدرة المخرج تحويل مادة أكاديميّة جافة وموضوع بعيد عن الهم اليوميّ للمشاهد، إلى مسلسل إثارة وترقّب. لكن في خلفيّة هذا الثناء كان هناك شرير مشترك للمقالات جمعاء: "العربيّ" – فوصفه موقع "معاريف" في عنوانه "البدويّ الذي يعرف أكثر من عالم الآثار"، إن في إضفاء الإثنية هنا دلالة على أن الصراع يتعدى كونها تجارة رائجة في مختلف أنحاء العالم، في هذه البلاد كل التسميات والدلالات مدروسة للإبقاء على الصراع قومياً، ولإضافة المزيد من الأوصاف الشائنة إلى ملف العدو.
وردةٌ في الصحراء
تعرض الحلقة الأولى دوافع تشكيل وحدةٍ خاصةٍ والخروج لتنفيذ عمليّة استخباراتيّة. تنطلق العمليّة التي تضم عملاء سريين، ورجال استخباراتٍ متقاعدين، ومندوبي سلطة الآثار، وشرطة مكافحة سرقة الآثار، وسماسرة ولص آثار فلسطينيّ عظيمُ الخبرة، للكشف عن هوية السارق ومكان المخطوطة الثمينة. يجلس سعيد أمام الكاميرا ويواجهها بلغة عبريّة واضحة: " أنا سارق الآثار. كان والدي سارقاً وعلمني المهنة، وسأعلم ابني المهنة أيضاً. وإن قبضوا عليّ، فلن يكون هناك أي ضررٍ. سأقضي عاماً، عامين، ثلاثة أعوام في السجن، وعندما يُطلق سراحي، في طريقي إلى المنزل، سأشتري جهاز كشف معادن وأستمر في سرقة الآثار. هذا أنا، وهذه مهنتي". إن هذه المواجهة ليست بين سعيد الذي تستميله سلطة مكافحة سرقة الآثار للوصول إلى منافسيه، بل هي جرعة أخرى من الاستفزاز للمشاهد الإسرائيليّ الذي بات يشعر الآن بالخطر على كنوز دولته.
منذ البداية تشي قراءة النص في الخلفيّة إلى التعاطي مع القضيّة بقالب التشويق، ويشير اختيار الكلمات في النصّ إلى الفصل ما بين "نحن" و"هُم"، تصاحب القراءة موسيقى غربيّة إلا أنها سرعان ما تتبدل وتميل نحو الشرقيّة الغنيّة بصوت العود بتزامن الإعلان عن هوية اللص: "البدو".
خلال الحلقة والبحث عن "جلد مكتوب" كما يسمونه، تُظهر المشاهد أرضاً قاحلة، تُعيد إلى الأذهان فكرة خلو الأرض من السكان، لكن ذلك سرعان ما يصطدم بالحاجة إلى من يعرفون الأرض حقاً ويستدلون على أماكن المُغر فيها، ومواقعها المُغريّة للباحث- قبيلة الرشايدة التي تعيش في المنطقة وتعرفها شبراً شبرا. ثم تعود بنا القصة إلى العام 1947، أي قبل وجود الدولة، حيث نقّب بدو شرق الخليل عن الآثار واحترفوا تجارتها، فيما فشلت جميع البعثات الإسرائيليّة في سنوات الخمسينيات والستينيات في العثور على أي أثر.
أطلق اسم "وردة في الصحراء" على العمليّة السياسيّة الدينيّة الأثريّة التي تهدف من جهة للعثور على بقايا مخطوطات، ومن جهة أخرى للكشف عن هويات مجموعة سارقي الآثار، اسم يرتبط بشكلٍ وثيقٍ مع مفردات الحركة الصهيونيّة التي روّجت للاستعمار في فلسطين – إحياء القفار.
"السكّير من بيت لحم"
تعرض الحلقتان الثانيّة والثالثة قصة تاجر الآثار "السكّير من بيت لحم" وهذا الوصف ليس عشوائياً، إنه العربيّ الذي يمكن إغواؤه بقنينة كحول رخيصة، يمكن شراء ذمته والاستخفاف به، وهو العربيّ المسيحيّ – كما يحددون هويته، في مقابل البدويّ الذي يعيش في بيئته الطبيعيّة التي تخلو من مظاهر التحضّر. بعيداً عن أن ممارسة سياسات التفرقة ومحاولات الإيقاع بالتاجر لا تؤتي ثمارها، إلا أن التوقّف هنا هو عند وصف سكان الصحراء، واستخدام مصطلح "بيئتهم الطبيعيّة" الذي يصب ضمناً في صالح مناهضة الاستيطان جنوب فلسطين.
تُعلن الحلقة الرابعة عن إطلاق اسم "الصقر" على إحدى العمليّات، تماماً كأي عمليّة عسكريّة عدوانيّة، اسم واستهداف للفلسطينيّ تليه عمليّة جديدة لاحتلال القدس. فبعد العثور على قطعة صغيرة من مخطوطة كتبت عليها كلمة "يروشاليما" (أي باتجاه القدس) في يد مجموعة منقبين من سكان قريّة سعير قرب الخليل، يقف رئيس الوزراء الإسرائيليّ نتنياهو مفاخراً بالعثور على ما يؤكد – بنظره- الملكيّة اليهوديّة للقدس. تستعّر الحرب والسباق للعثور على المزيد من قطع هذه المخطوطة طمعاً في إيجاد أي رابط تاريخيّ بين اليهود وأرض فلسطين، وتعتبر السلسلة هذه المخطوطات التي تحمل أسفاراً من العهد القديم خبأها في الصحراء "متمردو بار كوخبا" كأحد أعظم وأثمن الكنوز في تاريخ البشرية، ويزداد التوتر إزاء طرح التساؤل: من سيتمكن من وضع يديه على الكنز أولاً؟ لصوص آثار وسوق سوداء أم جنود حملة "الصقر"؟
ان المثير في الأمر أن كل وصول لوحدة مكافحة سرقة الآثار إلى مغارة في الصحراء تكون مسبوقة أو متبوعة بدخول مجموعة من سارقي الآثار، حتى في أكثر المُغر خطورة وصعوبة "مغارة الجماجم" و"مغارة الرعب". إذاً، لا يمكن للتقنيات والحشود المسلّحة بمعدات التسلّق والتغوير التغلّب على ابن الأرض! يقول أحد علماء الآثار في السلسلة عن البدو: "لقد عاشوا في هذه المنطقة لقرون، ومهنتهم تنتقل من جيل إلى جيل، فهم لا يهتمون بالتاريخ ولا بالحدود، بل يتركون سبل العيش التقليديّة كرعي الأغنام، ويقضون كل وقتهم في البحث عن الآثار".
في الحلقة الخامسة يختار صانع السلسلة إعادة المشاهد الإسرائيليّ إلى الواقع، وخلق ترابط بين السنوات والشخوص والأحداث، والإبقاء على الخط الواضح الفاصل بين "نحن وأعداؤنا". يتم التركيز خلال الحلقة على واحدةٍ من المشاركات في عمليّة التنقيب ضمن الحشد الإسرائيليّ المكون من 400 متطوّع ومتطوّعة- الكتيبة البرتقاليّة- كما يسمونها. تحتل هذه الشخصيّة جزءاً مهماً من الحلقة الأخيرة، ليس لأهمية بقايا حذاء عمره مئات السنين وجدته خلال التنقيب، إنما لكونها أخت ثاكل، فقد قتل أخوها في عمليّة نفذها فلسطينيون. تقول إنها ولدت ونشأت في مستوطنة كريات أربع، وكان التجوّل في الصحراء جزءاً من الاحتفالات بالأعياد وقضاء نهايات الأسبوع. وقد انضمت للمجموعة كنوعٍ من إحياء ذكرى أخيها الذي أحب التسلّق والصحراء والمُغر والاكتشاف. تمر هذه المعلومات بسلاسة لتطبيع وجود أكبر مستوطنات جنوب الضّفة الغربيّة، من جهة، وخلق حالة من الانتماء والتجنّد لمهمة وطنية من الدرجة الأولى.
قصّة إسرائيليّة نموذجيّة
بنظرةٍ واسعةٍ على مجمل الحلقات يمكن رؤية سيناريو فيلم، هناك أخيار وأشرار، وهناك شرطي وسارق، لكن القصة تنتهي بنهاية الفيلم فيما تستمر قصة الآثار في التطوّر. ان التاجر المحترف يبقى محترفاً وخبيراً يتمتع بموهبة خارقة ويعتبر مستشاراً موثوقاً طالما هو يهوديّ، أما العربيّ فهو سارق مهما كانت درجة احترافه ومهما اشتدت حاجة الطرف الإسرائيليّ إليه. في اختيار الآثار عامل سياسيّ ضبابيّ، ليس صراعاً على الأرض مع شعب لا يمت بصلة لها، لقد سبقناهم بـ 2000 سنة، وتركنا أثرنا هنا في أكثر الأماكن صعوبة كي يجده أبناء سلالتنا، وكل من يضع يده عليه من الأغيار فهو مجرم- انها قصة إسرائيليّة بكل معنى الكلمة، يكتب موقع "واينت".
تصوّر السلسة خبراء الآثار وسلطات مكافحة السرقة على أنهم الشجعان الذين يخوضون معارك من أجل قطعة جلد عمرها آلاف السنوات، وهم يعلمون أنها ملك للدولة في حال العثور عليها، وأنها تساوي ملايين الدولارات في السوق السوداء لكنهم يختارون حمايتها وعرضها في المحافل الأكاديميّة والمتاحف لتكون شهادة على وجود "كنوز إسرائيل". تخصص الدولة ميزانية تبلغ ستّة ملايين شيكل سنوياً لمكافحة سرقة الآثار نظراً لاحترافيّة أهل المنطقة الذين يجيدون التعامل مع التضاريس الصعبة والتفوّق عليها. ولكن هذا الرقم ليس مهماً، المهم هو التجنّد والتحشيد في جبهة قتال جديدة لا يتم النصر فيها على الأعداء سارقي الإرث والتاريخ إلا بالعمل معاً.