المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
غزة: أثر الإبادة الحضرية. (شينخوا)

فور الهجوم القاتل الذي نفذته حركة حماس في يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ساد تعاطف كبير مع إسرائيل ومواطنيها، على الأقل في العالم الغربي. مع ذلك، وبعد خمسة أشهر من الحرب الوحشية - التي قُتل فيها، وفقاً لأحدث تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، نحو 30 ألف فلسطيني (حوالى 1.33 بالمئة من سكان غزة)، وجُرح حوالى 69 ألفاً، واضطر نحو 75 بالمئة من السكان إلى ترك منازلهم، ودُمر أو تضرر حوالى 60% من البيوت -   تلاشى هذا التعاطف ويتسع العداء لإسرائيل.

ولا تقتصر الانتقادات القاسية ضد إسرائيل على المظاهرات التي ينظمها طلاب ومجموعات ضغط أخرى، مثل الأكاديميين في الغرب أو عمال الموانئ في الهند؛ بل وصلت إلى المحاكم في عدة دول، وبالطبع إلى المحاكم الدولية. وقد يكون لهذه الإجراءات القانونية تأثير كبير على مكانة إسرائيل وعلى قدرة المؤسسات القضائية الإسرائيلية، وليس الحكومة فقط، على العمل في الساحة الدولية؛ على النمو الاقتصادي في إسرائيل؛ وفي نهاية الأمر على سلامتها أيضاً.

ماذا تريد جنوب أفريقيا؟

الإجراء القانوني الذي حظي بأبرز تغطية إعلامية حتى الآن يتمثل بالدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية في لاهاي. إسرائيل متهمة بارتكاب أعمال تشكل انتهاكا لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية. لا تكمن أهمية هذا الإجراء النادر فقط في خطورة التهمة الموجهة إلى إسرائيل، بل في إمكانية إجبارها على المثول للدفاع عن نفسها أمام المحكمة، لأن إسرائيل قبلت بصلاحية المحكمة لمناقشة النزاعات ذات الصلة عند تفسير اتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية وتنفيذها. وبالتالي فإن الأوامر الصادرة عن المحكمة ستكون ملزمة لإسرائيل، بكل ما يعنيه ذلك على المستويين القانوني والسياسي.  هذا الإجراء يختلف عن إجراءين آخرين في المحكمة: الرأي الصادر العام 2004 بشأن شرعية الجدار الفاصل في الضفة الغربية، والإجراءات الجارية حالياً في طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة لإبداء الرأي حول شرعية الممارسات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية.

سيستغرق التحقيق في اتهامات جنوب أفريقيا ضد إسرائيل سنوات، ويعتقد معظم الحقوقيين الإسرائيليين أنه لن يكون من الممكن إثبات "نية خاصة" لتدمير جماعة ما- وهو الشرط الذي تتطلبه الاتفاقية لإثبات ارتكاب أعمال إبادة جماعية. مع ذلك، فحتى قبل النظر في الدعوى بحد ذاتها، ناقشت المحكمة طلب جنوب أفريقيا إصدار أوامر قضائية مؤقتة ضد إسرائيل، لا يعتمد إصدارها، وفقاً لحكم المحكمة، على إثبات وجود "نية خاصة" لتدمير مجموعة (كلياً أو جزئياً)، وإنما فقط على أساس احتمالية انتهاك حقوق تحميها الاتفاقية في حال لم يتم إصدار الأوامر.

بتاريخ 26 كانون الثاني الماضي، أصدرت المحكمة قرارها. وشمل ستة أوامر ضد إسرائيل، أهمها الذي يطالب إسرائيل "باتخاذ إجراءات فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية، المطلوبة بإلحاح لمعالجة الظروف المعيشية الصعبة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة".  وقضت المحكمة أيضاً بأنه يجب على إسرائيل تقديم تقرير خلال شهر يفصّل جميع الإجراءات التي اتخذتها لتنفيذ أوامر المحكمة.

وبما أن هذه الأوامر الستة ملزمة لإسرائيل، فإن عدم تنفيذها قد تكون له عواقب على مستويين: قانوني وسياسي. وبموجب المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة، إذا لم تمتثل إسرائيل للأوامر، سيكون بوسع جنوب أفريقيا اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي، وسيكون الأخير مفوضا باتخاذ قرار بشأن الخطوات التي يجب اتخاذها لضمان امتثال إسرائيل. وقد تشمل هذه التدابير أنواعاً مختلفة من العقوبات، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية، أو فرض حظر على الدول التي تزودها بالأسلحة.

صحيح أنه يمكن للولايات المتحدة استخدام حق الفيتو ضد قرار مجلس الأمن، لكن لو كنتُ أحد صناع القرار في إسرائيل، فلن أثق في أنها ستفعل ذلك. فالرئيس جو بايدن يتعرض هذه الأيام إلى هجوم شديد داخل حزبه بسبب دعمه لإسرائيل، كما أن استخدام الفيتو ضد قرار لضمان الامتثال لأمر المحكمة قد يقضي أخيراً على فرصه (غير المشرقة أصلا) للفوز في الانتخابات.

لكن حتى لو استخدمت الولايات المتحدة الفيتو، مما يمنع اتخاذ قرار ملزم للدول المختلفة؛ فهو لن يمنعها من التصرف وفقا لما ترتئيه ووفقاً للقرار الذي حظي منذ البداية بتأييد أغلبية الدول الأعضاء في مجلس الأمن (ولم يسقط إلا بسبب هذا الفيتو). ولو لم تمارس الولايات المتحدة حق النقض، فإن امتناعها عن التصويت يكفي لكي يكون قرار المجلس ملزماً لجميع الدول الأخرى، وفي مثل هذه الحالة، يجب الافتراض بأن معظمها سيلتزم بقرار المجلس.

في هذا السياق، ما يحدث على المعابر الحدودية مع غزة، حيث يمنع متظاهرون شاحنات المساعدات من دخول القطاع دون تدخل من الشرطة السياسية التابعة للوزير إيتمار بن غفير، قد يورط دولة إسرائيل. فمن الواضح تماما أن عدم رغبة السلطات الإسرائيلية (أي الشرطة في هذه الحالة) في ضمان إدخال المساعدات إلى غزة لا يمكن أن يبرر انتهاكا صارخا لأمر المحكمة (الذي ينص صراحة على وجوب توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية)، ويمكن للمحكمة أن تقرر نتيجة لذلك أن إسرائيل انتهكت الأمر.

إن وضعاً تقيّم فيه دول مختلفة أن إسرائيل لا تلتزم بأوامر المحكمة يمكن أن يلحق ضررا شديدا بعلاقاتها الخارجية معها. عملياً، حتى بدون قرار من مجلس الأمن بهذا الشأن، قد تلجأ دول مختلفة لاحقاً إلى فرض عقوبات على إسرائيل، مثل قطع العلاقات الدبلوماسية، استدعاء السفراء، الامتناع عن العلاقات التجارية، ورفض بيع الأسلحة أو المعدات العسكرية الأخرى. أما لو قررت المحكمة بأن إسرائيل لم تلتزم بالأوامر المؤقتة، فسوف يزيد من تفاقم الإجراءات الدبلوماسية ضدها.

دعاوى قضائية في محاكم خارج البلاد أيضا

إن ما يحدث في محكمة العدل الدولية قد يؤثر أيضا على موقف المحاكم في شتى الدول، حيث تم رفع دعاوى قضائية ضد سلطات حكومية في محاولة للتأثير على علاقاتها مع دولة إسرائيل. بين أقوى الأمثلة على هذا، الحكم الأخير الذي أصدرته المحكمة الفيدرالية في شمال ولاية كاليفورنيا. إذ تم رفع دعوى قضائية أمامها ضد الرئيس بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن تطالبهما بالامتناع التام عن تقديم أية مساعدات لإسرائيل، من أجل منع "أعمال الإبادة الجماعية" ضد الفلسطينيين في غزة.

 المحكمة اضطرت إلى رفض الدعوى بسبب سوابق قانونية تنص على أن الدعاوى المتعلقة بالعلاقات الخارجية التي تديرها الإدارة الحاكمة غير قابلة للمقاضاة؛ لكن رفض الدعوى لم يمنع القاضي من إبداء رأيه في موضوعها. واستناداً إلى قرار محكمة العدل الدولية بشأن الأوامر المؤقتة ضد إسرائيل، ذكر القاضي الأميركي أن قراره برفض الدعوى لعدم وجود عدالة ليس القرار الأمثل، إذ إن هناك احتمالاً بوقوع أعمال إبادة جماعية بالفعل في غزة.

بناء عليه، طلب القاضي "بحرارة" من المتهمين – أي رئيس الولايات المتحدة ووزير خارجيتها - "إعادة النظر في نتائج دعمهما غير المشروط للحصار العسكري ضد الفلسطينيين في غزة". يصعب التفكير ببلاغ أكثر قسوة من محكمة اضطرت إلى رفض مطالبة معينة بسبب عدم صلاحيتها بالمقاضاة. ومن المؤكد أن منتقدي الرئيس بايدن سيستخدمون هذا الحكم في محاولتهم الضغط عليه لخفض دعمه لإسرائيل.

محكمة كاليفورنيا ليست وحدها التي طُرقت بشأن تبعات الحرب في غزة على العلاقات الخارجية لبلادها. بتاريخ 12 شباط الماضي، منعت محكمة في هولندا الحكومة من توريد قطع غيار لطائرات إف-35 التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، بعد أن خلصت إلى وجود خطر كبير في تركيب قطع الغيار في طائرات "ترتكب انتهاكات واضحة لقواعد القانون الدولي الإنساني". وقد أعلنت الحكومة الهولندية أنها ستستأنف على القرار، لكن طالما لم تقرر محكمة الاستئناف خلاف ذلك - يُحظر على الحكومة الهولندية توريد قطع الغيار المخزنة في أراضيها إلى إسرائيل.

عن سلسلة ردود الفعل الناجمة عن القيود المفروضة على المستوطنين

فيما يتجاوز النظر في النزاعات بين الدول التي وافقت على صلاحيتها، تتمتع محكمة العدل الدولية بسلطة منح وجهات نظر قانونية بناء على طلب مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة. وفي أعقاب استئناف الفلسطينيين أواخر العام 2022، طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة من المحكمة إبداء الرأي في سؤالين: ما هي التداعيات القانونية النابعة من الانتهاك المستمر لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير بسبب استمرار الاحتلال والاستيطان والخطوات التمييزية الإضافية (بما يشمل التشريعات) المعمول بها في الضفة الغربية، وكذلك بسبب ضم القدس الشرقية التي احتلت العام 1967، والتي تتم فيها ممارسات نيّتها تغيير تركيبتها الديمغرافية، طابعها ومكانتها؟ وكيف تؤثر السياسات والممارسات سالفة الذكر على المكانة القانونية للاحتلال، وما هي تداعيات هذا الوضع من جهة الدول الأخرى والأمم المتحدة؟

خلافا لقرار المحكمة في دعوى جنوب أفريقيا، الذي يلزم إسرائيل، فإن وجهة النظر القانونية للمحكمة لن تلزمها. ومع ذلك، فإن الأحكام القضائية للمحكمة ضمن وجهة نظرها هي أحكام للهيئة الأعلى صلاحية لتفسير القانون الدولي، وقد ترى دول أخرى نفسها ملزمة بقبولها. وبالتالي، فإذا عبرت المحكمة عن موقفها بأن الاحتلال غير قانوني، أو أن نظام إسرائيل في الضفة الغربية هو نظام أبارتهايد وأنه يجب على دول أخرى مقاطعة إسرائيل حتى إنهاء هذا النظام - فلا شك أن هناك دولاً ستتصرف وفقا لوجهة نظر المحكمة.

تجدر الإشارة إلى أنه في إطار عملية صياغة وجهة النظر القانونية، قدمت 57 دولة حججاً إلى المحكمة، حاولت دولتان منها فقط، الولايات المتحدة وفيجي، الدفاع عن إسرائيل. بعض أصدقاء إسرائيل، مثل بريطانيا والتشيك وإيطاليا، رأوا أن على المحكمة عدم صياغة موقف، لأن ذلك قد يضر بفرص التوصل إلى تسوية سياسية. لكن حتى هذه الدول لم تجد من المناسب الدفاع عن سياسة إسرائيل.

في المقابل، طالبت معظم الدول الأخرى التي شاركت في الإجراء هذه المحكمة بالجزم الصريح أن الاحتلال غير قانوني وأنه يجب على إسرائيل الانسحاب من المناطق [المحتلة] من دون شروط. بل إن بعضها طلب من المحكمة الجزم بوجود نظام أبارتهايد. ومن الصعب الافتراض أن كل هذه الدول، التي اجتهدت ومثلت أمام المحكمة، ستتجاهل وجهة نظرها، في حال قررت أن جميع الدول ملزمة بالعمل لضمان امتثال إسرائيل للقانون الدولي.

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن ثلاث دول غربية كبرى، هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، قررت بالفعل التحرك من تلقاء نفسها، في ظل استمرار رفض السلطات الإسرائيلية في الضفة الغربية تطبيق القانون ضد المستوطنين الذين يهاجمون بعنف التجمعات الفلسطينية وممتلكاتها، وفرضت عقوبات على المستوطنين مخالفي القانون. كما دانت دول أوروبية أخرى، بما في ذلك ألمانيا وبولندا، عنف المستوطنين وألمحت إلى أنها تفكر في فرض عقوبات مماثلة. لقد فرضت الدول الثلاث المذكورة عقوبات على مستوطنين متورطين في أعمال العنف، لكنني أقدر أنه بمرور الوقت، سيتم توجيه العقوبات أيضاً ضد المسؤولين العسكريين أو السياسيين الذين يدعمون عنفهم، خاصة إذا أيدت محكمة العدل الدولية ذلك في وجهة نظرها.

لقد حملت الإجراءات القانونية المذكورة، وستظلّ تحمل، تأثيراً حقيقياً على العلاقات الخارجية لإسرائيل، وعلى تعاطي الدول المختلفة مع الإسرائيليين عموماً، ومع المؤسسات والهيئات الإسرائيلية خصوصاً. ربما أن الإسرائيليين الذين تجرعوا لسنوات المواقف المتهكمة وغير المقنعة القائلة إن هذه المناطق غير محتلة وأنه لا يوجد عائق قانوني أمام إقامة المستوطنات الإسرائيلية هناك، سيبدأون في فهم أن محاكم دول العالم الأخرى، ناهيك عن المحاكم الدولية، لا تتماشى مع نزعات قلوبهم. وبهذا المعنى فمن شأن إسرائيل أن تدفع ثمناً سياسياً باهظاً، ليس فقط بسبب تصرفاتها في الحرب الحالية على غزة، بل أيضاً على استهتارها طوال سنوات بالقانون الدولي الملزم لدولة الاحتلال.

__________________

(*) الكاتب بروفسور وأستاذ فخري للقانون الدولي والقانون العام في الجامعة العبرية في القدس. مقاله المترجم هنا مع بعض الإيجاز، نُشر بالعبرية في "تيلم، منصة لحوار سياسي مختلف".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات