المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

افتتح الكنيست الإسرائيلي هذا الأسبوع دورته الصيفية، التي قد تكون واحدة من أكثر الدورات البرلمانية عاصفة، وفي الوقت نفسه قد تكون أيضا حاسمة بالنسبة للائتلاف الحاكم، الذي يسعى ويضغط لتنفيذ مخططه لتقويض الجهاز القضائي، بتقليص صلاحيات المحكمة العليا بخصوص نقض القوانين والقرارات الحكومية، وليكون وزن الحكومة أكبر في تعيين القضاة؛ فكل الحوار المعلن مع المعارضة لم ينتج شيئا حتى الآن. وفي المقابل، فإن كتلتي المتدينين المتزمتين (الحريديم) قد تجدان نفسيهما في عين العاصفة والاستهداف من المعارضة والرأي العام، على ضوء ضغوط الكتلتين لاستغلال تركيبة الائتلاف، لتنفيذ مخططات صعب عليهما تنفيذها في تركيبة أخرى، وأولها التخلص من مسألة التجنيد العسكري لشبان الحريديم، وتشديد سطوة قوانين إكراه ديني قائمة وجديدة.


وتتواصل حملة الاحتجاجات الشعبية ضد مخطط الحكومة لسن قوانين تقوّض صلاحيات المحكمة العليا، خاصة في جانب نقض القوانين، وأيضا آلية انتخاب القضاة، لتكون السطوة للائتلاف الحاكم، وكل هذا تمهيدا لتمرير العديد من مشاريع القوانين، التي في الوضعية القانونية القائمة، هناك احتمال كبير بأن تنقضها المحكمة العليا، خاصة في جانب قوانين الإكراه الديني وفرض قيود على الحريات السياسية، والمشاركة في الانتخابات البرلمانية، وغيرها من القوانين.
وتحشد المعارضة أسبوعيا منذ أربعة أشهر، مئات الآلاف في العديد من المدن ومراكز التجمعات السكانية الكبيرة، فيما حشدت أحزاب الائتلاف الحاكم حوالي 200 ألف في مظاهرة جرت مساء الخميس الماضي، 27 نيسان، قبالة مقر الكنيست، أسمتها "المظاهرة المليونية"، في محاولة للرد على حراك المعارضة البرلمانية، وقوى سياسية واجتماعية خارج البرلمان.
وهذا قد يكون بداية لنهوض الائتلاف الحاكم ميدانيا، ليتصدى لتحشيد المعارضة، التي كان تحشيدها حتى الأسبوع الماضي أضخم وأكثر انتشارا؛ فمظاهرة القدس كانت عمليا في معقل اليمين الاستيطاني، القدس وجوارها الاستيطاني والضفة الغربية المحتلة.
لكن ما حدث في يوم ذكرى قتلى إسرائيل، يوم الثلاثاء 25 نيسان، وهو اليوم الذي يسبق يوم ذكرى الإعلان عن قيام إسرائيل وفق التقويم العبري المتغير، دلّ على حقيقة الأزمة في الشارع الإسرائيلي، التي طالت ما كان يُعد إسرائيليا محط إجماع، ومن "البقرات المقدسة" في أسس السياسة الإسرائيلية، إذ وصلت الاحتجاجات إلى العديد من المقابر العسكرية، خلال مراسم إحياء ذكرى القتلى. فقد نشبت في تلك المقابر صدامات كلامية وفي بعض الحالات حتى صدامات بالأيدي، وتصدى معارضون لوزراء ولممثلي الحكومة في سعي لمنعهم من إلقاء كلماتهم، وكان الصدام الأشد في مقبرة بئر السبع العسكرية، التي كان الخطيب الحكومي فيها وزير ما يسمى "الأمن القومي"، إيتمار بن غفير، الذي يُعد أحد أخطر بؤر التوتر وإثارة الخلافات مع المعارضة في حكومة بنيامين نتنياهو
بموازاة ذلك، فإن المقارعة السياسية بين الجانبين تشهد تصعيدا كبيرا، فأنصار المعارضة يقولون بشكل واضح إنهم يمثلون الجمهور المنتج الذي يدفع الضرائب، ويخدم في الجيش، بينما جمهور مؤيدي الحكومة بغالبيته، هم ممن يكلفون خزينة الدولة بالمخصصات المالية، وخدمتهم في الجيش أقل، في إشارة واضحة إلى جمهور المتدينين المتزمتين، الحريديم، ولكن أيضا في هذا تلميح للميزانيات الضخمة التي تصرف على المستوطنات والمستوطنين. 
وعودة إلى الدورة الصيفية، فعلى رأس جدول أعمال هذه الدورة، إقرار الموازنة العامة للعامين الجاري 2023 والمقبل 2024، حتى 29 أيار الجاري، وهو الموعد الأخير لتمرير الميزانية وفق القانون المعدل للحكومة الحالية. 
وعلى الرغم من أن الميزانية ليست موضع خلاف بين أطراف الحكومة الحالية، وقد تم توزيعها بالتراضي بين الأحزاب، فإن كتلا في الائتلاف قد تشترط تأييدها للميزانية بتمرير قوانين أو أنظمة جديدة تطالب بها، وهي ليست موضع إجماع؛ إذ أن الكتل البرلمانية تستغل موسم إقرار الميزانية العامة للضغط لتمرير مكتسبات حزبية، وفي الحالة القائمة، فإن الأعين تتجه نحو كتلتي الحريديم، اللتين تطالبان بإنهاء موضوع قانون تجنيد الشبان الحريديم، ليكون بصيغة تعفي ضمنا الشبان من الخدمة العسكرية الإلزامية، أو أن يكون العدد هو الحد الأدنى، ودون الحد الأدنى الذي وضعه الجيش في مقترحه في العام 2018. ومطلب الحريديم سيضع نتنياهو وحزبه الليكود في مواجهة ليست سهلة أمام الرأي العام الإسرائيلي، وبضمنه قسم واسع من جمهور مصوتي الليكود. 
وليس الحريديم وحدهم، وإنما أيضا كتلة "عوتسما يهوديت" بزعامة إيتمار بن غفير التي لها مطالب سياسية وتمرير قوانين شائكة، منها ما يعترض عليه المستوى المهني في جهاز القضاء والاستشارة القضائية، وأجهزة المخابرات والجيش، وبشكل خاص تسهيل فرض عقوبة الإعدام على المقاومين الفلسطينيين، وقوانين أخرى تتعلق بالاستيطان.
لكن من جهة أخرى، فإن كل هذه التهديدات قد لا تفضي لأزمة تحل الحكومة، لأنه لا توجد أي كتلة برلمانية شريكة في الائتلاف معنية بحل الحكومة، فكل واحدة منها تعرف أنها موجودة في الشراكة الحكومية الأمثل لها، بدءا من حزب الليكود ورئيسه نتنياهو، وباقي الكتل؛ لذا من الصعب، إلى درجة شبه الاستحالة، أن نرى كتلة برلمانية من كتل الائتلاف ستبادر للخروج من الائتلاف، ومعارضة الحكومة كليا، وعمليا إسقاطها في الوضع القائم، إلا إذا وقعت مفاجآت غير منظورة حاليا.
وما يعزز هذا الاستنتاج هو سلسلة استطلاعات الرأي التي تظهر تباعا، وتعرض صورة قاتمة لنتنياهو وفريقه الحكومي، بخسارتهم الأغلبية المطلقة في حال جرت الانتخابات في هذه المرحلة، وبابتعاد واضح عن الأغلبية، إذ أن استطلاعات الرأي تمنح للائتلاف الحاكم حوالي 54 مقعدا بالمعدل، مقابل 64 مقعدا له اليوم. 
 
الحريديم في عين العاصفة
 
بعد سنوات ليست قليلة، عاد موضوع ميزانيات مؤسسات وجمهور الحريديم إلى الواجهة، ويتم عرض أحزاب الحريديم المتمثلة في كتلتين برلمانيتين، كأحزاب ابتزاز مالي، يضاف اليها السعي "للتهرب" كليا من الخدمة العسكرية، والحصول على امتيازات مالية للشبان الذين لا يخدمون، بذريعة أنهم يتعلمون التوراة. ومن أبرز مطالب الحريديم في الأسابيع الأخيرة، سن قانون يعتبر دراسة التوراة قيمة عليا للشعب اليهودي، ويجب أخذها بالاعتبار، وهذا تمهيد للإعفاء من الخدمة العسكرية. 
وامتلأت الصحافة في إسرائيل الأسبوعين الأخيرين بمقالات وتقارير تنتقد الحريديم، بحجم وشكل يذكّر بما كان في الأجواء الإسرائيلية العامة حتى قبل سنوات. 
ولربما أن الوصف الأدق لحالة كتلتي الحريديم في الكنيست، وضعه الصحافي في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، آفي بار إيلي، إذ كتب يقول "أحزاب الحريديم تحت ضغط. فميزانية الدولة واجب تمريرها في الكنيست حتى يوم 29 أيار، لكن الميزانية تمر بتعقيدات، على ضوء توقعات تراجع في مداخيل الدولة بسبب الأزمة الاقتصادية، ولهذا فإن أحزاب الحريديم تستصعب عرض إنجازات على صعيد الميزانية أمام شارع جمهورهم. إذ لم يتم التوقيع على اتفاق نهائي لزيادة مخصصات طلاب المعاهد الدينية، ولا زيادة دعم جهاز تعليم الحريديم. كما أن قانون إعفاء شبان الحريديم من الخدمة العسكرية لم يتم التوصل لاتفاق بشأنه". 
وتابع الكاتب أنه على ضوء توقعات وزارة المالية بضرورة إجراء تقليصات في ميزانية العام الجاري فور إقرارها، فإن أحزاب الحريديم تخطط "لعرض عضلات" في سبيل أن تفلت من هذه التقليصات التي ستطال مكتسبات تطالب بها.
واستعرضت تقارير الصحافة الاقتصادية الإسرائيلية في الأيام الأخيرة نماذج عن ابتزاز كتلتي الحريديم، فقد تم تسريب تسجيل صوتي للحاخام الأكبر لليهود الشرقيين، "السفاراديم"، يتسحاق يوسيف، والذي من المفروض أن يكون صاحب منصب رسمي، وممنوع تدخله بالشؤون الحزبية، ولكن يوسيف نجل الزعيم الروحي التاريخي لحزب شاس، ومرشح لتولي الزعامة فور انتهاء ولايته في الحاخامية الكبرى الرسمية. وجاء في التسجيل الصوتي ليوسيف، أنه يوصي وزير الداخلية والصحة الجديد، موشيه أربيل، الذي حلّ محل الوزير السابق آرييه درعي، بأن يقدم للمجالس البلدية والقروية ميزانيات استثنائية، شرط أن تبني المجالس كُنساً يهودية (دور عبادة)، وتقدم ميزانيات للمعاهد الدينية. وحذّر يوسيف الوزير أربيل من أن يعلن هذا جهاراً، لأن الأمر غير قانوني.
جانب آخر من نماذج ابتزاز كتلتي الحريديم، كان جلسة الطاقم الوزاري للشؤون الاقتصادية الاجتماعية، التي كان من المفروض أن تهتم بموضوع ارتفاع كلفة المعيشة، والبحث عن مسارات لخفضها، في ظل الغلاء المتوغل في السوق الإسرائيلية، إلا أنه بدلا من التعمق بهذا الموضوع الساخن، حسب التقارير الصحافية، فإن وزير البناء والإسكان، يتسحاق غولدكنوفيف، ونائب وزيرة المواصلات أوري مكليف، وكلاهما من كتلة يهدوت هتوراه، لليهود الأشكناز، قلبا عمليا أجندة الاجتماع، ليطالبا بمنع أعمال الصيانة في شبكة القطارات أيام السبت، رغم تحذيرات ذوي الاختصاص من أن هذا يعني وقف عمل خطوط قطارات في بحر الأسبوع، ما يتسبب بخسائر مالية كبيرة جدا للاقتصاد الإسرائيلي.
وكان اللافت أن ينضم لهما وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب الصهيونية الدينية، الذي يزداد تزمته الديني، وشارك في الضغط لمنع أعمال الصيانة تلك.
وليس هذا وحده، بل طالب غولدكنوفيف ومكليف في ذات الاجتماع بإقامة محطة توليد كهرباء في أكبر مدينة يسيطر عليها الحريديم في إسرائيل، بني براك، المجاورة لمدينة تل أبيب، لتراعي المحطة قيود السبت اليهودي. وكل هذا مجرد بداية للمطالب الدينية من الكتل الدينية في الائتلاف، التي تشكل نصف أعضاء الائتلاف الحاكم.
وهذا يأتي إلى جانب تضخيم ميزانيات المعاهد الدينية، ومخصصات طلابها، وحينما نقول طلاب المعاهد الدينية اليهودية، فهذا يعني من كل الأجيال، إذ أن هناك من يمضي حياته كلها "طالبا" في المعهد الديني.
 
قانون تجنيد الشبان الحريديم
 
كما ذكر هنا، فإن أحد الملفات الأكثر سخونة في الدورة الصيفية الحالية للكنيست سيكون قانون فرض الخدمة العسكرية على الشبان الحريديم، فهذا القانون يتم التداول به منذ سنوات، على الرغم من وجود قرار من المحكمة العليا يدعو إلى فرض خدمة عسكرية على الشبان الحريديم بشكل متساو. وعلى الأجندة حاليا، مشروع قانون أقره الكنيست بالقراءة الأولى في العام 2018، وكل حكومة تشكلت منذ ذلك الحين تجد صعوبة كبيرة في إنهائه. 
الآن يطالب الحريديم بتعديل نص القانون بشكل يعفي عمليا شبان الحريديم من الخدمة العسكرية، بأن يكون سن الاعفاء من الخدمة هو 21 عاما، وقصد الحريديم هو أن شبانهم يبقون في المعاهد الدينية حتى ذلك العمر، وما أن ينهوا تعليمهم هناك، حتى يكونون خارج دائرة التجنيد. 
وهذا المطلب خلق حالة صخب كبيرة في وسائل الإعلام وفي الرأي العام الإسرائيلي، فالحكومة الحالية تبلور صيغة ترضي الحريديم، وفي المقابل فإنها تعد لرفع المكافأة الشهرية للمجندين ضمن الخدمة الإلزامية، الذين يتقاضون مخصصات محدودة، وليس رواتب.
هذا الاقتراح يلقى ردودا غاضبة في الصحافة، وأيضا في الأوساط السياسية المعارضة، وبالإمكان التقدير أن المعارضة لإعفاء الحريديم ستكون أيضا في معسكر اليمين المتشدد، فعدا عن اعفاء الحريديم، فإن كلفة القانون المقترح ستكون باهظة لخزينة الدولة، خاصة وأن الحريديم يطالبون أيضا برفع المخصصات الشهرية لطلبة المعاهد الدينية.
وما يثير أكثر قلق الرأي العام، معطيات نشرتها صحيفة "ذي ماركر"، دلّت على الارتفاع الحاد في نسبة الحريديم في جيل التجنيد، وهو عمر 18 عاما. ففي العام 1990 كانت نسبة شبان الحريديم هامشية لا تذكر، وفي العام 2000 بلغت نسبتهم 8% من إجمالي من ينطبق عليهم قانون التجنيد. وارتفعت النسبة إلى 11% في العام 2006، وإلى نسبة 16% في العام 2020.
وهذا يدل على أن نسبة الحريديم في ارتفاع مستمر، من إجمالي الشبان اليهود الذين يسري عليهم قانون التجنيد، ما يعني بالمفهوم الإسرائيلي أن نسبة المجندين من إجمالي الشبان اليهود في تراجع مستمر، على ضوء ارتفاع نسبة الحريديم، عدا أولئك الذين لا يتجندون لأسباب شتى ومنها مرضية وغيرها.
يشار إلى أن قانون التجنيد الالزامي الإسرائيلي يعفي الشابات المتدينات من كافة التيارات الدينية تلقائيا، إلا إذا طلبت الشابة المتدينة التجند. وبحسب تقارير سابقة، هناك ظاهرة اتساع تجند شابات متدينات من التيار الديني الصهيوني، اللاتي بغالبيتهن العظمى يخترن ما تسمى "الخدمة القومية"، البديلة عن الخدمة العسكرية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات