المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بدأت اسرائيل منتصف شهر حزيران 2002، بناء سياج لتفصل نفسها فيزيائياً عن الضفة الغربية. من بين اصدقائي في اليسار الاسرائيلي، هناك من تلقف هذا الخبر بحماس شديد. هؤلاء هم الأصدقاء أنفسهم الذين كانوا مقتنعين أن مسيرة أوسلو سوف تؤدي لا محالة إلى سلام شامل ودائم. والآن ها هُم يعبرون عن فرحهم لأنهم يعتقدون أن هذا الفصل في الخطوة الأولى سيقود إلى خلق دولة فلسطينية مستقلة. من وجهة نظرهم، فان السياج سوف يكون علامة الحدود المستقبلية بين اسرائيل وفلسطين.

بقلم: د. ايلان بابه
بدأت اسرائيل منتصف شهر حزيران 2002، بناء سياج لتفصل نفسها فيزيائياً عن الضفة الغربية. من بين اصدقائي في اليسار الاسرائيلي، هناك من تلقف هذا الخبر بحماس شديد. هؤلاء هم الأصدقاء أنفسهم الذين كانوا مقتنعين أن مسيرة أوسلو سوف تؤدي لا محالة إلى سلام شامل ودائم. والآن ها هُم يعبرون عن فرحهم لأنهم يعتقدون أن هذا الفصل في الخطوة الأولى سيقود إلى خلق دولة فلسطينية مستقلة. من وجهة نظرهم، فان السياج سوف يكون علامة الحدود المستقبلية بين اسرائيل وفلسطين.

إذا كانوا على حق، وإن كان القصد من السياج هو ترسيم هذه الحدود، فان فلسطين-الكيان الجيوبوليتكي الذي كانت م.ت.ف تناضل من أجله منذ تكوّنها-سوف تضيع نهائياً. لانه في تلك الحالة، فان هذا السياج سوف يكمل في نهاية المطاف المسيرة التي بدأتها الحركة الصهيونية سنة 1882، واستمرت بقوة على يد اسرائيل منذ 1948، مسيرة تفريغ أرض فلسطين من عروبتها.

حتى الآن، تمّ تطوير المسيرة هذه عبر الاستيطان، الاستيلاء على الأرض وطرد السكان، تقلّصت الدولة الفلسطينية المزعومة إلى رقعة صغيرة حدّ السخف من خلال اتفاقيات أوسلو. من خلال أوسلو، ظهرت مفاهيم كثيرة جديدة وغريبة عن الدولة لاول مرّة في الخطاب الدولي. واحدة من هذه هو مفهوم دولة مكوّنة من قسمين لا يربطهما استمرارية جغرافية، وكل منهما مجزأ إلى كنتونات محرومة من الكينونة الاقليمية. ويا للحسرة لأن تفسير أصدقائي المتفائلين للسياج خاطئ تماماً، مثلما كان تفسيرهم لمسيرة اوسلو للسلام خاطئ أيضاً. إن بناء السياج بعيد جداً عن الايماء بقدوم فصل جديد في تاريخ فلسطين، لأنه يمثل ببساطة استمرار سياسة قديمة بوسائل جديدة. هذه السياسة هي مسح فلسطين ككيان جغرافي وسياسي وثقافي عن الخارطة. في هذا المقال، أريد ان أضع السياج المقترح في سياقه، ليس فقط في علاقته بسياسات شارون وأهدافه، بل كجزء من مسيرة تاريخية أكثر اتساعاً بدأت في نهاية القرن التاسع عشر.

لقد استقبل السياج بحرارة في اسرائيل. الذين يعارضون هم قلّة من المستوطنين المتطرفين. بالنسبة لمعظم اليهود في اسرائيل، فان ما يجذبهم في السياج ليس أنه يحدد شيئاً من الحدود النهائية، وأنما قدرته على العمل كأداة أمنيّة وهكذا يضع حدّاً للهجمات الانتحارية الفلسطينية. على أيّة حال، فان السياسيين (العمل بشكل خاص) الذين حملوا الفكرة قبل سنة يرون الأشياء بشكل مختلف، بالنسبة لهم، فان دور السياج استراتيجي، وليس تكتيكياً فقط.

حاييم رامون وبنيامين بن اليعازر، وَصَفا السياج >كخطة سلام< وليس وسيلة، فقط، لمنع التسلّل. إن هذا لا يجوز أن يدهش أحداً. لقد سعى حزب العمل دائماً إلى سلام يرتكز على خط فاصل. بالفعل، كان ذلك شعارهم سنة 1992 في الانتخابات العامّة: >نحن هنا وهم هناك<. بالنسبة لحزب العمل، فان الحلم الصهيوني يمكن تحقيقه فقط من خلال الفصل الكامل بين الفلسطينيين واليهود. اما السؤال حول ماذا قد يحدث بالضبط في الجانب الآخر من السياج، لا يقلق هؤلاء الذين لديهم رؤية للسلام. إنهم غير مهتمين في امكانية الحياة الاقتصاديّة في الجانب الآخر، أو كيف سيديرون مصادرهم الطبيعية والمائيّة (معظم هذه المصادر ينوي حزب العمل أن يُبقيها على الجانب الاسرائيلي من الخط الفاصل)، ولا إلى أي حدّ سوف تصل سيادة هذا الآخر (ولا ينوي العمل على أية حال أن تكون كاملة، ذلك لأن >فلسطين< حزب العمل سوف تتسع لكتل استيطانية يهودية)، ولا يقلقون أيضاً كيف ستحقق >فلسطين< هذا الأمن لها (ذلك لان الأمن يُقصَد به أن يبقى محصوراً بيد اسرائيل). هذا إذا لم نذكر السؤال الأكثر تعقيداً، وهو: ماذا سيعني هذا الفصل لمليون فلسطيني يعيشون في إسرائيل. هم >نحن<، أم هل هُم >هُم<؟

رغم ذلك، هناك شيء واحد واضح حول هذه الرؤية: >إنّها متساوقة مع مدخل شارون الرئيسي في حل القضية الفلسطينية. بالطبع، فان شارون كان ينوي أصلاً أن يقوم بالأمر دون سياج. لكنه تصالح مع فكرة السياج من أجل الوحدة الوطنية: في نهاية الأمر، فان حزب العمل يقترح بناء سياج يقطع الضفة الغربية البالغ مساحتها الآن 5000 إلى قسمين، تاركاً 2500 كم مربع في أيدي اسرائيل. لماذا يرفض السيد شارون ذلك؟

قد يكون السياج جزءاً من مخطط قديم، قرار تشجيع الفكرة في هذه المرحلة بالذات هي نتيجة يأس المواطنين لعدم قدرة حكومتهم في ضمان أمنهم الشخصي منذ اندلاع انتفاضة الأقصى.

ليست هذه هي المرّة الوحيدة التي يستغل فيها شارون المخاوف المؤقتة من أجل تطبيق خططه بعيدة المدى. في صيف 1982 حين وصلت مقاومة م.ت.ف مستوى جديداً من الشدة بما في ذلك إطلاق صواريخ كاتيوشا على إسرائيل، فقد جنّد المستوطنين الاسرائيليين على طول الحدود الشمالية مع لبنان لدعم غزو هذا الجار الشمالي. حين ذلك، لم يفشل شارون فقط في تحقيق هدفه التكتيكي وإنهاء العنف-بل نجح في إثارة أشكال أسوأ من العنف. واليوم، فان السياج سوف يُنتج دون ريب النتيجة ذاتها: مزيد من العنف ضد اسرائيل، وبالطبع، كما هو الأمر دائماً، عنف أشد ضدّ الفلسطينيين.

وكما كان الحال سنة 1982، وكذلك الآن، هناك بديل. عشية غزو لبنان، عرضت م.ت.ف مخرجاً، فاقترحت وقفاً لاطلاق النار وهدنة. لكن شارون كانت لديه خطط أخرى. لقد خرق اتفاق وقف إطلاق النار الذي تكرس على الأرض وأرسل الجيش الاسرائيلي لغزو لبنان، وذلك لتوليف حكومة حسب رغبته في بيروت، ومن ثمّ تدمير البنية التحتية لـ م.ت.ف. أما الآن فان السياج حول الضفة الغربية هو صنيعة شارون، للتقليل من شأن الفرصة التي عرضتها السعودية بشأن خطة سلام، تمت الموافقة عليها من قبل كل من الفلسطينيين والجامعة العربية.

ان مسار السلام لديه القدرة على تقديم أمن دائم لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين. ولكن في عالم آمن لا يزدهر جنرالات الحرب أمثال شارون، وحقاً، قد لا يتمكّنون من البقاء.

إن مدخل شارون لكل من لبنان والسياج هو انعكاس لرؤية صهيونية عالمّية لفرض تسوية الصراع بالقوّة، وبالتالي محو مفهوم >فلسطين< من الذاكرة والواقع، واستبدالها بالاسم المنافس >أرض اسرائيل<. إن أرض اسرائيل هذه تضم مناطق يهودا والسامرة. قد تكون هذه الأرض وطناً لعدد كبير من العرب، لكن هؤلاء العرب لن تكون لهم قوة لتحديد اسم البلاد أو شخصيتها. مع مرور الوقت، قد يطردون، حين ينضج الوقت. إن فلسطين كبلد قد شطبت من الوعي الصهيوني مبكراً، في الواقع، كان ذلك منذ اللحظة التي وصلت فيها الموجة الأولى من المهاجرين سنة 1882. وطالما كانت الجالية اليهودية في فلسطين أقليّة، تعيش تحت رعاية الانتداب البريطاني، فقد كان طمس فلسطين رمزياً، حيث لم يكن هناك قوّة عسكرية يمكن أن تقضي عليها. لكنها كانت وبشكل كليّ مستثناة من خطاب المستوطنين الصهاينة وروايتهم.

وحين جاءت الفرصة لترجمة تلك الرؤية إلى واقع بحلول 1948، كانت فلسطين قد شُطبت ليس لغويا فقط بل بالسيف أيضاً. لقد اعطى قرار التقسيم الصادر عن الامم المتحدة 56% من فلسطين للصهاينة، أما حرب 1948 فقد سمحت لهم باحتلال 88% من البلاد. وحسب كل النوايا والاهداف، فقد بدا أن فلسطين ككيان جيوبوليتيكي وثقافي قد تحطّم.

لكن فلسطين رفضت أن تموت، لقد عاشت في مخيمات اللاجئين، في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك بين الأقليّة الفلسطينية في اسرائيل. لقد تمكنت من العيش بعد حرب 1967 ووقوع 100% من فلسطين التاريخية تحت السيطرة الاسرائيلية. وخلال العقد الأول من الاحتلال، كان طموح حزب العمال الحاكم أن تمحى فلسطين من الوعي الاقليمي والعالمي حينما اقترحت الحكومة دمج الضفة الغربّية وقطاع غزة مع الأردن. لكن كل تلك الجهود باءت بالفشل.

وفي العام 1977 وصل الليكود إلى السلطة حاملاً معه أيديولوجيا اسرائيل الكبرى. الآن، فان مفهوم >فلسطين< كان يغرق تحت الموجات المكثّفة للاستيطان اليهودي الذي أغرق المناطق المحتلة، ويتم إغلاق الفرص بسبب الرفض المتشدد لمناقشة مستقبل اللاجئين، ويتم اسكاته من خلال الاصرار على أن الفلسطينيين في اسرائيل ليسوا مجموعة قوميّة، بل جاليات دينية-مسيحيين ومسلمين-ليس لهم حق تقرير المصير أو الهويّة القومية الجمعيّة.

لكن هذه الاستراتيجية فشلت أيضاً، وفي سنة 1978 اندلعت الانتفاضة الأولى. هذه الانتفاضة أجبرت الاسرائيليين للمرّة الأولى منذ 1948 على اعتبار الفلسطينيين كياناً سياسياً محتملاً قد يأخذ شكل دولة مستقلة إلى جانب اسرائيل، يتم تأسيسها في الأراضي المحتلّة. أو على الأقل، كان ذلك هو المبدأ الذي تم الاتفاق عليه في أوسلو. لو عدنا إلى الوراء، سيبدو أن الحكومة الاسرائيلية لم يكن لديها أبداً أيّة نيّة لاقامة دولة فلسطينية على 22% من فلسطين التاريخية. في الوقت ذاته، سيبدو أن م.ت.ف، التي تحوّلت الآن إلى الجانب الفلسطيني، أذعنت لأكبر تنازل قدّمه جانب فلسطيني، حين وافقت على دولة فلسطينية مصغرة كتحقيق جيوبوليتيكي لرؤيتها للتحرّر.

لكن، حتى تلك الأمنية المحدودة لم تعط (للفلسطينيين). ما أن ولدت فلسطين المصغرة حتى قُطعت إلى مناطق أ،ب،ج، وكان قطاع غزة قد ضُرب عليه حزام الكتروني كأنه سجن واحد كبير. كانت النتيجة هي الإبقاء على جزء كبير من >فلسطين<- 42% من الضفة الغربية و قرابة 20% من قطاع غزّة - تحت الاحتلال المباشر أو غير المباشر. كان هذا هو الوضع خلال مسيرة السلام. ومع ذلك ما يزال الاسرائيليون والاميركيون غير قادرين على فهم لماذا لم يتعلم الفلسطينيون أن يضعوا ثقتهم بالديبلوماسية والمفاوضات كطريقة فضلى لتحقيق أحلامهم بتقرير المصير والاستقلال (على الأقل يبدو الاوروبيون أبعد نظراً في هذه الأمور).

جوبه الرئيس عرفات بالأمر الواقع هذا في كامب ديفيد في صيف 2000، حيث قيل له ببساطة أن >يأخذ المعروض عليه أو أن يتركه<. بعد وقت قصير من ذلك، اندلعت الانتفاضة الثانية.

هذه الانتفاضة غير المسلّحة تحوّلت إلى تمرّد مُسلّح من خلال الرد الاسرائيلي الانتقامي العنيف على المظاهرات واحتجاجات الشوارع. وتدريجيّاً، تمت إعادة احتلال فلسطين الصغيرة. وسواء أكان ذلك حُكما مباشراً أم غير مباشر، فان ظروف السكان المحتلين كانت مرعبة. وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل، جائعين ومخنوقين، غير قادرين على الحركة أو العيش. إنه هذا الوضع الذي أنتج الانتحاريين. لا يحق لنا أن نُصاب بالدهشة حين يدرك الناس من امثال شيري بلير، زوجة رئيس وزراء بريطانيا هذه الحقيقة. بالنسبة لكثير من الناس، فان مصدر نشوء هذه الهجمات واضح تماماً. ورغم أنّهم يتحملون مسؤولية استهداف مدنيين ابرياء، فانهم ضحية مباشرة للضغوط. هذه الحقيقة تم ادراكها أيضاً في وثيقة موقعة من قبل مثقفين فلسطينيين تشجب الهجمات، لكنها تشرح السياق الذي جعلها ممكنة.

استخدم الاسرائيليون كافة الطرق الممكنة لمحاولة تحطيم ما دعوه >بنية الارهاب<-وكأن طائرات ف 16 والدّبابات وفرق الكوماندو بامكانها ان تزرع رعبا أكثر في قلوب الرجال والنساء الفلسطينيين الذين هم على استعداد لتحويل أنفسهم إلى قنابل مشتعلة في وسط شارع مزدحم من شوارع القدس. أن الخسارة البشريّة في الجانب الاسرائيلي وصلت إلى مستويات كارثيّة بالمقارنة مع تاريخ البلاد والسكان. وهذه مآسي تضخمها حقيقة، أنه في بعض الحالات، عائلات كاملة تندثر نتيجة هذه الهجمات. ان الجُبن غير المفهوم تقريباً لدى الصحافة الاسرائيليّة-وبالتحديد وسائل الاعلام المرئية والمسموعة-تحمي المجتمع اليهودي من أية معرفة للسياق الذي أنتج هذه المآسي الشخصية. لا يوجد هناك ذكر للاحتلال، والاهانات وعمليات الإغتيال، والاعتقال الجماعي وهدم البيوت والمجاعات التي ولدت هذه الهجمات الانتحاريّة. وحين يكون العقل العام مغلقا بحذر شديد، فانه ليس من الغرابة بمكان ان يتم قبول السياج دون شروط من قبل معظم الاسرائيليين لأن له معادلة سحريّة.

مع ذلك، فانه حتى الهاوي يستطيع رؤية ان السياج لن يكون عائقا لهجمات انتحاريّة في المستقبل. بدلاً من ذلك، فانه سوف يخدم الطموح الأيديولوجي القديم والمعاصر لاسرائيل لإزالة فلسطين مرّة وإلى الأبد. بعد كل شيء، فان الاختفاء النهائي للعدو هو حلّ أكثر راحة من >التسوية< أو تحمل المسؤوليّة عن الماضي. بمساعدة هذا السياج، (وهو في الحقيقة جدار) تحدد اسرائيل ماذا ستكون فلسطين للأجيال القادمة: نصف الضفة الغربية مقطع إلى كنتونات معزولة، وجزيرة مكونة من 75% من حجم قطاع غزة. في هذه المناطق، يستطيع الفلسطينيون إدارة شؤونهم البلديّة، فقط لا أكثر. سيكون مسموحاً لهم أن يُسموا هذه الأجزاء >دولة<. ولو حكمنا على الأمور من منطلق عبارة الرئيس جورج بوش يوم 24 حزيران 2002، فان رؤية أميركا لحل القضيّة الفلسطينية تنسجم تماماً مع رؤية النظام الحاكم في اسرائيل. ضمن هذا الخط المستقيم يتوقع الرئيس بوش الديمقراطية والشفافية والازدهار الاقتصادي! علّ هذه السخريّة تستطيع فقط أن توتّر العلاقات الفلسطينية-الاميركية إلى حد بعيد، وفي المستقبل البعيد سوف تؤذي مكانة الولايات المتحدة كثيراً في العالم العربي، لأن بوش يتم تصويره اليوم على أنه يعمل على تسهيل محاولة اسرائيل إزالة فلسطين من الوجود.

ان السياج، أو الجدار، ربّما سيكون ضدّ مصالح اسرائيل من عدة وجوه. وتماما كما كان عليه الحال في حصار المقاطعة، حيث عزل الاسرائيليون عرفات، فوجدوا أنفسهم منبوذين من معظم العالم، وهنا أيضاً فان النتائج قد تكون عكس ما يُتوقع. إن الجدار يحاصر اسرائيل بالطريقة ذاتها التي يحاصر بها فلسطين، بامتداده على أطول حدود لاسرائيل، الجبهة الشرقية، مثل هذا الجدار سوف يزيد إحساس البلاد الهائل بالعزلة، ويعزّز عقلية الحصار التي عانى منها الاسرائيليون لسنوات طويلة، والتي غذّت السياسات العدائية والمتصلّبة لحكوماتهم.

ولكن، بالطبع، مهما سيفعل هذا السياج لإسرائيل، فإنّه أكثر تدميراً للفلسطينيين تحت الاحتلال. من الصعب الحديث عن تدهور في أوضاعهم حين تكون هذه الظروف مروّعة أصلاً وغير إنسانية، لسوء الحظ، بالامكان جعل الأشياء السيئة أكثر سوءاً.

لذلك، هل يستمع المجتمع الدولي لكلام العقل الذي قالته شيري بلير، وقاله ديزموند توتو وخوسيه ساراماغو واوليفر ستون، وتيد تيرنر، وآخرون من أولئك الذين فهموا ما يحدث وحذروا من المأساة الوشيكة، رغم أنهم وقعوا في مخاطر تصنيفهم لا ساميين، هذا إن لم يكن نازيين جدداً؟ أو هل سيسكت المجتمع الدولي كما فعلوا لسنوات طويلة في وجه محاولة أخرى لمسح فلسطين-مثلما خضعت الـ CNN للضغط الاسرائيلي وتخلّت عن تغطيتها المتوازنة للصراع؟ (وزير الاتصالات الاسرائيلي يحاول الآن إزالة الـ BBC من القمر الاسرائيلي وشبكات الكيبل عقوبة لها على تغطيتها >المتحيزة<. بالامكان فقط أن نأمل أن لا تخضع الـ BBC كما فعلت CNN).

ولان تصريحات جورج بوش الأخيرة حول القضية الفلسطينية قد أعطت اسرائيل في الأساس ضوءاً أخضر لتعمل ما يحلو لها حتى انتخابات الكونغرس في خريف 2002، يبدو من المحتمل ان تستمر الأصوات الحكيمة تطلق صراخها في البريّة لوقت آخر. قبل وقت ليس ببعيد، امتدّت فلسطين من المتوسط إلى نهر الأردن، الآن، سوف يتم تسييج سكانها المحليين في منطقة لا تتجاوز مساحتها 15% من حجم بلدهم الأصلي.

أين اوروبا والعالم العربي فيما يحدث كل هذا؟ أين شعوب آسيا وافريقيا؟ يستطيع المرء أن يفهم لماذا تتردّد ألمانيا في اتخاذ موقف واضح حول القضيّة، رغم أنه حان الوقت كي تعلم الدرس الأخلاقي من سلوكها السابق-التزامها الأخلاقي إزاء الهولوكوست يجب أن يضعها في طليعة الأمم المعارضة للجرائم ضد الإنسانية والاحتلال وانتهاك الحقوق الانسانية، حتى لو ارتكب هذه الجرائم أولئك الذين كان آباؤهم وأجدادهم ضحايا الهولوكوست. لكن، ماذا عن الأعضاء والآخرين في الاتحاد الاوروبي والأمم المتحدة؟ كما حذّرت من قبل، حين يصحوا من سباتهم، قد يكون الوقت متأخّراً، متأخراً جداً ليس للفلسطينيين وحدهم بل للاسرائيليين أيضاً الذين سيجدون أن قبولهم أصبح أكثر صعوبة-أو حتى مجرّد البقاء في الشرق الأوسط، بعد صناعة نكبة ثانية.

(قضايا إسرائيلية، العدد الثامن، منشورات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية - "مدار"، رام الله)

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, اوسلو, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات