المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بعد ان نجحت ادارة الرئيس الامريكي جورج بوش بانهاء حكم البعث في العراق بالوسائل العسكرية، يبدو انها تحاول حاليا انهاء الفرع الآخر للحزب، او بقاياه في دمشق بالضغوط والوسائل السياسية.


فالمطالب، او بالاحرى الاملاءات، التي حملها كولن باول وزير الخارجية الامريكي الي الحكومة السورية اثناء زيارته الاخيرة الى دمشق، كفيلة، اذا ما جري تلبيتها، بانهاء مصداقية النظام، وتقويض الشرعية الرئيسية التي يستند اليها، اي الشرعية القومية الثورية.

سهولة الحرب الامريكية في العراق، ودخول قوات المارينز بغداد بأقل قدر ممكن من الخسائر المادية والبشرية، اثارا حالة من الرعب والهلع في معظم العواصم العربية، سواء الحليفة للولايات المتحدة، او المتطلعة للتحالف معها (لأنه لا اعداء لواشنطن في اوساط الانظمة) وباتت الحكومات العربية، وغالبيتها الساحقة غير شرعية وغير منتخبة، تسعى جاهدة لتقديم كل ما تستطيع من تنازلات لتحاشي الغضب الامريكي، ايثارا للسلامة، وأملا في البقاء.

النظام السوري تصرف بارتباك ملحوظ في الأيام الاخيرة، وهو المعروف بصلابته وارتفاع نبرته الثورية والوطنية، فأغلق الحدود بالكامل مع العراق، وابعد كل من لجأ اليه من المسؤولين العـــراقيين، واعلن للمرة الأولي في تاريخه انه يقبل ما يقبل به الفلسطينيون، وزاد علي ذلك بالمطالبة بمكان في خريطة الطريق، التي من المفترض ان تؤدي الي تسوية للصراع العربي ـ الاسرائيلي.

هذه التنازلات، على اهميتها، ليست كافية من وجهة نظر الادارة الامريكية المنتصرة في العراق (الانتصار مؤقت من وجهة نظرنا) فالمطالب التي حملها كولن باول للرئيس السوري تبدو تعجيزية.

السؤال هو عما يبقى من النظام السوري اذا ما وافق على نزع سلاح حزب الله، وأبعد جبهات الرفض الفلسطينية، وخاصة حركتي حماس و الجهاد الاسلامي، وسحب قواته من لبنان، وقبِل شروط التسوية المهينة التي ضمت ملامحها، خارطة الطريق؟

وماذا سيناقش السيد فاروق الشرع وزير الخارجية السوري في المؤتمرات العربية المقبلة من قضايا، وما هي التصريحات التي سيطلقها احتجاجاً، او رفضًا، كعادته في مؤتمراته الصحافية في اعقاب كل اجتماع لوزراء الخارجية العرب، هذا اذا افترضنا انه بقي عرب، وبقي وزراء خارجية لكي يجتمعوا.

تخلي النظام السوري عن كل مواقفه الثورية والقومية دفعة واحدة، ومن دون ان يقدم اي تنازلات للشعب، مثل اطلاق الحريات، والتعددية الحزبية، والانتخابات المباشرة، والحياة البرلمانية، والقضاء المستقل، سيعني نهايته عمليا، دفعة واحدة، او بالتقسيط غير المريح، لأنه سيفقد مبررات وجوده كلياً، وحتى اذا استمر، فانه سيكون معزولا داخليا وخارجيا، وسيكون استمرارا مؤقتا، دون طعم او رائحة، والمقصود هنا طعم طيب ورائحة زكية.

ربما يجادل البعض بأن مثل هذا الطرح يتنافي مع منطق الواقع ومتغيراته، ويصب في خانة التحريض على اتخاذ مواقف تؤدي الي الدخول في مواجهة انتحارية، وغير متكافئة، وفي التوقيت الخطأ، مع الولايات المتحدة، بحيث تبدو نتائجها محسومة سلفا، لأن ما جرى في العراق يجب ان يكون درسا يحتم علي سورية ونظامها استيعابه جيدا والتصرف على ضوئه.

نحن لا نطالب النظام السوري بالانتحار، وانما بالعقلانية المتماسكة، واستيعاب الدرس العراقي فعلا، ولكن العقلانية التي نطالب بها غير تلك التي يمارسها حاليا وبصورة مرتبكة، قد تؤدي الي نتائج عكسية تماما، وتعجل باطاحته بدل ان تؤدي الي استمراره.

فالنظام في سورية لم يكن في حال صدام مع الولايات المتحدة، مثلما هو الحال مع نظيره العراقي، بل كان حليفا لها، في كل حروبها الاخيرة، ففي حرب الخليج الأولي ارسل قوات الى الجزيرة العربية، وأيد اخراج القوات العراقية من الكويت بالقوة، وشكل منظومة دول اعلان دمشق. وفي الحرب ضد الارهاب في افغانستان كان الأكثر تعاونا بشهادة واشنطن، بل انه تعاون بشكل اثار الدهشة والاطراء معا.

ما نريد قوله ان واشنطن لا تملك ايا من الأسباب الشكلية التي توفر لها الذرائع لغزو سورية واحتلالها، مثلما غزت العراق واحتلته، فلا يوجد في سورية نفط، ولا غاز، ولا اسلحة دمار شامل، كما ان جبهتها مع العدو الاسرائيلي هادئة على مدى الثلاثين عاما الماضية، وليس هناك ما يشير الي عكس ذلك، اما عن دعمها لـ الارهاب الفلسطيني فلم يزد في السنوات الاخيرة عن الدعم اللفظي، ولا نبالغ اذا قلنا ان النظام السوري استفاد من وجود مكاتب لجبهات الرفض عنده اكثر من استفادة هذه الجبهات من النظام السوري، والشيء نفسه يقال عن حزب الله ايضا.

الانحناء قليلا امام العاصفة الامريكية الهوجاء الحالية مطلوب، ولكن ليس من الحكمة ان تصل درجة الانحناء الي ملامسة الأرض، والمبالغة في تقديم التنازلات، فالتجربة العراقية اثبتت انه بمجرد ان تبدأ في تقديم اول تنازل تكر السبحة، وتجد نفسك في النهاية وقد فقدت كل شيء: السيادة والكرامة والحكم.

نحن نفهم ان تغلق سورية حدودها في وجه أي محاولات تسلل عراقية في الاتجاهين، سواء للهاربين من فلول النظام، او للراغبين في الذهاب في الاتجاه الآخر، أي مقاومة القوات الامريكية، ولكن ما لا نفهمه، ولن نفهمه، ان يطرد النظام السوري السيدة ساجدة طلفاح زوجة الرئيس العراقي وابنتيه اللواتي استجرن به، وطلبنَ حمايته ورعايته.

الادارة الامريكية لم تطلب مطلقا من النظام السوري طرد هؤلاء النسوة، لأنهن وببساطة غير مدرجات على لوائح المطلوبين الخمسة والخمسين، ولم يشاركن في تصنيع الاسلحة الكيماوية او النووية. ثم هل شيخ قبيلة شمر في الموصل اكثر شهامة ونخوة من النظام السوري؟

ندرك جيدا ان الضغوط والتهديدات ضخمة، مثلما ندرك ايضا انه لا يوجد نظام عربي واحد مساند، فالكل في حالة عجز سريري، او في غرف الانعاش من شدة الهلع والرعب. ولكن الوضع السوري مختلف. واذا كانت واشنطن عاقدة العزم على اطاحة النظام فلن يمنعها احد، ولن تغير رأيها حتي لو تجاوب مع كل مطالبها واملاءاتها. البديل هو التمسك والصمود، والعمل في الوقت نفسه على تعزيز الجبهة الداخلية من خلال مصالحة ومصارحة وطنية حقيقية، واطلاق الحريات، واحترام مواطنية ووطنية المواطن السوري.

فذهاب النظام العراقي لم يلغ العراق، وذهاب النظام السوري لا يعني نهاية سورية. فقد ذهب جميع الغزاة، الرومان، الاغريق، الاتراك والفرنسيون، وبقيت سورية.

(القدس العربي، لندن، 5/5)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات