أدّت حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 إلى تدهور غير مسبوق في صورتها الدولية على المستوى الشعبي، ولا سيما داخل الولايات المتحدة الأميركية، الحليف الاستراتيجي الأبرز لها. فقد أظهرت هذه الحرب، بما رافقها من دمار هائل وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، الوجه الابادي لإسرائيل، الأمر الذي أسهم في تراجع التأييد الشعبي وبعض التأييد الدبلوماسي لها، وتصاعد الدعوات إلى مقاطعتها في مجالات متعدّدة تشمل الرياضة والفنون والبحث العلمي والجامعات.
وتشير استطلاعات الرأي العام إلى تراجع حاد في تأييد الشباب الأميركي للسياسات الإسرائيلية في غزة، إذ أظهر استطلاع أجراه مركز Data for Progress في منتصف العام 2024 أنّ فقط 9% من الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 - 34 عاماً يدعمون تلك السياسات.
تسعى إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، إلى إعادة تلميع صورتها الدولية بعد حرب غزة من خلال توظيف التكنولوجيا والفضاء الرقمي كأدوات للتأثير في الرأي العام الغربي وتوجيهه لصالح روايتها لا سيما في أوساط فئة الشباب. وقد عبّر بنيامين نتنياهو عن هذا التوجّه بوضوح خلال لقائه مع عدد من المؤثّرين المؤيدين لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية، حين قال إنّ وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت السلاح الأهم بيد إسرائيل مؤكداً ضرورة استخدام أدوات المعركة الحديثة بدل القتال بالسيوف، في إشارة إلى مركزية الحرب الإعلامية والرقمية في استراتيجيات إسرائيل الدعائية الراهنة.
تقدّم هذه المساهمة استعراضاً لمشروعين في هذا السياق تعمل عليهما إسرائيل: الأول نشرته منصة تقرير الشرق الأوسط Middle East Reporting يتمثّل في عقد بقيمة ستة ملايين دولار أبرمته إسرائيل مع شركة أميركية تُدعى Clock Tower X لإنتاج محتوى رقمي والتلاعب بخوارزميات النشر باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، في محاولة لتوجيه السردية الإعلامية لصالحها.
أما المشروع الثاني، فكشفه تحقيق لمجلة +972، يظهر أنّ الجيش الإسرائيلي استخدم فيديوهات ثلاثية الأبعاد لتبرير هجماته في غزة ولبنان وسورية وإيران، استندت إلى نماذج رقمية جاهزة ومكتبات تجارية صمّمها فنانون ومؤسسات ثقافية، من بينها المتحف البحري في أسكتلندا.
ChatGPT قي خدمة الرواية الإسرائيلية
كشفت المجلة الإلكترونية التابعة لـمعهد كوينسي للسياسة المسؤولة Responsible Statecraft في 29 أيلول 2025 عن توقيع إسرائيل عقداً جديداً بقيمة ستة ملايين دولار مع شركة أمريكية تُدعى Clock Tower X LLC، وهي شركة تكنولوجية ذات توجه محافظ، بهدف إنتاج محتوى رقمي موجّه وتوظيف أدوات الذكاء الاصطناعي والتلاعب بالخوارزميات من أجل تعزيز السردية الإسرائيلية في الفضاءين الأميركي والأوروبي، ولا سيما بين فئة جيل Z .[1]
وبحسب التقرير، ستخصّص الشركة نحو 80% من المحتوى الذي تُنتجه للتفاعل مع جمهور جيل الشباب عبر منصّات مثل تيك توك، إنستغرام، يوتيوب والبودكاست، مستهدفةً ما لا يقل عن 50 مليون مشاهدة شهرية. وستعمل الشركة أيضاً على إنشاء مواقع إلكترونية جديدة مصمّمة لتوجيه نتائج البحث والمحادثات في نماذج الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT، بحيث تُؤطّر القضايا المتعلّقة بإسرائيل بطريقة أكثر انسجاماً مع رؤيتها السياسية والدبلوماسية.
وتستخدم Clock Tower X في ذلك برنامج MarketBrew AI لتحسين محركات البحث (SEO) وهو نظام يعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل وتوجيه الخوارزميات بما يضمن رفع ترتيب السرديات المؤيدة لإسرائيل في محركات مثل غوغل وبنغ. كما ستُدمج رسائل الشركة في شبكة Salem Media Networkوهي مؤسسة إعلامية مسيحية محافظة تمتلك برامج مؤثرة مثل The Hugh Hewitt Show وThe Right View with Lara Trump، ويُشارك فيها كلّ من دونالد ترامب الابن ولارا ترامب كمساهمين بارزين.
يقود المشروع براد بارسكال، المدير السابق لحملة دونالد ترامب الانتخابية العام 2016، والمستشار الذي تعاون مع شركة Cambridge Analytica في تقنيات الاستهداف الدقيق، حيث يشغل اليوم منصب كبير مسؤولي الاستراتيجية في Salem Media Group، ما يعكس تشابك المشروع الإسرائيلي مع شبكات النفوذ اليميني الأميركي.
ورغم أن بنود العقد لا تكشف بدقّة عن طبيعة المحتوى الموجّه، فإن وثائق التسجيل بموجب قانون تسجيل الوكلاء الأجانب FARA تشير إلى أنّ الهدف المعلن هو تنفيذ حملة وطنية في الولايات المتحدة لمكافحة معاداة السامية. ويتولّى متابعة المشروع من الجانب الإسرائيلي عيران شايوفيتش، رئيس ديوان وزارة الخارجية، والذي يقود أيضاً مشروعاً يُعرف باسم المشروع 545 لتعزيز الاتصالات الاستراتيجية لإسرائيل ودبلوماسيتها العامة.
ويستهدف هذا المشروع بشكل خاص القطاعات الشابة في المجتمع الأميركي، في ظلّ التراجع الحاد في دعمها لإسرائيل. وتعمل شركة Clock Tower X ضمن شبكة عقود تديرها شركة Havas Media Network نيابةً عن وزارة الخارجية الإسرائيلية، وقد استعانت هذه الأخيرة سابقاً بشركة SKDKnickerbocker المقربة من الحزب الديمقراطي لإدارة مزرعة روبوتات هدفها تضخيم السردية الإسرائيلية على وسائل التواصل الاجتماعي. وانتهى عمل شركة SKDK بالتزامن مع بدء تنفيذ عقد Clock Tower في أواخر آب 2025.
فيديوهات الجيش الرقمية المفبركة
في تحقيق آخر أجرته مجلة +972 بالتعاون مع مؤسسات إعلامية أوروبية، كشف عن أنّ عشرات الفيديوهات ثلاثية الأبعاد التي يوظفها الجيش الإسرائيلي لتبرير هجماته في غزة ولبنان وسورية وإيران، لا تستند إلى معلومات استخباراتية سرّية كما يُروّج، بل تعتمد على مكتبات تجارية ونماذج رقمية جاهزة صمّمها فنانون مستقلون أو مؤسسات ثقافية، بينها المتحف البحري في اسكتلندا.[2]
في 27 تشرين الأول 2023، نشر الجيش الإسرائيلي مقطعاً رسومياً يُزعم أنه يكشف ما تحت مستشفى الشفاء في غزة، مظهراً أنفاقاً وغرف قيادة لحركة حماس. وقد روّج مارك ريجف، مستشار نتنياهو، لهذا الفيديو بوصفه دليلاً استخباراتياً قاطعاً. لكنّ الهجوم على المستشفى لم يحدث إلا بعد أسابيع، فيما كانت السردية قد ترسّخت وانتشرت عبر حسابات الجيش ونتنياهو على المنصات الرقمية، قبل أن تعيد وسائل إعلام عالمية بثها مكررة الادعاء ذاته. ومع مرور الوقت، تبيّن أنّ أيّ غرفة قيادة أو قاعدة حماسية لم يُعثر عليها قط.
تُعد هذه المقاطع جزءاً من استراتيجية إعلامية جديدة يوظّف فيها الجيش الإسرائيلي الصورة الرقمية كسلاح دعائي. فالفيديوهات تبدأ بصور أقمار صناعية، ثم تنتقل إلى مشاهد ثلاثية الأبعاد بأسلوب الأشعة السينية تعرض مواقع تحت الأرض، قبل دمجها بلقطاتٍ حقيقية من طائرات مسيّرة. هذا الدمج يمنح المشاهد انطباعاً بمصداقية استخباراتية زائفة، إذ تُستخدم العناصر البصرية لخلق تسلسل واقعي يخدم السردية الرسمية بدل كشف الحقيقة.
حلّل التحقيق 43 مقطعاً من إنتاج الجيش منذ السابع من أكتوبر، وتبيّن أن كثيراً منها يحتوي على أخطاء مكانية أو يستخدم مواد جاهزة من مكتباتٍ تجارية وفنانين مستقلين. كما كشف جنود خدموا في وحدة الإنتاج أن الجيش يعطي الأولوية للمظهر الجمالي على حساب الدقة الواقعية، ويشجّع على المبالغة لزيادة التأثير الدرامي وإقناع الرأي العام بخطورة التهديد.
تُنتج هذه المقاطع داخل وحدة صغيرة تابعة للناطق بلسان الجيش، تُعرف باسم خلية After Effects، تضم مصممين ومحرّكي رسوم يستخدمون برامج Adobe وBlender وخضع كل فيديو لمراجعة استخباراتية شكلية قبل نشره، لكنّ عملية الإنتاج نفسها تسمح باستكمال التفاصيل المجهولة بخيال المصممين. وأوضح أحد جنود الاحتياط أن التزيين والمبالغة أمران روتينيان، مضيفاً أن الهدف هو توضيح الفكرة حتى لو لم تكن كل المعطيات متوفرة.
في بعض الحالات، تُنجز النماذج بعد تنفيذ الضربات لتبريرها لاحقاً بصرياً ووفق شهادات داخلية، تُصنع بعض النماذج داخلياً، بينما تُشترى أخرى من أسواق رقمية متخصصة مثل KitBash3D وSketchfab بأسعارٍ زهيدة أو عبر تراخيص المشاع الإبداعي.
تحليل المقاطع كشف أنّ أكثر من نصفها يحتوي على أصول خارجية؛ منها مواقف سيارات في واشنطن، ونماذج من ورشة لبناء القوارب في اسكتلندا، واجهات متاجر من ألعاب الفيديو. جميعها أُعيد استخدامها مئات المرات في مشاهد تُقدَّم كتصوّرات استخباراتية. وقد استخدم الجيش الإسرائيلي نماذج نشرها المتحف البحري الاسكتلندي ضمن مشروع فوتوغرامتري لتوثيق ورشة قوارب العام 2019، ظهرت لاحقاً في فيديوهات تزعم وجود مصانع صواريخ في سورية وإيران. وأوضح المتحف أنه لا يملك سيطرة على كيفية استخدام هذه البيانات بعد نشرها للبحث العلمي.
في حالات أخرى، تجاوزت هذه الرسوم التوضيحية حدود التزيين إلى خلق بيئات رقمية خيالية بالكامل. ففي أيلول 2024، نشر الجيش فيديو يُظهر منازل في قرية لبنانية قيل إنها تخفي صواريخ، لكن زيارة ميدانية أثبتت أن تلك المباني لا وجود لها. أما الفيديو الذي صوّر منشأة تخصيب نطنز الإيرانية، فقد استخدم نماذج للفنان الأميركي إيان هيوبرت أكثر من 150 مرة في مشهد واحد، بينما استُخدمت أعماله أيضاً في فيديوهات تُظهر أبراج غزة المدمّرة وكأنها ما زالت قائمة.
تنتشر هذه المقاطع بسرعة لافتة، إذ تُطلقها وحدة الناطق بلسان الجيش متزامنة مع العمليات العسكرية أو قبلها بقليل. ومع غياب الصور المستقلة وصعوبة الوصول الميداني، تعتمد وسائل الإعلام الدولية على هذه المواد كـمصادر بصرية جاهزة، ما يمنحها مصداقية زائفة. وعلى الرغم من ظهور كلمة توضيح في زوايا الشاشة، فإن دلالتها تبقى غامضة، وتتعامل معها وسائل الإعلام بانتقائية.
في بيان لـــ BBCـ، أوضحت القناة أنها تنسب المقاطع إلى مصدرها الأصلي: الجيش الإسرائيلي، لكنها لم تُعلّق على مضمونها أو دقتها. أما الجيش الإسرائيلي، فقد رفض نتائج التحقيق، مؤكداً أن المواد مبنية على معلومات استخباراتية موثوقة، وأن استخدام الرسوم يهدف إلى تبسيط المعلومات لا إلى إعادة بناء الواقع.
يرى خبراء التحقيقات البصرية أن هذه المقاطع تستعير لغة التحقيقات مفتوحة المصدر لتقويضها. وتقول إليزابيث براينر، من مركز الهندسة الجنائية في لندن، إن إسرائيل استعملت القاموس البصري للتحقيقات المفتوحة كأداة لنزع الشرعية عنها وبث الالتباس.
وفي تعليقها على ذلك، أوضحت إليزابيث براينر، مديرة البرامج في مركز أبحاث الهندسة الجنائية التابع لجامعة غولدسميث في لندن، أنّ الإسرائيليين استعاروا القاموس البصري المستخدم في التحقيقات مفتوحة المصدر، واستخدموه وسيلةً لتقويض مصداقية هذه التحقيقات ولإثارة الالتباس والتشويش بشأنها. وأشارت إلى أنّ هذه المواد البصرية بطبيعتها غامضة، إذ إنها تتأرجح بين الواقعي والمتخيَّل، غير أنّ خطورتها الحقيقية تكمن في قدرتها على ترسيخ نفسها في الذاكرة الجمعية، حتى بعد تفنيدها بالأدلة أو بعد إثبات زيفها عملياً.
[1] نيك كليفلاند- ستوت، "إسرائيل تريد تدريب ChatGPT ليصبح أكثر انحيازاً لإسرائيل"، مجلة السياسة المسؤولة (Responsible Statecraft)، 29 أيلول 2025. https://responsiblestatecraft.org/israel-chatgpt/
[2] أورن زيف، "كيف انتهى المطاف بمتحف بحري اسكتلندي في مقاطع الدعاية الإسرائيلية ثلاثية الأبعاد"، مجلة +972، 8 تشرين الأول 2025، https://www.972mag.com/israeli-army-3d-propaganda-animations/