صدر حديثاً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" عدد مزدوج من مجلة قضايا إسرائيلية يضم العددين 98 و99. يتمحور العدد حول تفكيك سياسات السيطرة الاستيطانية، إلى جانب قراءة في مسارات القانون الدولي، وتحليل جدل الهوية اليهودية الذي يشكل إطارًا مرجعيًا للكثير من الانقلابات السياسية والاستراتيجية الجارية.
على المستوى القانوني؛ يفتتح العدد بمقالة مترجمة لديريك موزس تتناول اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة من خلال مقاربة تاريخية- قانونية تربط النقاش الراهن بالنقاش الذي نشأ أثناء الحرب على فيتنام (انتهت عام 1973) حول "تشخيص" الإبادة، بما يوضح كيف أسهمت التجربة الفيتنامية في صياغة الإطار القانوني الذي اشترط لاحقًا إثبات "النية الخاصة" للإبادة، وهو الشرط الذي يجعل توصيف العنف الإسرائيلي في غزة كإبادة جماعية أكثر تعقيدًا.
يتضمن العدد مقال لوليد حباس وشيرين يونس تتناول معضلة إعفاء طلاب المعاهد الحريدية من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، إذ تركّز على تطور الصراع بين المحكمة العليا والحكومات المتعاقبة منذ السبعينيات وحتى عام 2025، وتبرز كيف تحوّلت القضية من استثناء إداري محدود إلى أزمة بنيوية عميقة تمسّ هوية الدولة، وترتبط بالصراع الداخلي بين القوى الليبرالية الدستورية من جهة، وصعود اليمين الديني- الشعبوي من جهة أخرى. تجمع المقال بين التحليل الديمغرافي- الاقتصادي للمجتمع الحريدي وسرد تاريخي للتدخلات القضائية والتشريعية في ملف "إعفاء الحريديم"، مع تركيز خاص على لحظة 2024 حين فرضت المحكمة العليا التجنيد على الحريديم وعلّقت تمويل المدارس الدينية.
يضم العدد أيضًا ترجمة لنص شارك في تأليفه نيف غوردون، غاي شاليف وأسامة طنوس، يكشف تواطؤ الجهاز الطبي الإسرائيلي في الحرب على غزة، سواء بالصمت أو بالمشاركة المباشرة في ممارسات التعذيب، والإهمال الطبي، ورفض علاج الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
وفي إطار متابعة جدل الهوية، تنشر "قضايا إسرائيلية" ترجمة مطوّرة عن نص لنديم كركبي، تناقش سياسات الاستيعاب في إسرائيل عبر ثلاثية: الأشكناز كمستوطنين، الفلسطينيون كأصلانيين، والمزراحيون كفئة وسطية. الجديد في الطرح هو إبراز الكيفية التي استُخدم فيها المزراحيون لتعزيز التفوق الديمغرافي اليهودي، وفي الوقت نفسه، إضفاء صورة "أصلانية استيطانية" تمنح المشروع الاستيطاني شرعية بالمكان. كما يوضّح المقال استحالة استيعاب فلسطينيي 48 في النسيج الاجتماعي- الثقافي- السياسي الإسرائيلي بفعل الانتماء الديني كحاجز نهائي، وتفكّك في المقابل تعقيد مسارات التزاوج والتحول الديني كقنوات انتقائية لإدماج الفلسطينيين. هذا النص وثيق الصلة بدراسات الاستعمار الاستيطاني، الهوية والعلاقات الإثنية- الدينية.
يلتفت العدد كذلك إلى المستجدات في الحقل الالكتروني والرقمي وانعكاسها على الواقع وصياغته، عبر مقالة لعبد الهادي العزازي والتي تبحث في الهيمنة الخوارزمية الإسرائيلية، وكيف يُدار الوعي الغربي عبر محركات البحث، ومنصات التواصل، والذكاء الاصطناعي بما يخدم السردية الصهيونية. يُقدّم المقال تحليلاً يُبرز الانتقال من الدعاية التقليدية إلى بيئة رقمية تستبعد الرواية الفلسطينية عبر تصنيفها "تحريضية"، مع التركيز على الحملات الممنهجة لإسكات النشطاء والصحافيين المناصرين لفلسطين أو المعترضين على حرب الإبادة.
في السياق ذاته يكتب وليد حباس، عن دور الذكاء الاصطناعي القاتل في الحرب الإسرائيلية على غزة، بما يوضح كيف تُحوّل الأنظمة الإسرائيلية الذكية إلى منظومات إبادة مؤتمتة تُنتج قرارات قتل جماعية دون رقابة بشرية فعلية. الجديد في النص هو توظيف مفاهيم فلسفية ونقدية مثل "التحيّز الآلي"، "تحقيق السيناريو"، "التجسيد المضلل"، و"الغموض المعرفي" للكشف عن البنية الإبادية للخوارزميات، مع إبراز عجز القانون الدولي عن مساءلة هذا النمط من الحروب.
يتضمن العدد أيضًا مقال لهند شريدة حول عسكرة العمل الإنساني في غزة من خلال حالتين مركزيتين: الميناء العائم الأميركي (2024) و"مؤسسة غزة الإنسانية" (2025). يوظف المقال إطار "هندسة المجاعة" وأدبيات "الأنسنة الجديدة" للكشف عن كيفية تحوّل المساعدات إلى أدوات حصار وإبادة، حيث غدت مراكز التوزيع "مصائد موت" ووسائل للتهجير. تؤكد المقال على أن هذه الحالات ليست استثناءً، بل استمرار لنمط إمبريالي يستخدم خطاب الإغاثة لتطويع السكان والتحكم في حياتهم.
في حقل العلاقات الدولية، يتضمن العدد مقالتين، الأولى لسلمى حمزة تبحث في دور الصناعات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في دعم الديكتاتورية الأرجنتينية خلال الحرب الباردة. والثانية لمنال علان، وتركّز على التقارب الأمني والدفاعي بين الهند وإسرائيل، مع إبراز بناء إطار مؤسسي للتعاون العسكري في ظل تصاعد المواجهات الإقليمية. وتوضّح علان كيف يوظّف الطرفان خطاب "مكافحة الإرهاب" لتبرير الضربات الاستباقية وتعزيز التعاون البحثي والتكنولوجي، خصوصًا في مجالات الطائرات المسيّرة والإنتاج المشترك. وتشير المقالة إلى أن الهند باتت أكبر مستورد للسلاح الإسرائيلي، لكنها تسعى في الوقت نفسه لمواءمة هذا التعاون مع استراتيجيتها "صُنع في الهند".
في قسم الأرشيف، يتضمن العدد مقالان مترجمان يعكسان الجدل المبكر حول الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، وبالتحديد مع انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897. المقال الأول بعنوان "ماوشيل" بقلم ثيودور هرتسل، يطرح تمييزًا حادًا بين "اليهودي الحقيقي" الذي يتبنى الصهيونية و"ماوشيل" الرافض لها، وتقدّم الأخير بوصفه عنصرًا دخيلًا ومنحطًا يستوجب العزل والمواجهة. في المقابل، يأتي المقال الثاني، وهو ترجمة لنص كارل كراوس بعنوان "كراونة لصهيون"، لتقدّم نقدًا لاذعًا للمشروع الصهيوني باعتباره شكلاً من أشكال "اللاسامية اليهودية"، وتشكل ردًا مباشرًا على أطروحة هرتسل. يعكس النصان معًا عمق الانقسام الفكري داخل الوسط اليهودي الأوروبي بين مؤيدي الدعوة الصهيونية ومعارضيها في تلك المرحلة المبكرة.
وختامًا، يتضمّن العدد قراءة لكتاب "نتنياهو: سيرة البقاء والنجاة السياسية" أنجزها ماهر داوود إلى جانب زاوية المكتبة التي أعدّها عبد القادر بدوي.