ما يجري الآن في رفح ليس تطهيرا عرقيا، ولكنه استمرار لسياسة الابادة السياسية. والابادة السياسية، "بوليتيسايد"، هي التعبير المهني لعملية تدمير الشرعية والقدرة لدى جماعة عرقية قومية على نيل حق تقرير المصير او على الاقل تقليص سريان هذا الحق الى الحد الادنى في اطار دولة قومية سيادية. وهذه الصيرورة تجري عبر الابادة المنهجية للمؤسسات والبنى التحتية السياسية والاجتماعية، والتصفية السياسية وحتى الجسدية لزعامتها، وبالأخص تحطيم ارادة وثقة الضحية بقدرتها على تجسيد حقّ تقرير المصير. وهذه صيرورة عسكرية وسياسية مشتركة تطلب تعقيداً بالغاً، لانها تتطلّب الحصول على شرعية داخلية ودولية لفعل ليس لمرة واحدة وإنما لصيرورة تستمر اجيالاً وأحيانا الى تعاون غير واعٍ من جانب الضحية ذاتها، المُعدّة للتصفية ككيان سياسي مستقل.
هناك شيء في اسرائيل اسمه مكتب الناطق العسكري. قسم الدعاية والترويج التابع لجيش الاحتلال. كل الصحفيين يعرفون ان هذا الشيء غالبا ما يكذب ويخفي الحقائق. ربما لا يعترف كل الصحفيين بهذا، ولكن الجميع يعرف ذلك. فبواسطة هذا القسم ، قسم الكذب العسكري، يجري مسح دماء الضحايا الفلسطينيين بالكلام الفارغ. بالجمل المرسومة بدقة وخبث. وبأخلاقيات تقع على مستوى مياه المجاري.
ما الذي كان سيحصل لو طلب فجأة من كل من أمسك بميكروفون على منصة التظاهرة الكبيرة التي جرت مساء يوم السبت تشكيل حكومة؟ كانوا سيوافقون فوراً على تنظيم أنفسهم لبدء إخلاء غزة. لكن أشك فيما اذا كانوا سيذهبون أبعد من ذلك. ليست الفوارق الاصطناعية ـ بما في ذلك حروب الأنا ـ كبيرة جداً فحسب، بل الفوارق الحقيقية أيضاً، وهذه مشكلة تستدعي عملية تمحيص علنية.
بمنأى عن الإنبهار الإعلامي، الذي يبرره التعطّش لحراك سياسي ما طال إنتظاره، حقّ للقوى اليسارية الاسرائيلية الحقيقية المؤيدة للسلام العادل والمناهضة للإحتلال وجرائمه، التي ليس آخرها هدم مئات البيوت في رفح، أن تعبّر عن إمتعاضها الشديد من تقزيم أولي الأمر لمظاهرة عشرات الألوف، يوم السبت الأخير، والتي جاءت في قراءة هؤلاء لتشدّ من أزر رئيس الوزراء الاسرائيلي، أريئيل شارون، في "معركته" ضد حزبه أكثر مما جاءت لتردّ الروح إلى جسد المعارضة الاسرائيلية المتداعي، وأكثر مما جاءت لجعل هذه المعارضة تتوسّد القيم اليسارية المغيّبة، إلى ناحية تضادها المستحق والمؤجّل مع سياسة الحكومة الحالية جملة وتفصيلا، وبضمن ذلك التضاد مع خطة "فك الارتباط"، على رغم رفضها في إستفتاء المنتسبين إلى "الليكود"، الذي شكل ذريعة بائسة لتزكية أصحابها.
كتب علاء حليحل:
منذ تعيين يوسف برئيل مديرًا عامًا لسلطة البث الاسرائيلية، في آذار 2002، كتعيين مؤقت لثلاثة أشهر، ثم تثبيته في نهايتها مديرًا عامًا دائمًا، وسلطة البث في تدهور مثابر وواضح نحو تحويلها إلى سلطة بث حكومية بكل معنى الكلمة. فالفرق الأساسي والجوهري بين سلطة بث أو وسيلة إعلام حكومية وبين سلطة بث أو وسيلة إعلام جماهيرية هو فرق حاسم ولا تأتأة فيه، في أيّ نظام ديمقراطي.
كما هو الحال بالنسبة للزوجين اللذين يصبحان متشابهين إلى حد كبير بمرور السنوات على زواجهما، هكذا هي الحال أيضاً بالنسبة للأعداء.
فالمجتمعات التي يدور بينها صراع عنيف ومستمر تغدو بالتدريج متشابهة إلى حد بعيد، في أنماط التفكير والقيم وردود الفعل تجاه الأوضاع الصعبة.
هذه العملية التي يمر بها، منذ مطلع القرن العشرين، المجتمعان الإسرائيلي والفلسطيني، راحت تغذ الخطى منذ إندلاع الإنتفاضة الثانية وبلغت ذروة جديدة في الأسبوع الماضي، أثناء الأحداث المأساوية في غزة ورفح.
الصفحة 39 من 119