المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا شك في أن المعركة الدائرة بين وسائل إعلام إسرائيلية بارزة في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، أوضحت أكثر طبيعة الإعلام الإسرائيلي، الذي شهد في العقدين الأخيرين انقلابات عدة، وبات خاضعا لحيتان المال، في حين أن الإعلام "الرسمي"، خسر أكثر من ذي قبل من حيز الاستقلالية المحدود، الذي كان يتمتع به، لصالح سطوة سياسية أشد. وفي كلا قطاعي الإعلام، الخاص والرسمي، فإن شخص نتنياهو ظاهر بقوة، إما داعما أو مهاجما. ولكن هذا العراك تخطى المنطق في حجم تغطيته، وطغى على شبهات أخطر بكثير تحوم حول نتنياهو، تحقق بها الشرطة جنائيا، وقد يواجه نتنياهو بشأنها لوائح اتهام، رغم أن تجارب السنوات الأخيرة، توحي بأن نتنياهو المسيطر على مقاليد السلطة، ما زال بعيدا جدا عن تلك اللحظة التي سيضطر فيها للنزول عن المسرح السياسي.

وعلى الرغم من الصخب الإعلامي، حول نشر تفاصيل محادثات مسجلة بين بنيامين نتنياهو، وصاحب صحيفة "يديعوت أحرونوت" أرنون موزيس، فإن هناك شكا كبيرا في أن هذه القضية بالذات، ستقنع الرأي العام بأنها قضية فساد تستوجب استقالة نتنياهو، خاصة وأن وجهات النظر الحقوقية متناقضة، ومتماشية مع توجهات وسيلة الإعلام التي تنشرها. فمثلا الحقوقيون الذين تظهر تقديراتهم في صحيفة "هآرتس" مصرّون على أن محادثات نتنياهو- موزيس، تستوجب لائحة اتهام واستقالة نتنياهو، بينما في صحف أخرى، مثل "يديعوت أحرونوت" وغيرها، ثمة تشكيك في ما إذا ستنتهي التحقيقات في هذا الملف العيني بلائحة اتهام.

ونشير إلى أن نتنياهو مشتبه أيضا بحصوله على "هدايا" تقدر بمئات آلاف الشيكلات (عشرات آلاف الدولارات) من أثرياء، كان نتنياهو سعى إلى مصالح لهم، إن كان في البلاد أو في الخارج. ومثل هذه القضايا، التي تقنع الرأي العام بكونها فسادا، غابت عن واجهة الإعلام، لصالح التركيز على محادثات نتنياهو- موزيس.

هوس نتنياهو الإعلامي

شكك كثيرون قبل عامين حينما قال محللون سياسيون إسرائيليون إن بنيامين نتنياهو أقدم في خريف العام 2014 على حل الكنيست والتوجه إلى انتخابات برلمانية مبكرة، كي يمنع إقرار القانون الذي كان من شأنه أن يوجه ضربة قاصمة لصحيفة "يسرائيل هيوم"، التي تصدر مجانا منذ العام 2007 وحتى اليوم، وتعد الأكثر انتشار في أيام الأسبوع، باستثناء الجمعة، وهي كلها مجنّدة لشخص نتنياهو منذ أن كان رئيسا لحزب الليكود المعارض في ذلك العام، ولاحقا رئيس حكومة.

وكان الكنيست قد أقر في صيف العام 2014 بالقراءة التمهيدية مشروع قانون يفرض قيودا على الصحف المجانية اليومية، من حيث عدد صفحاتها، وعدد النسخ اليومية. وبادر إلى ذلك القانون في حينه النائب من حزب "العمل" إيتان كابل، ولكنه حظي بدعم من كتلتي "يوجد مستقبل" و"البيت اليهودي"، اللتين كانتا في ائتلاف نتنياهو الحاكم في حينه. وحظي القانون بأغلبية كبيرة رغم معارضة نتنياهو له، إلا أن كل جهوده فشلت في منع القانون.

وبعد ذلك بعدة أشهر، فاجأ نتنياهو بقراره حل الحكومة وبالتالي حل الكنيست، رغم أن حكومته أثبتت أنها متماسكة، وقادرة على اتخاذ قرارات وقوانين لم تنجح حكومات سابقة في إقرارها. ولم يلتفت كثيرون إلى ما قاله عدد من المحللين، وأحدهم المحلل الأبرز في "يديعوت أحرونوت"، ناحوم بارنياع الذي قال إن دافع نتنياهو للتوجه إلى انتخابات مبكرة، كان لمنع استمرار تشريع القانون الذي يوجه ضربة لصحيفة "يسرائيل هيوم".

وفي الأيام الأخيرة، وفي محاولة نتنياهو اثبات أنه لم يسع للغدر بالصحيفة المجنّده له، نشر على صفحته في شبكة "فيس بوك" معترفا بحقيقة أنه حلّ حكومته بسبب ذلك القانون، إذ كتب: "كوني ممنوعا من الدخول في تفاصيل التحقيق لا يمكنني الا أن أقول الامور التي هي علنية ومعروفة للجميع: فالكل يعرف بأنني عارضت معارضة شديدة قانون "يسرائيل هيوم"، ذاك الذي أعده آخرون وبادروا اليه قبل انتخابات 2013 بكثير. وعلى مدى أشهر طويلة منعت طرح القانون على التصويت العاجل. وما أن جاء التصويت حتى صوت ضد القانون مع مجموعة من النواب ضمت اغلبية رفاقي في الليكود. ومعروف أيضا انه حتى بعد أن أجيز القانون بأغلبية كبيرة، قررت حل الحكومة وذهبت لانتخابات برلمانية، بسبب التآمر من داخل الحكومة لاقرار القانون. كما أن الكل يعرف أنه مع اقامة الحكومة الجديدة بعد الانتخابات أدخلت بندا صريحا في الاتفاقات الائتلافية لمنع تكرار مثل هذا التشريع".

ويقصد نتنياهو بندا واضحا في اتفاقيات الائتلاف تتعهد فيه الكتل المشاركة في الائتلاف بعدم تأييد مبادرة تتعلق بوسائل الإعلام، يعارضها نتنياهو والليكود، لمنع اقرار هذا القانون مجددا، إذ أن الانتخابات البرلمانية أوقفت كليا تشريعه واختفى بذلك عن جدول الأعمال. وحتى اعداد هذا التقرير، فإن إيتان كابل لم يطرح مشروع القانون مجددا على جدول الأعمال، ويبقى هذا أمرا مستغربا من نائب المعارضة، الذي يعرف اشكالية القانون في صفوف الائتلاف.

ولم يكتف نتنياهو ببند الاتفاق هذا، بل احتفظ لنفسه بحقيبة الاتصالات التي هي أيضا مسؤولة عن الإعلام، وهو يشرف بشكل دائم على سلطة البث الرسمية، التي ستتحول في شهر نيسان المقبل إلى شركة حكومية، كان نتنياهو قد حاول حلها قبل أكثر من شهر، بعد أن بادر لإقامتها قبل أقل من ثلاث سنوات. وكان واضحا في محيط نتنياهو، أن الأخير لم يكن راضيا عن التعيينات في الشركة الحكومية الجديدة، بادعاء أن عددا كبيرا من الاشخاص الذين تم تعيينهم في وظائف مختلفة، لديهم توجهات "يسارية".

240 مليون دولار خسائر "يسرائيل هيوم"

جانب الإثارة الأكبر في محادثات نتنياهو مع موزيس، والتي تم تسجيلها، هو أنهما تفاوضا حول شكل فرض قيود على انتشار "يسرائيل هيوم"، مقابل أن تحسّن "يديعوت أحرونوت" من توجهاتها لنتنياهو. ومعروف أن هذه الصحيفة التي أصدرها ويملكها ويمولها الثري شلدون إدلسون، خدمة لشخص نتنياهو، قد سجلت في السنوات السبع الأولى لصدورها، بمعنى حتى نهاية 2014، خسائر بما يعادل 190 مليون دولار. وحسب التقديرات، فإن الخسائر الاجمالية تزايدت في العامين الماضيين إلى ما بين 230 مليون حتى 240 مليون دولار. وهناك من يرى أن هذه الصحيفة هي الرشوة الأكبر التي يحصل عليها نتنياهو يوميا، تحت سمع وبصر الجمهور، ولكن لا يوجد من يتابع، كما لا تتم مساءلة صاحب الصحيفة عن جدوى اصدارها أمام واقع هذه الخسائر الفادحة، التي يسددها واحد من أكبر أثرياء العالم، ويملك واحدة من أكبر شبكات القمار في العالم.

وفي الايام الأولى لنشر تفاصيل التحقيق ومضامين التسجيلات بين نتنياهو وموزيس، كانت تغطية "يسرائيل هيوم" معتدلة، ودلّ هذا على حالة ارباك في الصحيفة، التي اعتادت على الرد بعنف كلامي، على كل هجوم على نتنياهو. ولكن في الأيام التالية، عادت الصحيفة إلى خطها القائم منذ صدورها، بالدفاع عن نتنياهو ومهاجمة وسائل الإعلام التي تغطي بكثافة مسألة التحقيقات مع نتنياهو وكل المتورطين بهذه القضية، وقضية الفساد الأخرى.

ومن الواضح أن هناك شيئا يتحرك من وراء الكواليس، وعلى الأغلب تطمينات من نتنياهو لصديقه الأكبر شلدون إدلسون. وبالإمكان دعم هذا الاستنتاج بما صرّح به رئيس كتل الائتلاف الحاكم النائب دافيد بيتان، للإذاعة الإسرائيلية الرسمية، الذي قال إن المحادثات بين نتنياهو وموزيس طغى عليها الخبث، لأن كل ما قيل لم يتم تنفيذه على أرض الواقع.

الأقلام الأبرز تتجند للمعركة

قبل أكثر من ثلاثة أشهر، نشرت صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، التابعة لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، تقارير حول سطوة حيتان المال على وسائل الإعلام الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن هذه ظاهرة قائمة عالميا، إلا أن في إسرائيل لها ميزات خاصة بها. وهذه القضية طرحت مرارا هنا، ومن أبرز عناوينها أن وسائل الإعلام، خاصة الصحف الورقية منها، انتقلت في العقدين الأخيرين من مشاريع استثمارية، إلى مشاريع خاسرة اقتصادية، ولكنها تسد احتياجات مالكيها، للسطوة على الرأي العام، بموازاة السطوة على السياسيين، الذين يسعون إلى وسائل إعلام "ودودة" لهم تسوقهم.

والقضية الأبرز التي طرحتها تقارير "ذي ماركر"، هي العلاقة فوق العادة التي تربط أصحاب أقلام إسرائيليين بحيتان المال وبالسياسيين، وتسخير كتاباتهم بما ينسجم مع طبيعة تلك العلاقة، وهذا موجود تقريبا في جميع وسائل الإعلام، إن لم يكن كلها. وطرح الصحافي والكاتب ناتي توكير نماذج عديدة، مرفقة بأسماء صحافيين. ويقول توكير إن هذا المثلث- المستثمرون والسياسيون والصحافيون- كان من المفترض أن يكون مثلثا متساوي الاضلاع، كي لا تقع وسائل الإعلام تحت سطوة وتأثير الآخرين، وكي تقوم بواجبها بشكل ناجح، وهو الانتقاد، والتحذير، وقيادة التغيير. ويكتب توكير: "إلا أنه في السنوات الأخيرة تم خرق هذا التوازن بين الجهات الثلاث، إن كان على المستوى العالمي، أو في إسرائيل. وقوة وسائل الإعلام أمام المستوى السياسي تتراجع باستمرار، وبدلا من أن تكون كلب الحراسة، الذي يهاجم قوة الآخرين، فقد تحولت الصحافة إلى أسيرة بيد أصحاب رأس المال والسياسيين".

ويتابع توكير كاتبا "إن كون وسائل الإعلام أسيرة بمدى كبير بأيدي المستوى السياسي، وأصحاب رأس المال، هو ظاهرة واضحة كثيرا في إسرائيل، بدءا من رأس الهرم الإداري في وسائل الإعلام، وصولا إلى آخر العاملين. وفي أعقاب هذا، تقل تدريجيا قدرة وسائل الإعلام على الصمود في مواجهة التحديات. وفي أجهزة ودوائر عديدة، فإن الصحافيين الذين يحاولون المبادرة لتقارير وتحقيقات ضد جهات قوية يتم لجمهم، وبشكل عام بصورة غير مباشرة، ولاحقا يستوعب الصحافيون وجود جهات من الأفضل لها أن لا تنشغل بها، ولهذا فإن الصحافيين يفرضون على أنفسهم رقابة ذاتية".

ويرى توكير أن توطيد العلاقة بين كبار أصحاب وسائل الإعلام والسياسيين تم بشكل خاص في السنوات الأخيرة، في أعقاب تدهور الأوضاع الاقتصادية في وسائل الإعلام المختلفة. فالهبوط الحاد بنسبة 50% في مداخيل الصحافة المطبوعة في العقد الأخير، عمق أزمة الصحف، من جهة، وعمّق تعلقها بالسلطة الحاكمة، من جهة أخرى، مثلا في اطار المنافسة على مداخيل الصحف من الإعلانات الحكومية، وبطبيعة الحال من الشركات الكبرى. ووسائل الإعلام الالكترونية التجارية غارقة في أزمات مالية، ومنها ما هو واقع تحت ضغوط كبار المستثمرين؛ وهي تواجه ضغوطا ناجمة عن تحركات تهدف إلى إجراء تغييرات إدارية، من خلال أنظمة سلطة البث الثانية، التي تشرف على البث الإعلامي، القائم على تراخيص للملكية الخاصة.

وتشكل صحيفة "يسرائيل هيوم" مثالا صارخا قويا على ظاهرة شراء الاقلام، ففي خانة "صنّاع الرأي" يوجد كتّاب كانوا ذات يوم قريب محسوبين على معسكر اليسار الصهيوني، بينما هم اليوم من أبرز أبواق الدفاع المفتوح عن بنيامين نتنياهو وسياسته اليمينية المتشددة. ومن المفارقة أن بينهم من شن معارك قلمية على صحيفة "يديعوت أحرونوت" وعلى كتّاب فيها بسبب انتقاداتهم لشخص نتنياهو.

وما قاله توكير حصل على اثبات قوي جدا في الأيام الأخيرة، حينما تجند كبار صنّاع الرأي، للدفاع عن خط صحيفتهم، ومنهم من سعى إلى تنظيف اسمه، ولكن في محاولة التفافية لتبرئة مالك الصحيفة. وهذا ما جرى في "يديعوت أحرونوت"، واولهم المحلل الأبرز ناحوم بارنياع، وتلته سيما كدمون، ثم رئيس تحرير الصحيفة رون يرون.

ونشر هؤلاء وغيرهم مقالات على صدر الصفحة الاولى للصحيفة، يقولون فيها إنهم لم يكونوا في أي وقت تحت أمرة صاحب الصحيفة أرنون موزيس، وأن الأخير لم يطلب منهم في أي وقت كتابة مقالات في اتجاه سياسي ما. ويرد عليهم آخرون في وسائل إعلام منافسة، أن موزيس ما كان بحاجة للتوجه إلى أي من الكتّاب مباشرة، وتكفي لغة الإشارة. ولكن في ما يخص بارنياع وكدمون على وجه التحديد، فإنه لم ترصد مقالات لهما تدافع عن نتنياهو، بل هي مقالات انتقادية بامتياز.

وحسب ما كان ينشر في وسائل الإعلام، فإن موزيس كان قد أوضح لنتنياهو أنه لا يستطيع مطالبة أحد بتغيير توجهاته. ولكن موزيس عرض على نتنياهو تسمية كتّاب جدد لضمهم إلى الصحيفة، ليكتبوا بالتوجه المناصر لشخص نتنياهو.

توقعات المستقبل

لا يمكن معرفة مصير ملف نتنياهو هذا، خاصة على ضوء وجهات النظر المتناقضة بين خبراء الحقوق. ومجرد الاختلاف هذا يدعم الاستنتاج بأن القرار النهائي بشأن نتنياهو في هذه القضية العينية، بقصد محادثاته مع صاحب "يديعوت أحرونوت"، سيكون بعيدا نسبيا. ويضاف إلى هذا تجارب السنوات الأخيرة، وخاصة ملف وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، الذي استمرت التحقيقات فيه ما يزيد عن 10 سنوات، وبعد أن جرى حديث عن أضخم ملف فساد، تقلص إلى تهمة ادارية هامشية، لم تمنع استمرار ليبرمان في أداء عمله السياسي.

ويبدو أن نتنياهو لن يكون إيهود أولمرت الثاني، الذي تم البت في ملفه في غضون اشهر قليلة وبتسارع أيضا غير معهود. فنتنياهو اليوم مسيطر على مقاليد السلطة بشكل غير معهود في العقود السبعة الماضية لأي رئيس وزراء إسرائيلي، وما من شك في أن أذرعا عدة ستعمل على اغراق دوائر القرار في النيابة في ابحاث قد تستمر فترة طويلة تكون كافية لينهي فيها نتنياهو ولايته الحالية على الاقل، بعد أكثر من عامين.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات