المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أثار نهج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في السنوات الأخيرة، ولكن بشكل خاص في الأشهر الأخيرة في حكومته الحالية، قضية الإعلام الإسرائيلي، وسطوة حيتان المال من جهة، وسطوة السياسيين، المدعومين من حيتان المال أنفسهم. فالشعور السائد في الأوساط الإسرائيلية هو أن الإعلام الإسرائيلي ليس حرّا بما فيه الكفاية، وتثقل عليه أجندات أصحاب وسائل الإعلام الكبرى والسياسيين.

والقضية الأبرز التي تفجرت في الأسابيع الأخيرة، وكنا قد استعرضناها في حينه، هي محاولة نتنياهو عرقلة عمل الشركة الحكومية الجديدة، التي ستتولى شؤون البث العام، الإذاعي والتلفزيوني، بدلا من سلطة البث، القائمة منذ عشرات السنين. فهذه الشركة كان من المفروض أن تبدأ عملها في الصيف المنتهي، ثم تم تأجيله إلى شهر تشرين الأول الجاري، إلا أن نتنياهو وبعد أن أدرك أن تركيبة العاملين ليست بحسب أهوائه، بموجب تقارير إسرائيلية، سعى إلى تأجيل عمل الشركة لفترة أطول، ولكن بعد الضجة التي أثيرت في حكومته ذاتها، تم الاتفاق على أن يبدأ عمل الشركة في مطلع العام المقبل 2017.

وقضية السطوة على وسائل الإعلام تُطرح على جدول الأعمال من حين إلى آخر، وبشكل تصاعدي، في السنوات العشرين الأخيرة، خاصة بعد ظهور الاعلام الالكتروني المنظّم، من قنوات تلفزيونية وإذاعات، تابعة لسلطة البث الثانية، التي فيها الجانب الأكبر لمساهمات القطاع الخاص، وعلى مدى الفترة الماضية، صدرت العديد من الأبحاث التي دلت على أن الإعلام المركزي، ولنقل ماكنة صناعة الرأي العام، بات عمليا بأيدي قلة قليلة من حيتان المال، يتبعهم عدد كبير من حملة الأقلام، في حين أن الحيز "الحر" للصحافي يضيَق باستمرار.

فشكل التعامل مع المؤسسة الحاكمة، وأي من السياسيين تتم بلورته، في أي وقت وأي وتيرة، يكون بموجب قرارات تعود بالأساس لأجندة المالك الأكبر لوسيلة الإعلام، وبموجب المصالح المتبادلة بين مالك وسيلة الإعلام، وبين هذا السياسي أو ذاك من التابعين له.

وإذا كان المثل الصارخ في سوق الإعلام الإسرائيلية هو صحيفة "يسرائيل هيوم" اليومية المجانية، التي يملكها الثري الأميركي اليهودي شلدون إدلسون، وتخدم كليا شخص رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فإن وسائل الإعلام الباقية هي أيضا ليست مستقلة، بل تعمل وفق أهواء وأجندات مالكيها. ولربما أن الحالة الاستثنائية، إلى حد ما، في الإعلام الإسرائيلي هي صحيفة "هآرتس"، والصحيفة الاقتصادية التابعة لها "ذي ماركر"، وباقي المطبوعات الدورية التابعة للشركة ذاتها، وحسب تقديرنا، فإن هذه الصحيفة تفتح بشكل دائم هذا الملف الشائك بقوة، لكون مالكي الصحيفة الأساسيين، عائلة شوكن، تتركز كل استثماراتهم في الشركة التي تصدر الصحيفة وكافة الصحف والمطبوعات الأخرى التابعة لها. في حين أن مالكي وسائل الإعلام الأخرى، اساس استثماراتها يتركز في القطاع الاقتصادي الأوسع، وبشكل متشعب.

وفي الآونة الأخيرة فتحت صحيفة "ذي ماركر" ومجلتها الشهرية هذا الملف من جديد على وسعه، لتحمل تفاصيل جديدة، حول واقع الاحتكار الحالي لوسائل الإعلام الإسرائيلية.

خلفية سطوة حيتان المال

حينما تم فتح سوق الإعلام شبه الرسمية للقطاع الخاص، كان الحديث يجري عن قطاع استثماري، قادر على جني الأرباح، خاصة وأن مجال الإعلام كان أضيق مما عليه اليوم، في مرحلة شبكات التواصل؛ إلا أنه مع استمرار تطور وسائل الإعلام، وكثرة المنافسة، بدأت أشكال متعددة من وسائل الإعلام تتلقى ضربات تؤدي إلى خسائر مالية. وأولها الصحف الورقية. ولكن الأزمة لم تتوقف عندها، حتى باتت سوق الإعلام ضعيفة، ولا يمكن أن تكون قطاعا استثماريا يحقق الأرباح، وهذا ما ساهم في عملية استبدال "اللاعبين"- المالكين، من مستثمرين بحثوا عن جني الأرباح، إلى مستثمرين يبحثون عن مراكز تأثير على دوائر الحكم، وصناعة الرأي العام، حتى بثمن خسائر بالملايين، في حين أن القطاعات الاقتصادية الأخرى للمستثمر، تحقق له عشرات ومئات ملايين الدولارات من الأرباح السنوية، مستفيدا من وسيلة الإعلام التي لديه.

وتقول "ذي ماركر" إن الكثير من المال تدفق في السنوات الأخيرة على وسائل الإعلام، وأعاد "التنفس الاصطناعي" لوسائل إعلام عديدة. وحقيقة أن أصحاب رأس المال يوظفون أموالهم بهذا الشكل، وعلى الرغم من الوضع الاقتصادي القائم في وسائل الإعلام، تعكس ظاهرة الاحتكارات في الاقتصاد الإسرائيلي، وتركيز الكثير من المصالح بأيدي عدد قليل من المستثمرين، وبالتالي فإن السيطرة على الإعلام تهدف إلى خلق حواجز، تحافظ على الكارتيلات والاحتكارات الكبرى في وجه أي منافسة محتملة.


ورأينا على سبيل المثال القناة العاشرة للتلفزيون، وشركة "ريشت" التي تدير قسما من القناة الثانية للتلفزيون، وصحيفة "معاريف"، وهذه الأموال لم يتم رصدها لأهداف استثمارات مالية ربحية. فوسائل الإعلام من شأنها أن تصبح أداة مساعدة لمنع إزالة هذه الحواجز، ولتقلل من الحماسة للمنافسة. وهذا يعني حماية مباشرة لمصالح أصحاب رأس المال، "وهذه البيئة المسممة" آخذة بالاتساع في جميع وسائل الإعلام، وشيئا فشيئا باتت متعلقة بالمتمولين فيها، أكثر من التعلق بالرسالة التي تحملها الصحافة، فهذا ما جرى في صحيفة "معاريف" التي تحتضر منذ سنوات طويلة، وهذا ما حصل في القناة العاشرة للتلفزيون منذ لحظة قيامها، وحتى أيضا صحيفة "هآرتس" حينما دخل اليها مستثمر بنسبة 20% هو الثري الروسي نفزالين، الذي تدور حلوه سلسلة من الشبهات.

ونجد حسب الصحيفة ذاتها، أنه في القطاع التلفزيوني، فإن القناتين الأكبرين، الثانية والعاشرة، واقعتان تحت سيطرة أصحاب رأس المال الكبار. فشركة "كيشت" التي تملك 50% من أسهم الشركة الاخبارية في القناة الثانية للتلفزيون، تابعة للثري دودي فيرطهايمر، الذي يملك أيضا شركة كبرى للمشروبات الخفيفة، وأسهم كثيرة في بنك "مزراحي طفاحوت"، وشركات اخرى بدرجة أقل. وإلى جانب فيرطهايمر، يملك 20% من أسهم الشركة الاخبارية الثري يتسحاق تشوفا، المحتكر الإسرائيلي الأكبر في قطاع الغاز الإسرائيلي، اضافة إلى ملكيته لشركات مالية استثمارية عديدة.

والشركة المنافسة لشركة "كيشت" في القناة ذاتها، هي شركة "ريشت"، التي يسيطر عليها عدد من كبار الأثرياء، أبرزهم عيدان عوفر، الذي له استثمارات في صناعات النفط والكيميائيات، والثري أودي أنجل، المساهم في شركات انشاء، وميخائيل شتراوس، المستثمر في قطاع المواصلات البحرية، وقطاع التقنيات العالية، وشركة شتراوس للأغذية.

بينما القناة العاشرة للتلفزيون يسيطر على أسهمها الثري يوسي مايمان، وهو أيضا مستثمر في قطاع الغاز، وغيره.

وجاء في التقرير ذاته، أن الصحافة المطبوعة قد يكون الوضع فيها أكثر تعقيدا، فعلي سبيل المثال صحيفة "يديعوت أحرونوت" وكافة المطبوعات الصادرة عن شركتها، ومعها موقع "واينت" الضخم على شبكة الانترنت، واقعة تحت سيطرة نوني موزيس، وعلى مر السنين كانت الصحيفة احتكارية ضخمة إلى حد كبير جدا، وذات تأثير كبير على الرأي العام. وكان المحامي إلداد يانيف، الذي أجرى بحثا واسعا جدا عن سوق الإعلام الإسرائيلية قبل سنوات قليلة، قد كشف في بحثه أن لدى الصحيفة مواد كثيرة عن تحقيقات، تشكل تهديدا لشخصيات وجهات مختلفة، ما يجعل تلك الجهات تتحرك لما فيه مصلحة الصحيفة. كذلك فإن الصحيفة وقفت بشكل علني إلى جانب سياسيين كانوا على علاقة طيبة مع صاحب الصحيفة، ومن أبرزهم أريئيل شارون وإيهود أولمرت وحتى أفيغدور ليبرمان.

إلا أن قوة ومكانة "يديعوت أحرونوت" بدأت بالتراجع ابتداء من منتصف العام 2007، مع بدء صدور صحيفة "يسرائيل هيوم"، السابق ذكرها، وهي صحيفة يومية مجانية بملكية الثري الأميركي اليهودي شلدون إدلسون، وهو سياسي يميني متطرف بعنصريته، والصديق الأقرب لبنيامين نتنياهو، واستثماراته الأساسية في قطاع ملاهي القمار في العالم. فقد بدأت هذه الصحيفة توزع في شبكة القطارات وفي منطقة تل أبيب الكبرى، ومنذ ست سنوات باتت صحيفة توزع في جميع أنحاء البلاد، بينما نسبة انتشارها اليومية تجاوزت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، وفق استطلاع نصف سنوي.
ولكن هذا الاستطلاع الذي كان معتمدا في قطاع الإعلام الإسرائيلي لم يعد ذا صلة، بعد أن طالب أصحاب الصحف، الفصل بين الصحف المجانية وتلك التي تباع، خاصة وأن أحد استطلاعات الرأي، توقع هبوط انتشار "يسرائيل هيوم" بنسب هائلة، بدلا من 38% اليوم، في حال بدأت توزع مباعا، بسبب مضامينها الاخبارية الضعيفة.

وكان نتنياهو قد صدّ في حكومته السابقة مشروع قانون تم اقراره بالقراءة التمهيدية من صفوف المعارضة وبعض نواب الائتلاف، كان من شأنه أن ينهي ظاهرة "يسرائيل هيوم". حتى راح بعض المحللين يتوقعون أن نتنياهو أقدم على حل حكومته السابقة، كي يمنع الاستمرار في سن هذا القانون.

اللافت أن صحيفة "ذي ماركر"، في تقريرها، لم تستثن نفسها من استعراض سطوة حيتان المال على الصحف ووسائل الإعلام، مستذكرة أن المحرر المسؤول وصاحب الصحيفة عاموس شوكن، كان قد أدخل إلى الصحيفة كشريك، مجموعة "دومونت شوابر" الألمانية، التي تستثمر في مجال الصحافة. وبعد ذلك، باع 20% من الأسهم إلى الثري الروسي ليونيد نفزالين. ورغم أن للأخير لا توجد استثمارات في إسرائيل، إلا أن شرائه لأسهم "هآرتس"، كان لغرض المحاولة لبدء التأثير على الرأي العام الإسرائيلي.

وتقول "ذي ماركر" إن صمود وسائل الإعلام، وابقاءها فاعلة، متعلقان ليس فقط بأصحاب الأسهم، وإنما أيضا بالسياسيين. ولذا نشهد الكثير من القوانين و"الاصلاحات" المختلفة في الاقتصاد، يبادر لها شخص نتنياهو، الذي ظهر في الأشهر الأخيرة، بمستوى تدخل غير مسبوق في وسائل الإعلام.

فقسم كبير من الصحافة المكتوبة والالكترونية يتم تمويله بشكل تقاطعي، وكل واحد من المستثمرين يقتطع من الأرباح التي يحققها في المجالات الاقتصادية الأساسية التي ينشغل بها، ويحولها لوسيلة الإعلام التي اشترى من أسهمها أو سيطر عليها، ومن هناك تكون الطريق قصيرة للسيطرة أيضا على المضامين.

أما أطر المضامين، بمعنى هيئات واقسام التحرير على مختلف المستويات، فقد باتت حلقة ضعيفة امام رغبات المستثمرين، الذين لكل واحد منهم قطاعات اقتصادية وساسة متعلقون بهم يقررون بالسياسة العامة وغيرهم، والتأثير على الشخصيات السياسية بشكل غير مباشر ومن خلال وسائل الإعلام، هو كنز كبير من شأنه أن يزيد من وزن وسائل الإعلام في التأثير على الرأي العام، وبشكل خاص من اجل حماية المصالح الأساسية لهؤلاء المستثمرين.

وترى "ذي ماركر" أن الحل الأمثل للتحرر من سطوة حيتان المال على وسائل الإعلام، بما يخدم مصالحهم، هو تطوير "سلطة البث" الرسمية العامة، وهي القائمة منذ مطلع سنوات الخمسين، وواجهت الكثير من الانتقادات في السنوات الأخيرة، حتى انتهت بقرار من حكومة بنيامين نتنياهو السابقة بإغلاق سلطة البث، عمليا في مطلع العام المقبل 2017، واستبدالها بشركة حكومية، مع جهاز تنظيمي جديد. وسيجري الاستغناء عن أعداد كبيرة من العاملين حاليا من صحافيين وتقنيين. إلا أنه هنا يأتي دور السياسيين، وسطوة شخص نتنياهو وحلقته المقرّبة، حتى أدى بأحد المحللين، ليكتب مقالا عنوانه الابرز: "انسوا بثّا عاما خاليا من تأثيرات السياسيين". وهذا يعني أن الإعلام الإسرائيلي المركزي، سيبقى "أسيرا"، لدى حيتان المال من جهة، والسياسيين من جهة أخرى، وفي كثير من الأحيان، فإن المصالح بين الجهتين متشابكة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات