أثار قرار المحكمة العليا الإسرائيلية شطب "قانون التسوية"، بعد إقرار عدم دستوريته، نقاشاً واسعاً في إسرائيل، ليس في مستوى الجدالات والمناكفات السياسية ـ الحزبية فقط، وإنما في المستوى القانوني ـ القضائي أيضاً وأساساً، وتحديداً فيما يتعلق بأبعاد هذا القرار وانعكاساته على "خطة الضم" التي تستعد الحكومة الإسرائيلية لتنفيذها، من ناحية، كما فيما يتعلق برسائل القرار وإسقاطاته على مسألة مركزية أخرى هي موقف إسرائيل القانوني في دائرة القانون الدولي وبعض المساعي لوضع مسألة الاستيطان برمتها، بكونها جريمة حرب، على طاولة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لا سيما في ضوء إعلان المدعية العامة في هذه المحكمة، فاتو بنسودا، (في كانون الأول الماضي) أنها قد وجدت مسوّغات قانونية لفتح تحقيق شامل في جرائم حرب محتملة ارتكبتها إسرائيل في الأراضي
(1) تتراكم على نحو متواتر، يوماً بعد يوم، مزيد من الوقائع التي تثبت بما لا يدع أي مجال للتأويل أن الذاكرة الإسرائيلية، وأساساً فيما يتعلق بموقف الحركة الصهيونية وممارساتها إزاء الفلسطينيين، تمّ تشييدها كي تكون ذاكرة للتناسي أو لتكرار ما جرى توصيفه ذات مرة بأنه الكذب الإسرائيلي المتفق عليه.
ومن هذه الوقائع الجديدة، وهي ليست الأخيرة بالتأكيد، تلك المرتبطة بالماضي الأسود لمنظمة الهاغناه، أكبر ميليشيا مسلحة صهيونية قبل نكبة العام 1948، والتي حلّت مؤخراً ذكرى مرور 100 عام على تأسيسها في أواسط حزيران 1920. وكانت الهاغناه بمثابة الذراع العسكرية لما يُعرف بـ"حركة العمل" الصهيونية التي تعتبر "الجناح اليساري" للصهيونية.
وبالتزامن مع هذه الذكرى نشر محرر الشؤون التاريخية في صحيفة وموقع "هآرتس"، عوفر أديرت، مقالة استعادت جوانب من ذلك الماضي الأسود جرى إخضاعها لفريضة التناسي، تتمثل خلاصتها في أن هناك كتابة انتقائية لتاريخ هذه المنظمة، نظراً لهيمنة "حركة العمل" في الأعوام الأولى لإقامة الدولة، حيث جرى شطب الملفات القاتمة والإبقاء على واجهة مؤلفة من بطولات ومآثر ومزاعم "طهارة السلاح".
ولا بُدّ من أن نضيف إلى أن تلك الهيمنة التي تمارس الشطب والانتقاء ما كان من الممكن أن تنجح في تشييد تلك الذاكرة من دون أن يتلازم ذلك مع التعاون من جانب الكُتّاب والباحثين حيال فريضة الصمت في السيرورة الرامية في المحصلة إلى بناء "الوعي الذاتي للمجتمع" على أساس الكذب والاختلاق.
أكدت تحليلات إسرائيلية متطابقة أن مسارعة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للبدء بإجراءات ضم مناطق من الضفة الغربية إلى ما تسمى "السيادة الإسرائيلية"، لم تكن منذ البداية نابعة فقط من رغبته في تحقيق ما يعدّه إنجازا سياسيا له قبل الغوص في محاكمته في قضايا الفساد، بل أيضا من حاجته إلى تحقيق هذا "الإنجاز" قبل أن تغرق الحلبة الأميركية في الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
يحلّ بعد ثمانية أيام، في الأول من تموز، الموعد الذي أعلنه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو للبدء بإجراءات فرض ما تسمى "السيادة الإسرائيلية" على المستوطنات ومناطق أخرى في الضفة المحتلة. وبالرغم من اقتراب الموعد، إلا أن المشهد لا يزال ضبابيا، وليس واضحا متى ستبدأ الإجراءات، وبأي نطاق. وإلى جانب تعقيدات افتراضية في أروقة الكنيست، فإن الموقف في البيت الأبيض ما زال ضبابيا، تضاف له المعارضة الواسعة في الحزب الديمقراطي الأميركي، والتي بدأت تجد لها مكانا أيضا في الحزب الجمهوري الذي يترأسه دونالد ترامب.
القرار الذي أبطل قانون التسوية كان يمكنه أن يقتصر فقط على المسألة المحدّدة التي طُرحت أمام المحكمة أي على المصادقة بأثر رجعيّ لمنازل بُنيت في المستوطنات على أراضٍ بملكيّة فلسطينيّة خاصّة أو على أراضٍ خارج التنظيم وبدون ترخيص. لكنّ رئيسة المحكمة القاضية حيوت ارتأت عرض صورة أوسع فشرعت منذ بداية نصّ القرار تصف كيف جمّدت إسرائيل سِجلّ الأراضي في الضفة الغربيّة وكيف أعلنت ما يقارب مليون دونم "أراضي دولة" وخصّصتها كلّها تقريباً للمستوطنات.
المقال المترجم المنشور هنا ليونتان هيرشفيلد بعنوان "لماذا ينجح اليمين في اختطاف أفكار اليسار؟" يشكل مثلاً على أزمة عميقة – هي واحدة من كثيرات - في السياسة الإسرائيلية من حيث المفاهيم وتعريفها. أو لنقُل على الأقل من ناحية المعنى الذي يتم إسقاطه عليها، مقارنة بتاريخ المفاهيم وسياقاتها الفكرية والاقتصادية والاجتماعية في العالم. الادعاء هناك بشأن قيام اليمين السياسي والعقائدي في إسرائيل، مثلما في مواقع أخرى، بما يشبه السطو على مفاهيم ما انفكت تشكل جزءا من الحمولة السياسية لليساريين، هو ادعاء يتخذ هنا لوناً أكثر سطوعاً.
الصفحة 224 من 611