المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أثار انتحار امرأة إسرائيلية مؤخرا عاصفة واسعة في إسرائيل وفي المجتمع الحريدي، لكن ليس داخل طائفتها الصغيرة "حسيدية غور"، التي خرجت منها. وفي سياق هذه العاصفة، جرى الكشف عن ممارسات داخل مجتمعها السابق، بإشراف حاخامين، بهدف القضاء على أحلام شبان بالتحرر من قيود مجتمعهم، ومنعهم من مغادرته.
والحسيدية هي طائفة منغلقة على نفسها، وهي بمثابة طريقة صوفية يهودية.

وكانت إستي فاينشطاين، 50 عاما وأم لسبع بنات، قد غادرت طائفتها "حسيدية غور" قبل ثماني سنوات تقريبا، معلنة تخليها عن تدينها. وبسبب ذلك، قُطعت العلاقة بينها وبين ست من بناتها، اللاتي كن قد أصبحن بالغات، وحافظت على علاقة قريبة جدا مع ابنة واحدة فقط، تامي موانتاغ، التي تخلت هي أيضا عن تدينها وغادرت الحسيدية. وانطوى تخلي فاينشطاين عن تدينها، وبالأساس انقطاعها عن بناتها، على معاناة كبيرة جدا بالنسبة لها. وألقت فاينشطاين خلال السنوات الأخيرة محاضرات، تحدثت فيها عن تجربتها، وألفت كتابا سردت فيه بالتفصيل قصة حياتها في الحسيدية، وعلاقاتها المعقدة مع زوجها، وابتعادها عن الدين، و"المخالفات" التي ارتكبتها هي وزوجها من أجل محاولة تحسين العلاقات بينهما، ومحاولة انتحار فاشلة ودخولها إلى مستشفى أمراض عقلية، ثم انقطاع العلاقات بينها وبين بناتها.

واختفت آثار فاينشطاين عدة أيام، في نهاية شهر حزيران الماضي، وبعد عمليات بحث واسعة، عُثر على جثتها في مدينة أسدود، وعليها قصاصة ورق كتبت فيها أنه "في هذه المدينة أنجبت بناتي، وفي هذه المدينة متّ بسبب بناتي".

وأثارت قصة حياتها، وخصوصا انتحارها، عاصفة في المجتمع الحريدي. وساهم في ذلك نشر كتابها، بعد وفاتها، والذي سردت فيه أساليب الرقابة على أتباع الحسيدية.

ويحاول أفراد "حسيدية غور" صد الانتقادات لطائفتهم، التي تعالت في أعقاب انتحار فاينشطاين. وقالت بناتها إنهن تألمن من مغادرة أمهن البيت وتركهن، لكن "لو حاولت أمنا استئناف العلاقة معنا، فإني لا أعتقد أن أحدا ما في الحسيدية أو في العائلة كان سيمنع ذلك. ما جرى كان أزمة عائلية، شخصية، عينية ولا تتعلق بالحسيدية أبدا". ومع ذلك أضفن أنه "يجب أن ندرك أنه في الحسيدية والعائلة أرادوا أن يحافظوا علينا كي لا نذهب في الطريق نفسها التي سارت هي فيها".

وتحدثت ابنة أخرى إلى وسائل إعلام، وقالت "أنا مؤمنة بأنه لو علمت واحدة منا بأن أمنا تعاني من ضائقة حقيقية، أو أنها بحاجة إلينا، لما أدارت أي منا ظهرها لها. لم نكن نعلم مدى صعوبة وضعها. صحيح أن أمنا حاولت مرة أو اثنتين، في السنة الأخيرة، الاتصال مع إحدى البنات عبر البريد الالكتروني ولم تتلق ردا، لكننا لم نعرف ماذا نفعل. فتركها لنا كان صعبا بالنسبة لنا. لقد مسّنا أنها غادرتنا، ولم نسامحها، ولم نُرد أن نسمع منها شيئا وربما كان هذا خطأ من جانبنا، لكن نحن كنا بنات صغار... ضميرنا يعذبنا".

يشار إلى أن "حسيدية غور" هي أكبر وأغنى حسيدية في إسرائيل. ولا تزال هذه الحسيدية تمارس حياتها من خلال سلوكيات صارمة للغاية، وازدادت صرامة في السنوات الأخيرة. ودفع هذا التطرف، وفقا لتقرير نشرته القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي، العشرات من أتباع هذه الحسيدية إلى مغادرتها، بعضهم تخلوا عن تدينهم وبعضهم الآخر بقوا متدينين ولكن خرجوا من "حسيدية غور".

وقال أحد الأتباع السابقين في "حسيدية غور" للقناة الثانية، إن القوانين والممارسات الاجتماعية المتشددة في هذه الحسيدية هي السبب المركزي الذي دفع فاينشطاين وبضع عشرات من أصدقائه إلى مغادرة الحسيدية في السنوات الأخيرة. وأضاف أنه "ليس الجميع بمقدورهم تطبيق القوانين والممارسات التي يطالبهم الحاخامون بتطبيقها، وخاصة في كل ما يتعلق بالممارسات اليومية وبالأساس كل ما يتعلق بالشؤون الشخصية بين الرجل والمرأة والمحيط العالمي الذي يعيشون فيه، والحاجة إلى الحرص على القدسية، ويكون هذا أحيانا على حساب العلاقة مع العائلة، وهو أمر غير موجود في حسيديات أخرى، تتسبب بأزمات لدى العائلات غير القادرة على التعامل معها وتتفكك".

وقالت الدكتورة نافا فاسرمان، التي أجرت بحثا معمقا حول سير الأمور في "حسيدية غور"، إن "المفهوم الذي نشأ في هذه الحسيدية يُملي فصلا صارما بين الجنسين وخاصة ما يتعلق بممارسات التزهد بين الزوجين في مجتمع لا يوجد شبيه له في المجموعات الحريدية الأخرى. وتطالب حسيدية غور أتباعها بالقيام بأمور تتجاوز ما تطلبه الشريعة اليهودية. وإذا كان هناك حضور دائم للأمور الجنسية في العالم الغربي، فإن حسيدية غور تحارب هذا الأمر تماما. فهم لا يريدون أن يلمسوا الأجواء والتوتر بين الجنسين، حتى وإن كانت الأمور لا تصل إلى حد الحظر. وبذلك يتجلى الورع. أي التزهد بشكل يتجاوز ما تلزم به الشريعة اليهودية".

وأوضحت فاسرمان أن هذه القوانين والممارسات ليست موجهة ضد النساء وإنما ضد الحياة الجنسية. "يتم تفسير الفصل بين الرجال والنساء، في أحيان كثيرة، وكأن هذا موقف ضد النساء. كما أنه يتم تفسير مطالبة المرأة بالحشمة بأنه قمع للرجال. لكن الحالة الرهيبة تثبت أن طلب الاحتشام في اللباس من الرجال متشدد أكثر".

عقاقير اليأس

دفع إقدام فاينشطاين على الانتحار وقصة حياتها المأساوية العديد من أتباع "حسيدية غور" الذين تخلوا عن تدينهم إلى التحدث إلى وسائل إعلام عن معاناتهم والمصاعب التي واجهوها أثناء وجودهم في الحسيدية وبعد أن غادروها أيضا.

وقالت شارون فولوف، التي تخلت عن تدينها، إنه "بعد أن غادرت قالوا عني إني فاجرة، متمردة وشريرة. وقالوا إني سوف أعود زاحفة، وأني سأندم على ما فعلت".

وعندما كانت فولوف شابة صغيرة، ضبط مفتشو الحشمة في "حسيدية غور" بحوزتها أسطوانة لفرقة موسيقية إسرائيلية علمانية وكتبا. بعد ذلك تزوجت وأنجبت طفلين، أصبحت تعيش مع زوجها حياة مزدوجة. كانا يظهران كحريديين متزمتين خارج البيت، لكن داخل البيت كانت حياتهما أشبه بحياة العلمانيين. وقبل ثماني سنوات غادرت الحسيدية وتخلت عن تدينها.

وقالت عن تجربتها إنه "نهضت وذهبت، تركت البيت مع ولداي، وانتقلت إلى شقة صغيرة. شعرت أنه لم يعد بإمكاني القبول بأن يدوسوا عليّ. وأني لم أعد قادرة على القيام بما يريده الآخرون وألا يسمع صوتي لأقول ما أريد قوله".

وعندما تدهور وضعها الاقتصادي، اقترحت عائلة زوجها عليها صفقة، شملت زيارة طبيب نفسي. وكتب في الاتفاق بين فولوف وعائلة زوجها أن "أي نوع من العلاج الذي يقرر الطبيب النفسي إجراءه سيُنفذ من دون أي رفض. وشارون (فولوف) تلتزم بهذا بأن ترتدي وفقا لقوانين الحشمة كما تلزم الشريعة ابنة إسرائيل. وفي المقابل ستحصل على مبلغ من المال أسبوعيا من أجل معيشتها".

وأضافت فولوف "اعتقدت أننا سنذهب إلى استشارة زوجية، وليس إلى طبيب نفسي ولم أكن أعلم أني سأتعاطى الحبوب التي تلقيتها. ولم أخطط أن أصل لاحقا إلى الحقن التي حقنوني بها عنوة لكي أخرج في نهاية الأمر مصابة بالكآبة، وفاقدة لأي محفز وللرغبة في الحياة، وبالأساس فاقدة لكل شيء".

وكشفت شهادات أشخاص تخلوا عن تدينهم عن أن هذه الأدوية التي تؤدي إلى الكآبة منتشرة في "حسيدية غور". ووفقا للقناة الثانية، فإن أي شخص يعبر عن شكوك في مواضيع الإيمان أو حيال القوانين والممارسات المتبعة في الحسيدية أو ينحرف عنها، يجد نفسه يزور طبيبا نفسيا، وأحيانا بالإمكان تجاوز زيارة كهذه من أجل الحصول على حبوب "تسيبرليكس" لعلاج الكآبة.

وقال يشاي طال، وهو أحد أتباع "حسيدية غور" سابقا، إن "الأمور تسير على النحو التالي: تحصل على وصفة دواء، وليس مهما إذا كان ينبغي أن تتعاطاها، ويذهبون لشراء الدواء ويسلمونه إلى الحاخام. والحاخام هو الذي يدفع المال مقابل الدواء، ومن هناك تصبح الطريق قصيرة جدا. ويتم توزيع هذا الدواء بكميات تجارية. إنه ببساطة نوع من القمع الفكري. وبعد أن كنت فتى سعيدا، يجعلني هذا الدواء منغلقا وحزينا ووحيدا".

وهناك حالات أخرى لا تُفرض فيها على من يتخلون عن تدينهم ويغادرون "حسيدية غور" علاجا نفسيا، ولكن يتم إرغامهم، مثلما حدث في حالة فاينشطاين، على الانقطاع عن عائلاتهم. أحد هؤلاء يدعى يهودا روزنفاسير، الذي ولد وترعرع في "حسيدية غور" في تل أبيب. وكان يشاهد الحياة العصرية في شارع قريب من الحي الذي يسكنه، حيث يحظر ممارسة حياة عصرية كهذه. ومع مرور السنين بدأ يشكك في طبيعة حياة مجتمعه المنغلق على نفسه بواسطة قوانين صارمة. وقبل أن يخرج من طائفته ذهب في المسار المرسوم لأتباع الحسيدية، بأن عرّفوه على شابة لم يعرفها من قبل، وتزوج وسرعان ما أصبح والدا لستة أولاد. وعندما قرر مغادرة الحسيدية انضم إليه ثلاثة من أولاده بينما قطع الثلاثة الآخرون أي اتصال معه. ووصف هذه الحال بأن "أولادي باعوا والدهم على مذبح الدين. ولا أعرف متى ستنفجر الأمور، لكني متأكد من أنها ستنفجر".

وحاول روزنفاسير الاتصال مع أولاده الثلاثة، وتوجه إلى حاخامين وشدد على فريضة احترام الأب. لكن أحد كبار حاخامي "حسيدية غور" أصدر فتوى قبل شهرين، قال فيها إنه لا يوجد إلزام باحترام من يحمل هاتفا خليويا ليس حلالا بموجب الشريعة، حتى لو كان الوالد. وعندها أدرك روزنفاسير أنه لن يتمكن من تحقيق شيء. وأردف "إذا فعلت شيئا بنفسي، فإن الجميع سيتعانقون، وسيأتون حاملين الزهور ويبكون، ويحترمون وصيتي الأخيرة. والأهم أنهم سيفرحون" في إشارة إلى ما حدث بعد انتحار فاينشطاين وخلال جنازتها.

المصطلحات المستخدمة:

أمنا

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات