المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"الخير الممكن: خطوط عامة لسياسة اشتراكية ديمقراطية إسرائيلية" هو عنوان المؤلّف الاقتصادي ـ الاجتماعي الجديد الذي وضعه الباحث الإسرائيلي شلومو سفيرسكي وصدر، في أوائل تموز الجاري، عن "مركز أدفا ـ معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل"، والذي كان سفيرسكي أحد مؤسسيه ويشغل فيه اليوم منصب "المدير الأكاديمي".

ويوضح سفيرسكي منطلق مؤلَّفه ـ وثيقته هذه وغايتها فيقول إنها "ولدت من رحم التطلع إلى وضع أهداف محددة لسياسة اشتراكية ـ ديمقراطية جديدة في إسرائيل". ويضيف: "عادة ما تتم صياغة مثل هذه الأهداف بمصطلحات وضع مستقبلي جديد ومختلف، إيجابيا، عن الوضع القائم. غير أن هذه الوثيقة تضع، في المقابل، هدفا محددا نراه ماثلا اليوم أيضا: دفع قدرة السكان عامة على توفير شروط الحياة الاجتماعية الأكثر سخاء المتحققة فعليا في الوقت الراهن"!

ود. شلومو سفيرسكي هو باحث وناقد في شؤون المجتمع الإسرائيلي منذ ما يزيد عن أربعين عاما، تعود بدايتها إلى زمن كانت الأكاديميا الإسرائيلية إبّانه لا تزال ترفض سماع أو تقبل أية أصوات نقدية حادة، متذرعة بأن النقد ينبغي أن يكون "بنّاء" و"من الداخل". وهو ما لم يمتثل له سفيرسكي، فـ"كشف" لعلماء الاجتماع الإسرائيليين ولعلم الاجتماع الإسرائيلي أن هنالك جماعة تسمّى "الشرقيون" تقبع في أسفل السلم الاجتماعي ـ الاقتصادي الإسرائيلي وتعاني من الإقصاء، ليس لأنها لم تُنجز عملية التحديث ولم تذوّت "القيم الغربية"، وإنما "لأنها تعاني من الاضطهاد السياسي، الاقتصادي والثقافي، من جانب المجتمع الأشكنازي الحاضن"، كما يقول البروفسور يوسي دهان، أستاذ القانون والفلسفة ورئيس دائرة حقوق الإنسان في "المركز الأكاديمي للقانون والتجارة" في رمات غان وأحد مؤسسي مركز "أدفا" (ويشغل اليوم منصب رئيس المركز).

ويقول دهان، في هذا السياق، إن سفيرسكي هو أحد علماء الاجتماع الأوائل الذين قاموا بتحليل للمجتمع الإسرائيلي بأدوات التحليل الطبقي، ووضعوا منظورا مختلفا لفهم علاقات القوة السياسية، الثقافية والاجتماعية، بواسطة الموقع الذي تحتله كل واحدة من الفئات الاجتماعية المختلفة في إطار بنية المجتمع الإسرائيلي الطبقية ـ الاقتصادية. ويشير، في مقال خاص عن هذا الإصدار نشره على موقع "هعوكتس" (اللسعة)، إلى أن سفيرسكي يواظب، منذ أكثر من 25 سنة، على تحليل المجتمع الإسرائيلي فيقدم ـ سوية مع طاقم مركز "أدفا" ـ "صورة وضع اجتماعي" سنوية مفصلة عما يحدث ويتطور في مجالات حياتية شتى: التعليم، السكن، الأجور، العمل، التقاعد وغيرها الكثير. كما يدأب سفيرسكي على إصدار تقرير سنوي خاص يضمّنه تفاصيل دقيقة عن "ثمن الاحتلال" والموارد الهائلة التي ترصدها الحكومة للمستوطنين والمستوطنات في ما وراء "الخط الأخضر"، مقارنة بالميزانيات الضئيلة التي ترصدها للبلدات العربية و"بلدات التطوير" (التي يسكن فيها يهود من أصل شرقي).

نحو مجتمع إسرائيلي عادل

يرسم سفيرسكي في مؤلفه هذا رؤية لما يسميه "المجتمع الإسرائيلي العادل" تجسّد بديلا راديكاليا للتوجه المحافظ المهيمن الذي يجعل من النمو الاقتصادي هدفا مركزيا، بل وحيدا أحيانا، للسياسة الاقتصادية ـ الاجتماعية الإسرائيلية. غير أن النمو الاقتصادي، وإن كان شرطا ضروريا، ليس شرطا كافيا لبلوغ مجتمع عادل، لأن النمو قد يتحقق أيضا في مجتمع عبوديّ. وإلى جانب هذا، كذلك السياسة (الرسمية) الرامية إلى تحقيق عمالة كاملة ـ بمعنى استغلال كل القوة العاملة بأكملها ـ وتوفير منظومة الرفاه الاجتماعي، هي سياسة محدودة في أهدافها الاقتصادية، الاجتماعية والإنسانية. وكما يثبت الواقع الإسرائيلي يمكن أن يبقى الناس يعيشون في حالة من الفقر حتى في وضع التشغيل الكامل (أي في وضع يعمل فيه الزوجان) وفي ظل منظومات الرفاه الاجتماعي التي تشترط الحقوق الاجتماعية بـ"اختبارات الإمكانيات" وتصنّف المتوجّهين إليها في خانات "عديمي المسؤولية" و"المتسكعين"، ما يثبت أنها منظومات ضارّة وغير أخلاقية.

ويرى سفيرسكي أن المجتمع الاشتراكي ـ الديمقراطي الجدير هو المجتمع الذي يعيش فيه الأفراد في ظروف كريمة. إنه المجتمع الذي يحقق فيه أعضاؤه حقهم في السكن الإنساني واللائق؛ إنه المجتمع الذي يحظى فيه أولادهم بالتعليم المناسب بتمويل حكومي، من روضة الأطفال وحتى نهاية اللقب الجامعي الأول؛ إنه المجتمع الذي تنتمي فيه غالبية العائلات إلى الطبقة الوسطى وتعيل نفسها بكرامة وليس أقل أهمية من هذا أيضا ـ وهنا يشدد سفيرسكي على العنصر الديمقراطي في رؤيته الاشتراكية الديمقراطية ـ أن تكون شريكة كاملة، وبصورة فاعلة، في صياغة وتصميم حياتها الجماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية.
لا يذكر سفيرسكي نظرية العدل الاقتصادي ـ الاجتماعي التي وضعها الفيلسوف وعالم الاقتصاد الهندي أمارْتيا كومار سِن بالإسم ولا منهج القدرات الذي أرساه سِن. وهو منهج يقترح، خلافا لنظريات العدالة التي تضع مسألة توزيع الموارد في المركز، عنوانا آخر لنظريات العدل، هو: القدرات. والقدرات هنا هي منظومة من الحريات التي تتيح تحقيق توليفة من الوظائف المختلفة ذات القيمة والأهمية بالنسبة لبني البشر. وثمة قوائم طويلة من القدرات العديدة، لكنها تشمل، بين ما تشمله، الحياة، الصحة الجسدية، اكتمال الجسم (بمعنى عدم افتقاده أعضاء أساسية)، الحواس، الخيال التفكيري، الانتماء، السيطرة على البيئة المحيطة، بما في ذلك السيطرة السياسية والسيطرة المادية. ورغم أنه لا يذكر هذه النظرية وهذا التوجه بالاسم، إلا أن سفيرسكي يكتب: "إن ظروف الحياة الاجتماعية تقاس ليس فقط بمعايير اقتصادية، مثل الدخل والغنى، وإنما بمعايير أخرى أيضا مثل التعليم، المشاركة الفعالة في الحياة الثقافية والعلمية، منالية الموارد الإبداعية والمنابر الجماهيرية، وفوق هذا كله القدرة على المشاركة في تحديد وتقرير وجهات النشاط العام، سواء في إطار المجموعة الاجتماعية أو في إطار المجتمع عامة".

خلافا للتوجهات الاشتراكية – الديمقراطية التي تنظر إلى الدولة بوصفها الجسم المركزي والوحيد، تقريبا، الذي يتعين عليه تحمل المسؤولية عن تطبيق سياسة عادلة، يوجب مسعى الدمقرطة مشاركة فاعلة من جانب الأفراد والمجموعات في المجتمع المدني، بما في ذلك النقابات المهنية أيضا. والعدالة الاجتماعية تشمل، في نظر سفيرسكي، ليس العدالة في توزيع الموارد والفرص فقط، وإنما تشمل أيضا ما يسميه "العدالة الإنتاجية" التي تتعلق بمشاركة المواطنين في إنتاج الموارد الاقتصادية ـ عنوان التوزيع العادل وغايته. وينبغي للعدالة الانتاجية أن تنعكس في دمقرطة سوق المال. هذه الدمقرطة لا تقتصر على "المسؤولية الاجتماعية الشركاتية" التي تعني وجوب أخذ سياسة الاستثمارات التي تعتمدها البنوك وشركات التأمين الكبرى اعتبارات اجتماعية، مثل الاعتبارات البيئية ومدى المساهمة في تحقيق أهداف اجتماعية مختلفة، في الحسبان، وإنما تتعداها إلى تحقيق ملكية المواطنين على صناديق التقاعد. وهذه هي السياسة التي يطلق عليها سفيرسكي اسم "تكييف الاستثمارات اجتماعيا" (Socialization of investment)، ذلك أن هذه الملكية (ملكية المواطنين على صناديق التقاعد) تعني، عمليا، سيطرة مدنية ديمقراطية على جزء مركزي وأساس في سياسة الاستثمارات في الاقتصاد الإسرائيلي وتفكيك بنيته الأوليغاركية (كونه خاضعا لسيطرة وحكم قلة من أصحاب الرساميل). السيطرة الجماهيرية، العامة، الديمقراطية على سياسة الاستثمارات من خلال الملكية على صناديق التقاعد سيترتب عليها، إلى جانب حماية حقوق المؤمَّنين، سلم أولويات اقتصادي واجتماعي مختلف يأخذ في الحسبان احتياجات السكان كلهم، عموما. وستؤدي هذه السيطرة الجماهيرية، العامة، إلى الاستثمار في ما درج علماء الاقتصاد على تسميته بـ"رأس المال البشري"، أو بلغة بسيطة جدا: ببني البشر! ولا يتطرق سفيرسكي، في مؤلفه هذا، إلى توسيع الملكية بحيث لا تقتصر على رأس المال فقط، بل تتعداه لتشمل وسائل الإنتاج أيضا، أي الديمقراطية الصناعية، ملكية العمال على المصانع ـ وهو ما كان سيؤدي إلى عملية أوسع من الدمقرطة وإلى تقليص عدم المساواة، في المقابل، بصورة كبيرة جدا.

الفجوات الهائلة بين الأغنياء والفقراء خارج النقاش!

يؤكد يوسي دهان أنه "من الصعب إيجاز هذه الوثيقة المركبة والغنية التي تبحث في مواضيع مركزية يكتب عنها شلومو سفيرسكي منذ سنين، في مقدمتها تغيير هرمية الأجور في البلاد، النقاش المحدود جدا في إسرائيل حول الفجوات العميقة في المداخيل، فيما يؤدي النقص في المعطيات إلى أن النقاش بشأن عدم المساواة في المداخيل ينحصر فقط في المداخيل من الأجور ولا يشمل المداخيل الأخرى من مصادر أخرى عديدة ومختلفة، مما يحول دون تطرق هذا النقاش إلى الفجوات الهائلة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع الإسرائيلي".

يعالج سفيرسكي، منذ سنوات طويلة، في الكتب والأبحاث والمقالات، مسائل انعدام العدل التعليمي، الفجوات العميقة في التحصيل العلمي بين اليهود والعرب، بين الأشكنازيم ("الغربيين") والسفاردايم ("الشرقيين")، الفوارق الشاسعة بين بلدات الأطراف النائية جغرافيا واجتماعيا وبين البلدات والأحياء المتمكنة اقتصاديا. ويؤكد سفيرسكي، عبر مساهماته هذه كلها، أن أحد العوامل المركزية لهذه الفجوات والفوارق يتمثل في الفصل والتضبيط (التضبيط - Tracking هو: مصطلح شائع في علم الاجتماع والتربية يعبر عن الآليات الاجتماعية المختلفة التي تُنشئ أو تحدد تصنيفات ومسارات محددة للأفراد أو للمجموعات على نحو يتيح، أو يمنع، التناضد الاجتماعي Social stratification. ويشير هذا المصطلح إلى توجيه مجموعات سكانية مختلفة إلى مسارات مختلفة بما يضع لها "سقفا زجاجيا" يؤدي بالتالي إلى إضعاف دافعيتها وقدراتها، ثم تقليص فرص اختراقها المسارات و"الحدود" التي رُسمت لها مسبقاً!) – والقصد الفصل والتضبيط بين المجموعات المختلفة من الطلاب، ابتداء من التجميع في المدارس الابتدائية، مرورا بالفصل بين المسارات / الفروع العلمية والفروع المهنية في المدارس الثانوية، وانتهاء بالفصل بين مؤسسات التعليم العالي.

ويضع سفيرسكي في مؤلفه هذا منظورا راديكاليا لمسألة المساواة في الفرص، بينما المنظور التقدمي السائد والمعتمد في هذه المسألة هو نظام الاستحقاقراطية أو الجديروقراطية (نظام إداري وسياسي تُسند فيه التكليفات والمسؤوليات إلى الأفراد على أساس "استحقاقهم" بناء على ذكائهم وشهاداتهم ودرجة تعليمهم، والتي تقاس من خلال التقييم أو الاختبارات) الذي يقضي بضرورة تحديد نقطة بداية متساوية، بمعزل عن مميزات ومركّبات وعوامل اعتباطية، مثل الخلفية القومية، الخلفية الاثنية، الطبقة الاجتماعية والاقتصادية، وإنما الأخذ في الحسبان الموهبة والجهد فقط. ويرى سفيرسكي أنه من غير الممكن الفصل بين "الفوارق الفكرية ـ الذهنية، ظاهريا" وبين الخلفية الاجتماعية ـ الاقتصادية. وعلى هذا، فإن نظرته بشأن المساواة في الفرص هي أقرب إلى النظرة النتائجية للمساواة في الفرص والتي تقول بأن جميع الطلاب يستحقون التعلم في مدارس عامة والحصول على التعليم الأفضل نوعياً، وخاصة الطلاب الذين ينحدرون من عائلات تقبع في أدنى درجات السلم الاجتماعي ـ الاقتصادي.

الربط، المباشر والوثيق مع واقع الاحتلال

خلافا لكثيرين من الاشتراكيين ـ الديمقراطيين وقادة ونشطاء حملة الاحتجاج الاجتماعية الشعبية في إسرائيل، الذين يفضلون رفع العلم الاجتماعي ـ الاقتصادي فقط وتجاهل الغبن المترتب على الاحتلال وتأثيراته على توزيع الموارد في إسرائيل (وهو تجاهل نابع من دوافع سياسية ـ حزبية ومنسجم في "الإجماع القومي")، يحرص شلومو سفيرسكي على الربط، المباشر والوثيق، بين واقع الاحتلال في الأراضي الفلسطينية من جهة وواقع انعدام العدالة الاجتماعية في إسرائيل من الجهة الأخرى.

ويؤكد سفيرسكي، في ما يبدو أنه خيط ناظم في جميع مؤلفاته ومساهماته، أنه من غير الممكن تحقق العدالة الاجتماعية في إسرائيل من دون التطرق إلى موقعها في الشرق الأوسط، ممارساتها وأدوارها، وإلى ضرورة إنهاء الصراع الدامي بين إسرائيل والفلسطينيين خاصة، وجميع جاراتها عامة، مع التنويه أيضا بأن هذه المصالحة مطلوبة، ضرورية وحيوية، ليس من أجل إسرائيل والفلسطينيين الذين يعيشون خارج إسرائيل فقط، وإنما من أجل الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل أيضا.

المصطلحات المستخدمة:

الخط الأخضر

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات