المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

هناك الكثير من الأدبيات الإسرائيلية التي تؤكد أن العناصر التي تعمل تحت اسم "تدفيع (جباية) الثمن" منظمة إرهابية يهودية، وأنه يتعين على الحكومة الإسرائيلية اعتبار هذه العناصر بمثابة منظمة إرهابية يهودية، كما ينبغي لسائر السلطات القانونية في إسرائيل أن تعمل وتتصرف بمقتضى ذلك.

هذا ما ورد مثلاً في نطاق أعمال "مؤتمر هرتسليا السنوي الـ14 حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي" الذي عقد في أيار 2014، حيث نوقشت ورقة عمل أعدها أستاذ العلوم السياسية البروفسور دافيد نحمياس، حول النشاطات والاعتداءات التي دأبت على ارتكابها في السنوات الأخيرة مجموعات من عناصر اليمين الإسرائيلي والمستوطنين اليهود تعمل تحت اسم "تدفيع الثمن"، ضد المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم وضد أماكن مقدسة للمسلمين والمسيحيين، سواء في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 أو داخل "الخط الأخضر"، وما يترتب عليها من انعكاسات وتداعيات سلبية تضر بصورة ومصالح إسرائيل. وأوصت الورقة الجهات المنظمة لمؤتمر هرتسليا بمطالبة الحكومة الإسرائيلية بالإعلان عن المجموعة التي تقف وراء أعمال ونشاطات "تدفيع الثمن" كمنظمة إرهابية يهودية ينبغي ملاحقة ومعاقبة عناصرها بموجب ما تنص عليه القوانين الإسرائيلية.


ومما جاء في الورقة:

باشرت عناصر من اليمين الإسرائيلي المتطرف نشاطاتها في العام 2008 تحت اسم "تدفيع الثمن"، وهي تسمية تصف أساليب وطرق العمل الإرهابية التي يستخدمها هؤلاء النشطاء اليمينيون. وتشمل نشاطاتها أعمال عنف ضد فلسطينيين وممتلكاتهم، من قبيل إلقاء حجارة وإغلاق طرق وإتلاف وإحراق سيارات وحقول وأشجار ومساجد وغيرها من التعديات وأعمال العنف.

وفي السنوات الأخيرة وقعت تعديات وأعمال تخريب طالت أيضا ممتلكات تعود للجيش وقوات الأمن الإسرائيلية، كذلك وقعت اعتداءات وأعمال مشابهة استهدفت نشطاء اليسار ومواطنين عربا داخل إسرائيل، وكتبت شعارات وعبارات مسيئة إضافة إلى عمليات تخريب استهدفت كنائس ومقابر للمسيحيين في مدن مختلفة مثل القدس وحيفا ويافا وعكا.

وتجري هذه الأعمال والنشاطات بصورة عامة كرد على قيام قوات الأمن الإسرائيلية بهدم وإزالة مبان غير مرخصة في مواقع استيطانية عشوائية في الضفة الغربية، وكذلك في أعقاب وقوع هجمات فلسطينية ضد أهداف إسرائيلية.

وتهدف أعمال ونشاطات "تدفيع الثمن" بشكل رئيس، إلى الانتقام وإثارة ضجة إعلامية وخلق رد رادع، كما أنها تقع أحيانا أيضا كجرائم كراهية من دون أن يسبقها بالضرورة حادث ملموس، مثل كتابة العبارات المشينة والمسيئة على جدران الكنائس والمساجد والمقابر المسيحية والإسلامية.

في العام 2011 نشرت في وسائل الإعلام تقديرات لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) تفيد بأن نشاط عناصر "تدفيع الثمن" غيّر طابعه من نشاط عفوي إلى نشاط مخطط ومنظم في نطاق خلية إرهابية، وأن هذا النشاط يتم في شكل يراعي أساليب العمل السري وجمع المعلومات الاستخباراتية مسبقا.


تعريف الظاهرة

يشكل تعريف "تدفيع الثمن" مؤشرا مهما إلى الطريقة التي ينظر فيها الجمهور الواسع والقادة السياسيون إلى هذه الظاهرة، وكذلك إلى طرق العمل تجاه منفذي النشاطات في نطاقها. ويتحدد التعريف، وبالتالي سياسة السلطات تجاه نشاطات "تدفيع الثمن"، وطرق وأساليب تطبيق القانون وأنشطة الردع، بناء على المفهوم أو المنطلق الأيديولوجي والاعتبارات السياسية. وعلى سبيل المثال فإن التشخيص أو التعريف المتهاون للظاهرة، أو مثلا وصف عناصر اليمين المنفذين لهذه النشاطات على أنهم مجرد "أعشاب ضارة" أو الوصف الرومانسي "شبيبة التلال"، يولد حالة من التغاضي، أو "التشجيع الضمني" لدى مسؤولين في مؤسسات الحكم وزعماء وحاخامين متنفذين في صفوف اليمين والمستوطنات الذين يتبنون وجهة نظر دينية- مسيانية. وعلى سبيل المثال فقد وجه الحاخام إسحاق شابيرا، أحد الزعماء الروحيين لمجموعة "تدفيع الثمن"، دعوة علنية إلى الرد والثأر بقوله "إذا أصيب شخص- يهودي- ما في مكان معين، ينبغي الرد والانتقام في كل مكان". يذكر أن الحاخام شابيرا كان قد وضع بالاشتراك مع الحاخام يوسف أليتسور، وكلاهما يترأسان مدارس دينية في مستوطنة "يتسهار" إلى الجنوب من نابلس، كتاباً تضمن الشرائع والفتاوى الدينية التي تحض على قتل "الأغيار" سواء في زمن الحرب أو السلم.

من جهته اتهم رئيس "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان في منشور ظهر في 25/5/2014 على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، وسائل الإعلام الإسرائيلية بتضخيم ظاهرة "تدفيع الثمن". وقال: "يجب القول بوضوح إن هذه الظاهرة قائمة فقط بسبب القوة الدافعة التي يعطيها لها صحافيون كبار يتماثلون، حتى وإن لم يكن صراحة، مع معسكر اليسار، فهم يذكون هذه الظاهرة بشكل مقصود بغية إسناد إدعاءاتهم ضد اليمين، وموقفهم الأيديولوجي المناوئ للمشروع الاستيطاني".

ووصف زعماء أحزاب الوسط واليسار وعدد من مراكز الأبحاث الإسرائيلية، نشاطات "تدفيع الثمن" بأنها من تدبير منظمة إرهابية يهودية. واستنكر رئيس الدولة (السابق) شمعون بيريس هذه الأعمال، خاصة كتابة الشعارات المسيئة على جدران الكنائس والمساجد، وقال إنه "لا يجوز التسليم بوجود هذه الظاهرة، فهي تناقض روح وتعاليم اليهودية التي تنهى عن المساس بمقدسات شعوب وديانات أخرى، كما أنها تلحق الضرر بدولة إسرائيل". كذلك وصف رئيس الكنيست السابق (الرئيس الحالي للدولة) رؤوفين ريفلين أعمال "تدفيع الثمن" بأنها إرهاب يهودي. وقال: نشاهد في السنوات الأخيرة تعديات على ممتلكات عربية في نطاق هذه الظاهرة التي تشكل إرهابا ليس إلا. وأضاف: "هذا إرهاب يهودي، ولا مجال لوصفه بتسمية أخرى".

في المقابل، وصف المجلس الوزاري السياسي- الأمني المصغر ظاهرة "تدفيع الثمن" بأنها "تنظيم غير مسموح"، وهو، حسب اعتقادي، وصف عديم المحتوى، سواء من حيث صلاحيات السلطات في تطبيق القانون بطرق فعالة، أو من حيث الردع، حتى أن نشطاء اليمين المتطرف، ومن ضمنهم إيتمار بن غفير، الذي يمثل أحيانا مشبوهين بتنفيذ أعمال "تدفيع الثمن"، أعربوا عن ازدرائهم لقرار المجلس الوزاري الذي قال عنه بن غفير بأنه "نكتة.. وخطوة تظاهرية موجهة بأكملها لوسائل الإعلام، لكنها لا تستند إلى أي أساس".

انعكاسات


مما لا شك فيه أن لسلوك "تدفيع الثمن" الإرهابي، ولعدم التطبيق الحازم للقانون، وعدم وجود سياسة رادعة جلية وناجعة، انعكاسات خطيرة، سواء على الصعيد الداخلي- الدولاني، أو على الصعيد الدولي.

على الصعيد الداخلي- الدولاني، تتجلى هذه الانعكاسات:
أولا، في المس بصورة خطيرة بالديمقراطية، التي يشكل فيها القانون والنظام الأساس الضروري المتفق عليه للحياة المشتركة في المجتمع، والمس بمبدأ المساواة أمام سلطات القانون. وقد تولد موقف لدى الكثيرين من المواطنين مؤداه أنه لو كانت أعمال الإرهاب منسوبة إلى عرب لكانت أجهزة الأمن والسلطات الإسرائيلية قد ألقت القبض عليهم قبل فترة طويلة.. وهذا بالإضافة إلى المس بمبادئ وقيم التسامح وكرامة الإنسان وتعظيم مظاهر الكراهية تجاه الغرباء والرموز المقدسة للمسيحيين والمسلمين.

ثانيا، في تصعيد الوضع والتوتر في المناطق الفلسطينية (المحتلة العام 1967). وقد صرح القائد العسكري السابق لمنطقة "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) الجنرال نيتسان ألون، بعيد إنهائه لمهام منصبه، بأن نشاطات "تدفيع الثمن" التي تقوم بها أقلية متطرفة "يمكن أن تؤدي إلى تصعيد واسع وكبير في الوضع الأمني في يهودا والسامرة" مشيرا في الوقت ذاته إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لم تنجح في منع الظاهرة واعتقال منفذي أعمال واعتداءات "تدفيع الثمن".

ثالثا، في تعميق الشرخ اليهودي- العربي داخل "الخط الأخضر". وقد جرت في أعقاب أعمال واعتداءات "تدفيع لثمن" مظاهرات احتجاج واسعة شارك فيها الآلاف من سكان حيفا والقدس وعكا وبلدات وادي عارة. فضلا عن ذلك تولد الظاهرة خطر نشوب حرب دينية، وتحويل النزاع من نزاع إقليمي إلى نزاع ديني أيضا.

على الصعيد الخارجي، يمكن أن تظهر انعكاسات سلبية تتمثل في تعزيز الصورة السلبية لإسرائيل في نظر الرأي العام العالمي، ومن ضمن ذلك في دول صديقة لإسرائيل، وإلحاق ضرر شديد بالدعاية الإسرائيلية، وتوجيه انتقادات للحكومة والسلطات في إسرائيل إزاء تقاعسها عن التصدي لهذه الظاهرة.

وعلى سبيل المثال فقد تطرقت وزارة الخارجية الأميركية في تقرير إجمالي صدر في نهاية العام 2013، إلى نشاطات "تدفيع الثمن" مشيرة إلى أن هذه النشاطات امتدت من الضفة الغربية إلى داخل إسرائيل. وأكد التقرير أن الاعتداءات التي يقوم بها المستوطنون اليهود ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم، وضد الكنائس والمساجد في الضفة الغربية، تمر من دون معاقبة أو محاكمة الضالعين في ارتكاب هذه الأعمال.
كذلك فقد أثارت الظاهرة انتقادات لإسرائيل من جانب هيئات ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة.

وقد حذر تقرير صدر في العام 2010 عن مكتب تنسيق النشاطات الإنسانية التابع للأمم المتحدة من أن قرابة ربع مليون فلسطيني يقطنون في 86 بلدة وقرية، سيكونون عرضة لاعتداءات عناصر "تدفيع الثمن" إذا ما قررت إسرائيل إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية.

إلى ذلك فإن أعمال ونشاطات العناصر اليمينية المتطرفة يمكن أن تدفع منظمات دولية مختلفة إلى المطالبة بتدخل دولي لحماية السكان الفلسطينيين، فضلا عما تثيره هذه الظاهرة من استياء وانتقادات في صفوف زعماء بعض الجاليات اليهودية في العالم. وعلى سبيل المثال فقد انتقد أبراهام فوكسمان، مدير الشعبة العالمية للرابطة ضد التشهير، تسامح وتغاضي السلطات الإسرائيلية عن أعمال "تدفيع الثمن" معبرا عن استنكاره الشديد لهذه الأعمال والاعتداءات "التي تستهدف أيضا أماكن دينية مقدسة للمسلمين والمسيحيين". وقال إن "هذه الأعمال الآثمة تتناقض مع القيم اليهودية" داعيا إلى اعتقال العناصر التي تقف وراءها سواء على مستوى التحريض أو على مستوى التنفيذ.

أخيرا فإن ظاهرة "تدفيع الثمن" تضر بصورة إسرائيل لدى طوائف ومجموعات مسيحية في العالم تؤيد وتساند دولة إسرائيل.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات