المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لوحظ في الآونة الأخيرة أن ثمة تركيزاً على الموضوع الفلسطيني في تعليقات المحللين الإسرائيليين على الرغم من سعي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى تسليط كل الاهتمام على الملف النووي الإيراني.

وداخل هذا التركيز قال زلمان شوفال، وهو سفير إسرائيلي سابق في واشنطن، في مقال نشره في صحيفة "يسرائيل هَيوم"، إن الدبلوماسية الإسرائيلية تقف في الوقت الحالي أمام اختبارين: الاتفاق النووي مع إيران والموضوع الفلسطيني.

وكتب شوفال: تقف إسرائيل أمام اختبارين دبلوماسيين مصيريين سيكون لهما انعكاساتهما على العلاقة مع الولايات المتحدة. الاختبار الأول هو الاتفاق النووي مع إيران الذي سوف يُحسم في الأسابيع المقبلة، والثاني من بعده الموضوع الفلسطيني.

وأضاف: في الأشهر الأخيرة طُرحت تقديرات مختلفة بشأن ما إذا كان الرئيس باراك أوباما سيرغب في المخاطرة بإمكانية فشل جديد في الموضوع الفلسطيني، سيلقي بظلاله على ما يعتبره الإنجاز السياسي الأبرز لولايته، أي الاتفاق مع إيران. لقد كتب أهرون ميلر الذي عمل عشرات السنوات مع الإدارات الأميركية المختلفة في مجال شؤون الشرق الأوسط، مقالاً في صحيفة "واشنطن بوست" قال فيه: "إن الرئيس حذر حيال احتمال فرصة التوصل قبل نهاية ولايته إلى الوضع الدائم المتعلق بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، لكن لا يعني ذلك أنه ووزير الخارجية تنازلا تماماً عن الدفع قدماً بهذه الفكرة حتى لو أدى هذا الأمر إلى مزيد من التوتر مع رئيس حكومة إسرائيل".

إن أقوال ميلر والتصريحات المختلفة لدبلوماسيين أميركيين وأوروبيين، ليست منفصلة عن التحرك الفرنسي برئاسة وزير الخارجية لوران فابيوس في الموضوع الفلسطيني. وقد مر هذا التحرك بمراحل مختلفة. ففي البداية أعلن فابيوس أن فرنسا ستطرح قراراً جديداً على مجلس الأمن في الأمم المتحدة يحل محل القرار 242 العائد لسنة 1967 (قرار لا يطلب من إسرائيل الانسحاب من جميع المناطق ويربط الانسحابات بضمان حدود آمنة). ويمكن افتراض أن هذا الأمر قد جرى بالتنسيق مع الولايات المتحدة، على الأقل في ما يتعلق بالخطوط العامة للاقتراح لأن الفرنسيين فهموا أنهم إذا لم يفعلوا ذلك سيصطدمون كما في الماضي بالفيتو الأميركي. المرحلة التالية كانت زيارة فابيوس إلى القدس ورام الله، والتي أوضحت حكومة إسرائيل خلالها أنها ستواصل معارضتها لكل خطوة تفرض عليها فرضاً وتتعارض مع مبدأ المفاوضات المباشرة من دون شروط مسبقة وتتوجه نحو إقامة دولة فلسطينية خلال 18 شهراً كحقيقة منتهية.

والرد الفلسطيني على المبادرة كان أقل وضوحاً. فلقد شعر الفلسطينيون بالارتياح حيال مضمون المبادرة الفرنسية ورأوا فيها إنجازاً لإستراتيجيتهم الدولية ولامتناعهم المتواصل عن إجراء مفاوضات حقيقية مع إسرائيل. لكنهم كعادتهم رفعوا الثمن: الانسحاب إلى خطوط 1967 من دون تبادل أراض؛ القدس الشرقية كلها؛ تحويل القرار 194 غير الملزم للأمم المتحدة المتعلق باللاجئين إلى قرار ملزم؛ وقف جميع النشاطات الاستيطانية؛ إطلاق الأسرى؛ رفض مطلق للاعتراف بإسرائيل دولة يهودية؛ رفض تجريد الدولة الفلسطينية من السلاح.

وختم شوفال قائلاً: لا يمكن افتراض أن فرنسا ستقبل المطالب الفلسطينية كما هي، لكنها قد تتعهد بصياغات غامضة تكون في مصلحتهم. وحتى واشنطن فإنها لم تقرر بعد ما إذا كانت ستتعاون مع المبادرة الفرنسية، أم أنها ستتمسك بسياستها التقليدية الداعمة لمفاوضات مباشرة بين الأطراف من دون شروط مسبقة.

الخلاصات الرئيسة للانفصال عن غزة

بموازاة ذلك حفلت الصحف ووسائل الإعلام الإسرائيلية بتحليلات في مناسبة مرور عشر سنوات على خطة الانفصال عن غزة.

وقال عاموس هرئيل، المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس"، إنه عندما ننظر إلى عشر سنوات من الانفصال عن غزة، تبرز خلاصتان أساسيتان من ذلك ومن إخلاء أربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية. الخلاصة الأولى هي عدم تحقق التوقعات المتشائمة بشأن الانفصال نفسه، إذ لم يجر استخدام السلاح الناري ضد قوات الأمن، وكان العنف خلال الإخلاء محدوداً. والخلاصة الثانية هي أن توقعات اليمين بشأن المخاطر الأمنية من الوضع الجديد تحققت بأكملها في السنوات التي أعقبت الانفصال، فقد سيطرت "حماس" على القطاع، وحسنت قدراتها الإرهابية، وزادت إلى حد بعيد مدى تهديد صواريخها التي تصل اليوم إلى وسط إسرائيل.

وأضاف: انطلاقاً من هاتين الحقيقتين اللتين لا خلاف عليهما اليوم (حتى رئيس المعارضة عضو الكنيست إسحاق هرتسوغ من "المعسكر الصهيوني" قال الشهر الماضي إن الانفصال كان "خطأ أمنياً")، يستخلص كل طرف في النقاش السياسي في إسرائيل النتائج التي تلائمه بالنسبة للمستقبل. ففي اليسار هناك من يؤمن بأن النجاح في إخلاء نحو 8000 من مستوطني غوش قطيف وفي شمال الضفة يمكنه أن يدل على أن الجيش والشرطة سيكونان قادرين مستقبلاً على القيام بمهمة إخلاء نحو 100 ألف إسرائيلي على الأقل من المستوطنات المعزولة الواقعة خارج كتل المستوطنات في الضفة الغربية. وفي اليمين هم مقتنعون بأن نتائج الانسحاب من القطاع يجب أن تكون بمثابة إنذار لكل من يقع في أوهام انسحابات جديدة من الضفة.

وبرأيه فإنه خلافاً للحقائق الفعلية، هناك ما يستوجب نقاشاً إضافياً. فنجاح تنفيذ الانفصال جاء بعكس التقديرات السلبية التي سادت وسائل الإعلام وبعض أوساط الشخصيات الأمنية في الأشهر التي سبقت الإخلاء، هذا من دون الحديث عن تأكيدات الحاخامين للجمهور الديني - القومي أن "الله لن يسمح بذلك". فالتدخل الإلهي لم يحدث، والجيش والشرطة عملا بالتنسيق مع بعضهما البعض بقوة وحكمة وبطريقة سمحت بالانتهاء من مهمة إخلاء قطاع غزة خلال أربعة أيام وإخلاء شمال الضفة في يومين. وتبددت التنبؤات القاتمة بشأن استعداد عشرات نشطاء اليمين من المسلحين للهجوم على الجنود والشرطة، أو كبديل ينظمون أنفسهم للقيام بعمليات انتحار جماعية من نوع مسّادا. لكن شارون خرق خلال الانفصال عدداً من تعهداته من خلال تجاهله النتائج السلبية لاستفتاء أعضاء الليكود الذي كان هو نفسه بادر إليه. لم يكن رئيس الحكومة ديمقراطياً كبيراً، كما لم يكن حساساً حيال احترام قواعد اللعبة. والأمران الحاسمان في نظره هما ما اعتبره مصلحة الدولة، وما أظهرته استطلاعات الرأي العام من تأييد جارف لقراره الانسحاب من طرف واحد. وهكذا وجد المستوطنون أنفسهم معزولين جداً وسط الجمهور الإسرائيلي، وحتى الجهاز القضائي لم يقم بمساعدتهم.

وأضاف هرئيل: لقد كانت هذه المرة الأخيرة منذ ذلك الحين وحتى اليوم التي أخذ فيها زعيم إسرائيلي قراراً حاسماً بعيد الأمد وحرص على استكماله برغم جميع التحفظات. والزعيمان اللذان جاءا من بعد شارون، إيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو، لم يظهرا هذا القدر من التصميم في أي من قراراتهما. ولقد امتازت السنوات الخمس التي قضاها شارون رئيساً للحكومة بقرارات من هذا النوع، والتي برغم أنها كانت موضع خلاف، اتضح لاحقاً صحتها عند الاختبار التاريخي، مثل إعادة احتلال مدن الضفة في عملية "السور الواقي" سنة 2002 (التي أدت تدريجياً إلى كبح الإرهاب الفلسطيني)، وأيضاً إقامة الجدار الفاصل. ولم يكن باستطاعة شارون القيام بذلك من دون تأييد شعبي واسع. وعلى الرغم من الاحتضان المشوب بالندم الذي يحظى به اليوم الذين أُخلوا من غوش قطيف، يتعين علينا أن نقول الحقيقة، وهي أنه في اللحظة الحاسمة قبل عشر سنوات توحد المجتمع الإسرائيلي في أغلبيته وفرض بعنف قراراً صعباً على معسكر سياسي كبير جداً. لقد مر الإخلاء بسلام بصورة نسبية بسبب تضافر ثلاثة أمور: زعامة شارون؛ دعم أغلبية الجمهور (الذي لم يعتبر قط وجود مجموعة يهود بين مخيمات اللاجئين في غزة خطوة صحيحة)؛ والمستوى العالي في التنفيذ لدى الجيش والشرطة.

وقال المحلل: لقد شارك قرابة 25 ألف جندي وشرطي في تطبيق الخطة. وكانت هذه عملية ضخمة وغير مسبوقة في حجمها بالنسبة لمهمة غير عسكرية. وقد نفذت من دون إراقة نقطة دم واحدة لجندي، ومن دون استخدام حيل قذرة من أجل تحطيم المستوطنين المتحصنين داخل المستوطنات ومؤيديهم نفسياً. وتولى الجيش المهمة بعد تخطيط طويل ومنظم جرى خلاله التوصل إلى شعار منطقي وملائم: "حزم ورأفة".

لقد تخوف الجيش من سيناريوهين يمكن أن يؤذيا استكمال الإخلاء: عدوانية فائضة من جانب الجنود ورجال الشرطة حيال معارضي الإخلاء؛ أو زيادة في التماهي من قبلهم مثل أن ينفجر جنود وجنديات بالبكاء بدلاً من القيام بمهمتهم. لم يحدث أي من الأمرين، فالتخطيط المسبق، والإعداد النفسي الدقيق، وإلقاء الجزء الأكبر من مهمة الإخلاء على رجال شرطة وجنود نظاميين في الجيش بدلاً من فرق قتالية نظامية، والتسامح النسبي الذي ظهر حيال ظاهرة رفض الخدمة، كل ذلك أدى إلى تنفيذ الخطة من دون عقبات تقريباً.

وفي رأي ضابط قام بالجزء الأكبر في عمليات التحضير للإخلاء: "يؤسفني أن أقول ذلك، ولكن الانفصال كان واحدة من المهمات الكبرى التي قام بها الجيش كما ينبغي. لقد كانت هذه مهمة قذرة ولا سبب لتوزيع ميداليات بعدها، لكن الجيش والشرطة قاما بواجبهما".

هل يمكن تكرار تجربة الانفصال والإخلاء بسهولة في الضفة الغربية؟

لكن هذا لا يعني في قراءة هرئيل أنه يمكن تكرار التجربة بسهولة في الضفة الغربية، فهناك مع اتفاق أو بقرار انسحاب من طرف واحد، سيكون المطلوب إخلاء أكثر من 100 ألف شخص من عشرات المستوطنات والبؤر الاستيطانية شرقي جدار الفصل. ومن الصعب رؤية الزعامة الإسرائيلية (وإلى حد بعيد الفلسطينية أيضاً) تتوصل إلى قرار بشأن اتفاق دائم أو انسحاب جزئي. كما أن الشعور الديني الأيديولوجي لدى الجمهور إزاء يهودا والسامرة (الضفة الغربية) بأنها جزء من الوطن أقوى بكثير.

بيد أن العنصر الأكثر إشكالية لا يكمن في الأيديولوجيا الموجودة في اليمين، بل في التغير الذي طرأ على الجيش الإسرائيلي نفسه. فبعد حوالي سنة على أزمة حادة أعقبت الانفصال، عادت الأغلبية الساحقة للمعسكر الصهيوني – الديني إلى الخدمة بصورة كبيرة في الجيش. والمشكلة في الإخلاء المستقبلي ليست مرتبطة بقادة الألوية من المتدينين الذين لهم ولاء مطلق للمؤسسة العسكرية، بل مرتبط بالقادة الصغار. فعندما يراوح معدل الشباب المتدين في دورة ضباط سلاح البر خلال سنوات بين 30% إلى 40%، فثمة شك كبير في نجاح تنفيذ عملية إخلاء من هذا النوع، على افتراض أن الجيش سيقوم بالجزء الأكبر من المهمة.

وتساءل هرئيل: هل سينتج من الانسحاب من 90% أو أكثر من أراضي الضفة، خطر أمني أكيد كما يدّعي الناطقون بلسان اليمين من نتنياهو ومن هم إلى اليمين منه؟ إن هذا سيكون من دون شك مجازفة القرن إذا لم نأخذ في الحسبان القنبلة الإيرانية. وفي المقابل، تطرح في الكفة الثانية تساؤلات لا تقل دراماتيكية بدءاً من مستقبل إسرائيل كدولة ديمقراطية وصولاً إلى مكانتها الدولية. ثمة شك مثلاً في أن إسرائيل كانت ستحظى بدعم نسبي من الدول الغربية العظمى في حربها على لبنان أو في المعارك العسكرية التي شنتها منذ ذلك الحين ضد غزة، لو لم تظهر حسن نياتها من خلال استعدادها لإخلاء المستوطنات في القطاع. ومن الواضح أن أي إخلاء لا بد من أن يكون مدعوماً بأوسع غطاء أمني تستطيع إسرائيل تحقيقه إذا أرادت الزعامة الإسرائيلية المستقبلية (وفي هذه المرحلة المتخيّلة) أن تحشد تأييداً شعبياً كافياً لذلك.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات