المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

عوامل كثيرة ستحسم مصير حزب "كديما" الشاروني: * حتى الآن شكل شارون قيادة الحزب وهو بحاجة إلى بناء جهاز تنظيمي * شارون سيكون ضعيفا في الصراع على صوت أبناء الطوائف الشرقية اليهودية، التي ستتقاسمها أحزاب "العمل" و"الليكود" و"شاس" * الفساد ومعسكر اليمين المتطرف سيلاحقان شارون ويحرجانه في الحملة الانتخابية *

كتب برهوم جرايسي:

تتسارع في هذه الأيام "الاهتزازات الارتدادية"، التي أعقبت مفاجأة انتخاب عمير بيرتس رئيسا لحزب "العمل" الإسرائيلي، التي بدورها قادت إلى تقديم موعد الانتخابات البرلمانية، وإسراع رئيس الحكومة الإسرائيلية، أريئيل شارون، في الانشقاق عن حزبه الليكود، وتشكيل حزب جديد، "كديما" (إلى الأمام)، يضم شخصيات سياسية وعسكرية وأمنية، موجها بذلك ضربة قاصمة لليكود، على الأقل حسب ما تشير إليه استطلاعات الرأي حتى الآن.

وإذا ما اعتبرنا أن جملة هذه الأحداث هي "مفاجآت"، فإن أمرا أساسيا واحدا كان متوقعا وطبق على أرض الواقع، هو أن الخارطة الحزبية في إسرائيل لم تعد على ما كانت عليه قبل تطبيق خطة إخلاء مستوطنات قطاع غزة، وما هذه الهزات إلا نتيجة حتمية للصراعات الداخلية في الأحزاب الكبيرة، وأيضا بين أقطاب الحلبة السياسية المختلفة.

ومن يتابع سير الأمور في إسرائيل يلاحظ أن أي خطوة، مهما كان حجمها أو وزنها وأهميتها، كفيلة بإحداث ضجة سياسية، قد تنعكس على استطلاعات الرأي، التي باتت شبه يومية في الأسبوعين الأخيرين، مما حدا ببعض المراقبين إلى التشكيك في ثبات هذه النتائج حتى الانتخابات البرلمانية التي ستجري بعد أربعة أشهر، في نهاية آذار/ مارس.

ولهذا فإن السؤال الأبرز الذي يدور حول حزب شارون الجديد، "كديما" هو: هل هو تجربة إضافية من سلسلة تجارب سابقة في الخارطة السياسية في إسرائيل، أم أنه حالة فريدة من الصعب توقع مصيرها مستقبلا، على الأمدين القريب والبعيد؟.

العوامل التي تحكم مصير "كديما"

حتى الأيام الأخيرة تمنح استطلاعات الرأي تفوقا كبيرا لحزب "كديما"، بحصوله على ما بين 32 إلى 34 مقعدا، من أصل 120 مقعدا، فيما يحصل حزب "العمل" في هذه الاستطلاعات على ما بين 26 إلى 28 مقعدا (21 مقعدا حاليا)، ويحصل حزب الليكود على ما بين 13 إلى 15 مقعدا (40 مقعدا حاليا، بمن فيهم جناح شارون المنشق).

وهنا تجدر الملاحظة أنه حين تم انتخاب عمير بيرتس رئيسا لحزب "العمل" منحته استطلاعات الرأي حتى 29 مقعدا، ومنحت حزب شارون، الذي كان حينها في إطار فرضية، 30 مقعدا. وعمليا فإن استطلاعات الرأي تراجعت بالنسبة لحزب "العمل" حتى 10%، ولذا فإن بعض المراقبين يتوقعون تحسنا معينا لليكود في استطلاعات الرأي بعد أن ينتخب رئيسه ويشكل قائمته الانتخابية. وعمليا من السابق لأوانه الحكم على نتيجة حزب "كديما" ومدى الضرر الذي بإمكانه أن يسببه لحزب الليكود.

ومن المعروف إن استطلاعات الرأي، ومعها وسائل الإعلام، تخلق جوا عاما في الساحة السياسية، وتساهم في إحداث تقلبات في جمهور المصوتين.

وحتى الآن فإن الحديث عن "كديما" يجري على مستوى القيادة، وتجميع "نجوم" سياسية وعسكرية وأمنية، لكن هذا الحزب لم يصل بعد إلى الكوادر. وحسب المعلومات الصحفية فإن فروع حزب الليكود لا تزال تتخبط في حسم مسألة ولائها، ولأي من الطرفين ستلجأ، ويحاول شارون الوصول إلى شخصيات ميدانية مركزية في الليكود لضمها إليه، وبمدى نجاحه في هذه المهمة فإنه يؤمن نجاحه في الانتخابات البرلمانية.

فاستطلاعات الرأي تسأل الناس وهي في بيوتها عن نواياها، لكن في يوم الانتخابات فإن كل حزب بحاجة إلى الجهاز التنظيمي القوي الكفيل بتحقيق النتيجة التي تتنبأ بها استطلاعات الرأي للحزب. وتزداد المهمة صعوبة حين يكون الحديث عن أكثر من 27% من المقاعد، والتنظيم هو عامل أساسي حاسم في يوم الانتخابات وهو 50% من مجمل العمل الانتخابي خلال الحملة الانتخابية.

وتدخل في إطار التنظيم، أيضا، السيطرة على مقاولي الأصوات، الذين بإمكانهم تجنيد آلاف الأصوات لمن يدفع. وهذه ظاهرة من معالم الفساد الانتخابي المنتشرة في أوساط عديدة في إسرائيل، خاصة بين الشرائح الفقيرة والضعيفة، وبالأساس لدى اليهود الشرقيين، وأيضا لدى المهاجرين الجديد، خاصة القادمين من دول الاتحاد السوفييتي السابق، وطبعا فإن أوساطا قليلة من العرب ليست بريئة منها.

الأمر الثاني سيتعلق بتركيبة القوائم الانتخابية في الأحزاب المركزية. وحتى الآن لا يوجد في حزب شارون الكثير من الأسماء اللامعة التي بمقدورها جذب المصوتين بشكل جارف، عدا شارون وحده، ولهذا فإنه يسعى إلى ضم شخصيات ذات ماض أمني كبير، مثل رئيس جهاز المخابرات الداخلية العامة، "الشاباك"، آفي ديختر، وغيره من ضباط الاحتياط في الجيش، في حين أن نجوم الليكود المركزيين، الذين لهم قواعد انتخابية، بقوا في الحزب. ومن هؤلاء مثلاً وزراء الدفاع، شاؤول موفاز والخارجية، سيلفان شالوم والتربية والتعليم، ليمور ليفنات، طبعا إلى جانب بنيامين نتنياهو.

والعامل الآخر الذي سيواجهه شارون في هذه الحملة الانتخابية هو العامل الطائفي، بين اليهود الشرقيين، السفاراديم، والغربيين، الأشكناز، وهو العامل الذي يصحو من جديد في كل معركة انتخابية. وما سيؤجج هذه القضية ترشيح الشرقي عمير بيرتس على رأس حزب "العمل"، هذا الحزب الذي وصف دائما بأنه حزب النخبة الأشكنازية، الذي رسخ التمييز ضد الشرقيين في سنوات حكمه التسع والعشرين الأولى لإسرائيل. وامتد النقاش الطائفي الآن إلى الحملة الانتخابية لرئاسة حزب الليكود، بترشح شاؤول موفاز، من أصل إيراني، وسيلفان شالوم، من أصل تونسي، أمام الأشكنازي بنيامين نتنياهو.

وحسب قائمة الأسماء لا توجد لدى شارون تلك الشخصية الشرقية التي بإمكانها أن تجذب أصوات أبناء الطوائف الشرقية، الذين يشعرون دوما بالغبن والتمييز ضدهم، من قبل مؤسسة الدولة الأشكنازية، حسب منظورهم. وقد يحاول شارون الدفع بالوزير مئير شطريت إلى مقدمة قائمته، لكنه ليس بوزن بيرتس أو موفاز أو شالوم، في القواعد الشعبية لدى اليهود الشرقيين.

كذلك هناك عامل آخر سيلعب دورا في الانتخابات المقبلة، وهو ملف الفساد. فشارون متورط حتى أخمص قدميه بملفات الفساد، من محاولة صديقه شراء جزيرة يونانية بطرق غير سليمة، مستفيدا من علاقات شارون حين كان وزيرا للخارجية في حكومة بنيامين نتنياهو، إلى الحصول على أموال بطرق غير مشروعة من صديقه الثري اليهودي الاسترالي سيريل كيرن، وإقامة جمعيات وهمية لتجنيد أموال بشكل غير قانوني لتمويل حملاته الانتخابية، والملف الأخير تورط فيه نجله النائب عومري شارون، وأدانته المحكمة فيه وهو ينتظر الحكم عليه.

وما من شك في أن شارون سيواجه حملة مضادة ومركزّة من معسكر اليمين المتطرف، الذي سيكشف الكثير من خفايا تاريخ شارون وعلاقته بالاستيطان وهذه المجموعات المتطرفة، وفي محطات معينة سيقف شارون في حالة حرجة قد يواجهها مدعيا بأنها تاريخ ماض، وأنه اثبت أن لديه برنامجًا وهو بإمكانه أن يطبقه، لكن هذه الحملة ستؤثر على قطاعات ولو كانت محدودة في جمهور المصوتين.

كذلك فإن اليسار الصهيوني سيذكّر شارون بتاريخه الدموي في محاولة لاسترجاع مصوتي أطراف اليسار الصهيوني إلى حزبي "العمل" و"ميرتس".

يضاف إلى كل هذا شكل التنظيم والاصطفافات في الأحزاب المتوسطة الحجم، والأحزاب الصغيرة، وكم سيكون بإمكانها الاقتطاع من كعكة المقاعد البرلمانية. فنحن نلاحظ في استطلاعات الرأي انهيارا للقائمة الوسطية الأبرز "شينوي" التي كانت "النجمة" الانتخابية، في انتخابات العام 2003، مع التأكد في حينه أنها كانت مجرد نيزك عابر في الفضاء السياسي سرعان ما سيخبو وهجه، وهذا على ما يبدو الذي يتحقق حاليا.

ويبقى هناك سيناريو عام خارج السياق الانتخابي هو أن تبادر حكومة شارون الحالية إلى تصعيد أمني مع الفلسطينيين، مستغلة عملية هنا أو هناك، وليس من المعروف كيف سيؤثر مثل هذا التصعيد على فرص شارون الانتخابية.

برنامج شارون السياسي

حتى الآن يعرض شارون الخطوط العريضة لبرنامجه السياسي في ما يتعلق بالحل الدائم مع الفلسطينيين، لكنه لم يدخل إلى التفاصيل الدقيقة. وفي مرحلة ما سيكون شارون مطالبا بالرد على أسئلة تطرح عليه في هذا المجال، وحينها ستتكشف أكثر نوايا شارون وتزول عنه الهالة التي فرضتها من حوله وسائل الإعلام وبعض الأوساط السياسية، المحلية والخارجية.

ولا يستطيع شارون التهرب من برنامجه الحقيقي، أمام أوساط مقربة لليسار والوسط الصهيوني، لا بل قد يتباهى به أمام أوساط اليمين الإسرائيلي. وجوهر برنامج شارون يتركز في الانسحاب من 42% من الضفة الغربية كأقصى حد، بعد تقطيع الضفة الغربية إلى قسمين مركزيين شمالي وجنوبي، بعد سلخ القدس المحتلة عن الضفة بضم مناطق نفوذ استيطانية لها، وسلخ أحياء عربية عنها، ومن ثم سيقسم القسم الشمالي من رام الله وحتى جنين إلى كانتونات، ضمن مخطط "الأصابع" الاستيطاني، وفصل منطقة غور الأردن الموسعة عن سائر أنحاء الضفة الغربية.

بمعنى آخر فإن هذا أقصى ما يسعى له شارون، وحينما لن يجد شريكا فلسطينيا يوقع معه على اتفاق كهذا فإنه سيحاول فرض حل انفرادي أحادي الجانب، بطبيعة الحال لن ينهي الصراع، لا بل سيؤججه أكثر.

الأمر المضمون في الحملة الانتخابية المقبلة هو أننا سنعرف تفاصيل أدق عن برنامج شارون، وهذا ما سيحدد طبيعة العلاقات مع الحكومة الإسرائيلية القادمة.

في السياسة الإسرائيلية، الهائجة دوما، فإن أربعة أشهر هي مدة زمنية "ضخمة" قد تحدث فيها تقلبات شديدة، وهذا تعبير عن حالة القلاقل التي تشهدها إسرائيل منذ مطلع سنوات التسعين وحتى اليوم، بفعل الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى، وما تبعها من مسار أوسلو، وحتى يومنا هذا.

ولهذا فليس مضمونا أن تبقى نتائج استطلاعات الرأي على حالها، خاصة وأن جهاز استطلاعات الرأي سجل في الأشهر الأخيرة خيبات كثيرة. فهو لم يستطع توقع فوز شارون في اللجنة المركزية لحزب الليكود في نهاية أيلول/ سبتمبر، واستبعد كليا فوز عمير بيرتس برئاسة حزب "العمل". وإذا استمرت هذه الحال فعلينا أن لا نستغرب مفاجأة فوز شاؤول موفاز، مثلا، على بنيامين نتنياهو. وفوز كهذا قد يقلب كافة أوراق شارون رأسا على عقب. وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال شبه مستحيل كما نشهد حاليا، إلا أن تجربة الأشهر الأخيرة أسقطت الكثير من "المستحيلات" في الحلبة السياسية الإسرائيلية.

أريئيل شارون أسّس الليكود وشقّه

بعد أن خلع أريئيل شارون بزته العسكرية، فور انتهاء حرب أكتوبر في العام 1973، توجه فورا إلى أقصى اليمين الصهيوني الإسرائيلي، على الرغم من أنه كان محسوبا على حزب "مباي" الحاكم (العمل حاليا). وكان شارون من أبرز، إن لم يكن أبرز، مؤسس لحزب "الليكود"، الذي وقفت في عموده الفقري حركة "حيروت" اليمينية المتطرفة بزعامة مناحيم بيغن، في حينه، وعجزت طوال 25 عاما عن الوصول إلى السلطة، إلا عبر حكومتي ائتلاف قومي خلال حربي 1967 و1973.

وكانت فكرة إقامة الليكود، من "حيروت" وأحزاب أخرى تدور في فلكه، قد أثمرت للحزب 39 مقعدا في انتخابات اليوم الأخير من العام 1973، وهو عدد مقاعد لم يحلم به "حيروت"، الذي وصل إلى أقصى حد له- 26 مقعدا- في العام 1969.

لكن شارون نقل إلى الحزب الجديد ممارساته خلال عمله العسكري، فكان دائم التمرد على قادته، ومغامرا في عملياته الاجرامية، والمجازر التي ارتكبها، وأدى هذا التصرف الى إعاقة تقدمه في الجيش وحصوله على رتبة لواء على مدى أعوام.

وتحول شارون إلى قائد التكتل المعارض الدائم لكل زعيم حزب، فهكذا كان مع مناحيم بيغن، خاصة خلال مفاوضات "كامب ديفيد" بين مصر واسرائيل، وكان من بين الوزراء والنواب في الليكود الذي تمردوا على بيغن، وفرضوا عليه قانون ضم القدس وهضبة الجولان السورية المحتلة، "كتعويض" عن الانسحاب من صحراء سيناء المصرية.

وفي العام 1983 كان شارون السبب الرئيسي الذي جعل بيغن يستقيل من منصبه رئيسا للحكومة وينسحب من الحياة السياسية، ويفرض على نفسه عزلة عن المجتمع وحالة احباط، دامت سنوات طوال، انتهت بوفاته في مطلع سنوات التسعين، على خلفية الحرب على لبنان، التي قادها شارون وبلغت ذروتها بمجزرة صبرا وشاتيلا، التي خطط لها وأشرف عليها شارون نفسه.

وحين تولى إسحاق شمير رئاسة الحزب، ومن ثم رئاسة الحكومة، تزعم شارون تكتلا مناهضا له، وفجر في العام 1984 مؤتمر الليكود، الذي درج على تسميته "مؤتمر الكراسي"، نسبة الى أن جلساته انتهت بالتراشق بالكراسي والعصي بين أنصار شارون والآخرين.

تنافس شارون مرارا على زعامة الليكود أمام شمير وبنيامين نتنياهو لاحقا، ولكنه كان يفشل ويحصل على نسب ضئيلة، بسبب تزعمه الجناح المتطرف في الحزب على مدى سنوات طويلة.

وفي سنوات حكومة إسحاق رابين (حكومة أوسلو) كان شارون القائد الأبرز لمعسكر اليمين المتطرف، الذي حرض وعارض اتفاقيات اوسلو، ولدى اغتيال إسحاق رابين، وجهت الكثير من أصابع الاتهام إلى حملة التحريض التي كان من أبرز قادتها، وقادت إلى عملية الاغتيال.

لدى انتخاب بنيامين نتنياهو في العام 1996 رئيسا للحكومة، حاول هذا استبعاد شارون عن الحكومة، ولم يسند له حقيبة وزارية، ما أدى إلى نشوب أزمة في داخل الليكود، وامتنع الوزير دافيد ليفي، في حينه، المنافس الأكبر لنتنياهو، عن تسلم حقيبته (الخارجية) طالما لم يتسلم شارون حقيبة وزارية.

وفي تلك الفترة تم توزيع كافة الحقائب الهامة، ولم يعد ما يلائم شارون، لذلك تم تفصيل وزارة البنى التحتية، وتم اقتطاع صلاحيات هامة جدا من مختلف الوزارات، مثل الطاقة والبناء والإسكان وغيرها لتصبح تحت مسؤولية الوزارة الجديدة، التي تحولت عمليا إلى واحدة من أهم الوزارات، لكن شارون لم ينس لنتنياهو ما فعله، واستمر ليكون الحلقة الإشكالية الأصعب أمام نتنياهو، خاصة في العلاقة والمفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية.

وحين سقطت حكومة نتنياهو والهزيمة الكبيرة التي مني بها الليكود في انتخابات 1999، بهبوطه الى 19 مقعدا، لم يكن أمام الليكود سوى انتخاب اريئيل شارون، بعد أن اصطف المنافس الأبرز لنتنياهو، دافيد ليفي، في قائمة حزب "العمل"، وعين وزيرا للخارجية في حكومة باراك.

ومنذ ذلك العام بدأ شارون يبني الليكود بشكل جديد ليعزز معسكره، ففتح الأبواب على مصراعيها، ليستقبل جهات يمينية متطرفة لا تصوت لليكود أصلا، وبالأساس من مجموعات المستوطنين، التي رأت بشارون طوال سنوات أشبه بزعيمها الروحي، وبلدوزر الاستيطان، وتغلغلت في هيئات الحزب بهدف التأثير على قراراته وشخصياته.

لكن شارون لم يدرك أنه بذلك سمح للأفعى أن تلتف على عنق صاحبها، فتحولت هذه المجموعات إلى كتلة تمرّد عليه، لم تفهم سياسته ولم تستوعبها، حين اختار الانسحاب من قطاع غزة، ليتفرغ لمهمة السيطرة على أكثر ما يمكن من أراضي الضفة الغربية، تحسبا لضغوط دولية قد تقف أمامها إسرائيل، مستغلا الدعم المطلق من الإدارة الأميركية الحالية.

اليوم يقرر شارون ترك الليكود كله، ليبني من جديد حزبا حسب تفاصيله، وعلى ما يبدو ينجح بذلك حاليا، ولكن منذ الآن كتب لهذا الحزب أن يكون حزبا لمرّة واحدة، مهما حقق نتائج في الانتخابات المقبلة، أو تسلم الحكم من جديد، فشارون يعرف تماما كيف يقضي حتى على حزب حاكم.

حاييم رامون المتقلب دومًا بحثا عن كرسي مخملي

كثيرة هي الأسماء السياسية والعسكرية والأمنية البارزة التي التجأت إلى حزب أريئيل شارون الجديد، ولكل منها موقعها وتميزها، ومن بينها النائب "العمالي" حاييم رامون، الذي انتقل دفعة واحدة إلى الحزب الجديد، وهي خطوة غير مفاجئة، وجرى الحديث عنها طوال الأشهر السابقة.

لكن رامون هو من الوجوه المألوفة على الساحة الفلسطينية، وفي أطر السلام الإسرائيلية، وكان من مجموعة الحمائم في حزب "العمل" لسنوات طويلة، لكنه في السنوات الأخيرة أكثر من القفز بين المنابر والمواقع السياسية المختلفة، بحثا عن المنصب الأرقى بالنسبة له، ولم تقف المواقف السياسية عائقا أمامه في هذه التنقلات، طالما أنه يسعى إلى المناصب.

ونستعرض هنا أبرز المحطات الأساسية في مسيرة هذه الشخصية السياسية، التي سيكون شارون بحاجة لأن يضعها في واجهة ومركز العمل السياسي لأي حكومة يشكلها مستقبلا.

دخل رامون الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لأول مرّة في العام 1981، حين كان ابن 31 عاما، وهو من نشيطي حزب "العمل"، بتسمياته المختلفة على مر السنين، ويعتبر من "مواليد الحزب"، ولا يزال عضوا في الكنيست حتى اليوم. في النصف الثاني من سنوات الثمانين، في ظل الانتفاضة الفلسطينية الشعبية، شكل رامون مع خمسة من زملائه في حزب "العمل"، من بينهم يوسي بيلين وعمير بيرتس، مجموعة "الستة" التي تحولت في مطلع سنوات التسعين من القرن الماضي إلى مجموعة "الثمانية"، وهي مجموعة حمائمية، بحثت عن قنوات اتصال مع الفلسطينيين، وبالأساس في الضفة الغربية، ولكنها ذهبت أيضا للخارج، وغالبية أعضاء هذه المجموعة نشطت أيضا في حركة السلام الآن.

ومع تسلم الحزب بزعامة إسحاق رابين الحكم في العام 1992، سطع نجم رامون أكثر، الذي تسلم حقيبة الصحة، وبلور قانون الصحة العام الذي في صلبه خصخصة الجهاز.

في العام 1994 قاد مع زميله عمير بيرتس معركة في داخل مؤسسات الحزب ضد قيادة اتحاد النقابات العامة، "الهستدروت"، وهي قيادة من حزبه، حولت الهستدروت على مدى عشرات السنوات إلى مرتع حزبي يعم فيه الفساد. وتمرد رامون وبيرتس على قيادة الحزب وشكلا قائمة منفصلة في الانتخابات للهستدروت في ذلك العام، ونجحت في تحقيق فوز جارف أطاح بالقيادة التقليدية للهستدروت، وبعدها عوقب رامون بطرده من صفوف الحزب، الذي عاد إليه غداة اغتيال رابين، وتنازل عن رئاسته للهستدروت وسلمها لعمير بيرتس، وعاد رامون وزيرا للداخلية في حكومة شمعون بيريس، لستة أشهر.

ونافس رامون مرة واحدة في العام 1997 على زعامة الحزب بعد استقالة شمعون بيريس، وخسر الانتخابات بحصوله على نسبة ضئيلة، وحاول رامون مرارا المنافسة على رئاسة الحزب إلا أنه كان يتراجع بعد أن تيقن من أن الجهاز القديم في الحزب سيعاقبه على ما فعله بهم في الهستدروت.

وتولى رامون في حكومة إيهود باراك في العام 1999 منصب وزير من دون حقيبة، ثم تسلم حقيبة الداخلية في الأشهر الأخيرة لهذه الحكومة.

بعد انتخابات رئاسة الحكومة في العام 2001 التي هزم فيها شارون باراك ووصل إلى الحكم، بدأ رامون يتخذ خطا سياسيا بعيدا عما كان يتبناه، وأصبح اقرب إلى الوسط الصهيوني، بعد أن كان محسوبا طيلة سنوات على اليسار الصهيوني.

وبعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في مطلع العام 2003، حاول رامون كثيرا ضم حزبه إلى حكومة شارون، إلى أن نجح بذلك في مطلع العام 2005، وحظي بمنصب وزير في ديوان رئاسة الحكومة. وخلال فترة بقاء الحزب في الحكومة تبنى رامون المواقف السياسية التي كان يطلقها شارون من دون أي تحفظ، وكان الشارح الأكبر لمواقف شارون وسياسته، خاصة في مجال الاستيطان والعمليات العدوانية ضد الفلسطينيين وكذلك فيما يتعلق بخطة "فك الارتباط"، التي لم يقل حماسه لها عن حماس شارون والمقربين منه.

لم تفاجأ الحلبة السياسية من انتقال رامون الى صفوف حزب شارون. ويعتقد مراقبون أنه ما كان رامون يقدم على هذه الخطوة لو لم يحصل على ضمانات تتعلق بمستقبله السياسي.

أبرز الانشقاقات والاصطفافات في تاريخ الخارطة الحزبية الإسرائيلية

شهدت الخارطة الحزبية في إسرائيل، على مدى عشرات السنوات، الكثير من الانشقاقات، والاصطفافات الحزبية، ولم تنته أية ولاية برلمانية من الولايات الست عشرة وإلا وكانت خلالها أو في نهايتها انقسامات وتكتلات جديدة، ولكن ليست كلها كانت ذات وزن بالقدر الذي أحدثه انشقاق رئيس الحكومة أريئيل شارون، الذي يُجمع المراقبون على أنه الانشقاق الأكبر في تاريخ الخارطة الحزبية في إسرائيل.

في ما يلي نستعرض أبرز محطات الانشقاقات والاصطفافات:

* في النصف الأول من سنوات الستين في القرن الماضي انشق رئيس الحكومة الإسرائيلية الأول، دافيد بن غوريون، عن حزبه "مباي"، ولم يكن حينها رئيس حكومة. وفي انتخابات العام 1965 خاض الانتخابات على رأس قائمة مستقلة، باسم "رافي"، التي حصلت في تلك الانتخابات على 10 مقاعد، وكان جميع أعضائها في الأصل من حزب "مباي" وانخرطت القائمة في حكومة "مباي" وسرعان ما انصهرت القائمة من جديد في الحزب الأصلي، الذي تحوّل اسمه إلى "معراخ"، وضم أحزابا أخرى.

* في العام 1973 كان الجنرال احتياط أريئيل شارون أبرز المبادرين لتوسيع صفوف حزب "حيروت" اليميني المتطرف، وضم إليه أحزابا صغيرة تدور في فلكه، مثل حزب الليبراليين، وأطلق على هذا التجمع السياسي الجديد اسم "حركة الليكود"، ونجح في رفع عدد مقاعده من 26 مقعدا في العام 1969، إلى 39 مقعدا في انتخابات 1973، لينقض على السلطة بزعامة بنيامين بيغن في العام 1977، لينهي حكما شبه انفرادي لحزب "مباي" (المعراخ) دام 29 عاما، منذ قيام إسرائيل، وأدخل إسرائيل في مرحلة جديدة.

* في العام 1977 وبعد الأزمة الكبيرة التي ضربت حزب المعراخ (العمل حاليا)، في أعقاب فضائح الفساد، والهزة السياسية التي أصابت إسرائيل في أعقاب حزب أكتوبر، تجمعت عدة شخصيات سياسية وعسكرية وأمنية، وشكلت قائمة "داش" التي حاولت التعبير عن "الوسط الصهيوني"، ولكن هذه القائمة التي حصلت على 15 مقعدا في انتخابات ذلك العام وانضمت إلى حكومة الليكود بزعامة بيغن، سرعان ما تفتتت، واختفت عن الخارطة السياسية في انتخابات 1981.

* في مطلع سنوات التسعين نجحت الانتفاضة الشعبية الفلسطينية في إحداث هزات في الخارطة السياسية الإسرائيلية، كانعكاس للتضامن العالمي مع انتفاضة الحجر، وتوحدت في العام 1992 ثلاث كتل من اليسار والوسط الصهيوني، هي "راتس" ومبام" و"شينوي"، وشكلت تحالف "ميرتس"، الذي تحول لاحقا إلى حزب بعد أن حلت الأحزاب الثلاثة نفسها، على الرغم من التناقضات الفكرية لدى بعض أطرافها، وحصلت في العام 1992 على 12 مقعدا، بعد أن كانت تتمثل مجتمعة بعشرة مقاعد في الانتخابات التي سبقتها.

وفي انتخابات 1996 هبطت قوتها إلى تسعة مقاعد، وسرعان ما استعادت مقعدا في انتخابات العام 1999، ولكنها تلقت ضربة قاصمة في انتخابات 2003 بهبوطها إلى ستة مقاعد، وتتنبأ لها استطلاعات الرأي للانتخابات القادمة إما ارتفاعًا بمقعد واحد (لتصبح سبعة)، أو خسارتها مقعدين إضافيين (لتصبح أربعة).

* في العام 1999، وعلى ضوء أزمة وانهيار حكومة اليمين برئاسة بنيامين نتنياهو، تجمعت مجموعة كبيرة من شخصيات النخبتين السياسية والعسكرية، وأقامت حزب "المركز"، بزعامة يتسحاق مردخاي. وضمت هذه المجموعة أيضا رئيس الأركان الأسبق أمنون ليبكين شاحك، وشخصيات سياسية بارزة، مثل ابنة إتسحاق رابين، داليا، والوزير الأسبق دان مريدور وزميله في حزب الليكود روني ميلو، وغيرهم.

ومع ظهور هذا المركز بدأت استطلاعات الرأي تتنبأ له بالحصول على ما بين 15 إلى 18 مقعدا، وأن يقود ترشيح مردخاي لرئاسة الحكومة إلى إجراء جولة ثانية لانتخابات رئاسة الحكومة بين إيهود باراك وبنيامين نتنياهو، لكن هذا الحزب كان حزبا فوقيا ولم يترجم نفسه في القواعد الشعبية، ولم ينجح في إقامة الجهاز التنظيمي الذي يضمن له جلب المصوتين لصناديق الاقتراع، ولهذا فقد حصل في انتخابات العام 1999 على سبعة مقاعد، بعد أن كان مردخاي قد انسحب من المنافسة على رئاسة الحكومة لصالح إيهود باراك، واعتبرت نتيجة الانتخابات خيبة أمل، سرعان ما قادت إلى تفكك في الكتلة البرلمانية، خاصة على ضوء الفضائح الجنسية التي تورط بها مردخاي. وخلال الدورة البرلمانية التي انتهت في مطلع العام 2003، انتقلت كل شخصية إلى حزبها الأصلي، ومنها من غادر السياسة كليا، وحتى اليوم.

* أيضا في العام 1999 انشق النائب أبراهام بوراز عن حزب ميرتس، فبوراز هو من حزب شينوي، الذي انبثق عن قائمة داش بعد العام 1977 ويدافع باستمرار عن مصالح كبار أصحاب رؤوس الأموال، واختلف مع ميرتس على برنامجها الاقتصادي الذي تماثل مع نهج الاشتراكية الدولية، من خلال أعضاء "مبام"، ومن أصولها التي تمتد إلى حزب "العمل".

وبحث بوراز عن نجوم سياسية وإعلامية، ولجأ إلى الصحافي اليميني البارز يوسيف لبيد، وشكلا مع نائب ثالث قائمة شينوي، لتحصل في انتخابات 1999 على ستة مقاعد، وتحولت إلى عنوان للعلمانيين الذين يرفضون قوانين الإكراه الديني، وفي هذه النقطة بالذات تحول حزب "شينوي" إلى المنافس الأخطر على "ميرتس"، العلمانية اليسارية.

واستفاد "شينوي" في انتخابات 2003 من حالة البلبلة السياسية الشديدة التي ظهرت في الساحة السياسية، بعد انهيار حكومة إيهود باراك في العام 2001 ووصول شارون إلى رئاسة الحكومة، وغياب البرنامج البديل لدى "العمل" بزعامة عمرام متسناع، الذي لفظته أمواج الحلبة السياسية الهائجة إلى خارجها نظرا لمواقفه السياسية المؤيدة لحل دائم مع الفلسطينيين على أساس مشروع بيل كلينتون. وحصل "شينوي" في تلك الانتخابات على 15 مقعدا، بمعنى أنه ضاعف قوته مرتين ونصف المرّة.

واصطلح على تسمية "شينوي" حزب "ترانزيت"، بمعنى محطة انتظار. وعلى ما يبدو فإن هذا المصطلح سيتحقق في الانتخابات المقبلة، إذ تتنبأ استطلاعات الرأي بانهيار "شينوي" ليحصل على ما بين خمسة إلى سبعة مقاعد، و"شينوي" هو المتضرر الأكبر من حزب شارون الجديد "كديما"، وقد نتفاجأ، بنسبة ضئيلة في الأسابيع القليلة القادمة، بانضمام "شينوي" كلها إلى قائمة شارون، ولكن هذا احتمال ضئيل جدا، صعب التحقق، لكنه ليس مستحيلا.

*****

يبرز مما سبق أن حالة أريئيل شارون تتميز عن الحالات السابقة بعدة جوانب، فهذه هي المرّة الأولى التي يقرر فيها رئيس حكومة وزعيم حزب حاكم الانشقاق عن حزبه الذي يقوده، وهو في مكانة قوة. كذلك فإن شارون يسحب معه عدة شخصيات تاريخية في حزب الليكود، وأبرزها إيهود اولمرت، كذلك فإن هذا أكبر وأضخم انشقاق في حزب كبير في إسرائيل ينافس على السلطة، لكن حتى الآن علمنا حجم هذا الانشقاق في القيادة ولا نعلم حجمه على مستوى القواعد.

المراهنة اليوم على شارون هي على قدرته في تشكيل جهاز تنظيمي حزبي قوي وفعال بإمكانه أن يترجم نتائج استطلاعات الرأي في صناديق الاقتراع يوم الانتخابات، وأن يتغلب على الشعور بأن هذا هو حزب لمرّة واحدة، يلتف حول أريئيل شارون وسيزول بنزول شارون عن الحلبة السياسية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات