المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
وسط الدمار في خان يونس. (أ.ف.ب)
  • كلمة في البداية
  • 856
  • أنطوان شلحت

يتفق الكثير من الباحثين والمحللين في إسرائيل على أن شهر رمضان الذي هو الشهر السادس للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من المتوقع أن يشهد تبلور عدة عوامل مؤثرة من شأنها أن تلقي بظلالها على تطورات الفترة المقبلة. وخلال ذلك ينتقي هؤلاء جزئيات وتفاصيل فيها، في الكثير من الأحيان، ما يدفع لإثارة الأسئلة العميقة التي تتصل بتلك التطورات وتشكل ملامحها المرتقبة.

وبحسب ما يؤكد البعض ترتبط العوامل المؤثرة التي يقصدونها بخمسة محاور بارزة ومهمة: الأول، محور ما توصف بأنها حرب دينية على خلفية كل ما يجري من انتهاكات إسرائيلية بحق الحرم القدسي الشريف. والثاني، محور الأوضاع الأمنية في الجبهة الشمالية مع لبنان وضرورة إيجاد حل للحرب الدائرة هناك بين إسرائيل وحزب الله على نحو يتيح إمكان إعادة عشرات ألوف السكان الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم من المنطقة الحدوديّة إما من خلال اتفاق مؤقت أو عبر مواجهة عسكرية، ووفقاً للمؤسسة الأمنية فإن الهدف الذي أعلنت أنها تضعه نصب عينيها هو إعادة هؤلاء السكان إلى منازلهم حتى شهر أيلول المقبل. والثالث، محور المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة، والذي يمكن لأي صفقة تبادل متعلقة به أن تؤدي إلى تهدئة تستمر عدة أسابيع تشمل قطاع غزة وأيضاً منطقة الحدود مع لبنان وجبهة القتال مع الحوثيين وربما مناطق الضفة الغربيّة. والرابع، محور العلاقات الثنائية بين إسرائيل والولايات المتحدة على خلفية ازدياد حدّة التوتر بين حكومة بنيامين نتنياهو وإدارة الرئيس جو بايدن إلى حدّ الصدام العلنيّ. أمّا المحور الخامس والأخير فهو المرتبط بالساحة السياسية الإسرائيلية الداخلية على خلفية الجدل الدائر، بما في ذلك داخل الحكومة نفسها، حول طريقة إدارة الحرب وأهدافها، وخطة "اليوم التالي" لها. وانضاف إلى هذا في الفترة القليلة الماضية إعلان الوزير جدعون ساعر انشقاق حزبه "أمل جديد" عن تحالفه مع حزب "أزرق أبيض" بزعامة بيني غانتس في إطار "المعسكر الرسمي"، فضلاً عن كل الجدل الدائر حول قانون التجنيد الذي يُفترض أن يبدأ بتجنيد الشبان اليهود الحريديم ضمن الخدمة العسكرية الإلزاميّة.       

لعلّ الأمر الأكثر جدة في ما يخص المحور الأخير وبالذات ما آلت إليه الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، هو قيام وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت خلال نقاش في الكابينيت السياسي - الأمني الموسّع في نهاية الأسبوع الماضي بتقديم 4 خيارات لـ"اليوم التالي" للحرب من ضمنها خيار استمرار سيطرة حركة حماس على القطاع والذي وصفه بأنه الأسوأ، وخلصت من ذلك صحيفة "هآرتس" إلى الاستنتاج بأنه يثبت أن هذه الحركة ليست منهارة بعد (17/3/2024).

وبالانتقال إلى المحور الرابع- العلاقات الإسرائيلية الأميركية- الذي شهد في الأيام الفائتة أبرز التطورات، نشير إلى أن ما استقطب الاهتمام الأكبر هو الأقوال التي أدلى بها زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، السيناتور تشاك شومر، وهو يهودي من نيويورك، يتموضع في صلب الوسط من الحزب الديمقراطي، وداعم دائم لإسرائيل، وأكد فيها أن رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو فقد البوصلة، وبات يوهم جمهوره، ويسوّق رؤية قديمة وليست منطقية، ويدفع إسرائيل نحو عزلة، ويضعها في خطر، وأنه لذلك على إسرائيل أن يكون لديها توجه جديد، وأن تتجه إلى انتخابات لأنها بحاجة إلى قيادة جديدة.  ولشومر وزن سياسي كبير جداً. كما أن ما صدر عنه من أقوال أتى عقب ازدياد مواقف الاستياء من الحكومة الإسرائيلية بين الديمقراطيين في الكونغرس، وزيادة ممارسة الضغط من جانب الرئيس بايدن على حكومة نتنياهو بسبب حجم الخسائر في صفوف السكان المدنيين جرّاء الحرب الإسرائيلية في غزة،وبعد أيام قليلة من تصريحات أدلى بها الرئيس بايدن وأكد فيها أن نتنياهو يضرّ إسرائيل أكثر مما ينفعها.

وتعقيباً على هذه الأقوال، قال الرئيس بايدن إن شومر ألقى خطاباً جيداً. وعلى الرغم من تأكيد جلّ التحليلات الإسرائيلية، ولا سيما تلك التي كتبها خبراء في شؤون العلاقات بين الدولتين، أن خطاب شومر لا يشكل سياسة رسمية لبايدن، فقد شدّدت على أنّ في أقواله وقوتها ووضوحها تغييراً وصفته بأنه كبير في العلاقات الأميركية- الإسرائيلية. والأهم، برأي البعض، أن إطلاقها جرى من على منبر مجلس الشيوخ، بعكس الملاحظات التي تخرج كتسريب من حدث معين، ولذا فهي حلقة أُخرى في منظومة العلاقات المتضعضعة، وربما تنطوي على مؤشر إلى أن إدارة بايدن لم تعد ترى في بنيامين نتنياهو حليفاً للولايات المتحدة، وإن ما زالت ترى في إسرائيل حليفاً لها. ويجوز أنها دليل على فهم الإدارة الأميركية جيداً أن نتنياهو ربط مصيره السياسي باليمين الإسرائيلي المتطرّف الذي يريد استمرار الحرب، واحتلال قطاع غزة، وبناء مستوطنات يهودية هناك، حتى لو كان الثمن التخلي عن المخطوفين. 

هذه التطورات طرحت على نار حامية من الجدل مسألة العلاقة القائمة بين إسرائيل والولايات المتحدة على مرّ الأعوام وهل هي قائمة على أساس التبعيّة أو النديّة. كما أنها طرحت سؤالاً ما زال من دون جواب حاسم بشأن انعكاس هذه التطوّرات على احتمالات تغيير الموقف الأميركي الذي ما زال مؤيّداً للحرب على غزة وأهدافها الرئيسة. والتقديرات السائدة هي أنه على الرغم من التصعيد الذي يطرحه خطاب شومر فإنه لا يزال خطاباً صادراً عن سيناتور، وبالرغم من أهميته فهو ليس تغييراً في السياسة العملية من طرف إدارة بايدن.

والأمر الأكثر جلاءً أن ما حدث جعل جيشاً من المحللين والخبراء يعيدون تأطير هذه العلاقات الثنائية ويعيدونها إلى أصولها الثابتة، من خلال قراءة التحوّلات التي طرأت عليها ولكنها لم تبدّد تلك الأصول. وتركّز جانب كبير من هذا التأطير في الردّ على تعقيب حزب الليكود وتشديده على أن إسرائيل ليست محميّة أميركية ولا جمهورية موز، ما حدا بالنائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي والباحث الكبير في "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب حالياً، د. تشاك فرايليخ، إلى تأكيد أن إسرائيل لا تزال محميّة أميركية وستظلّ كذلك حتى إشعار آخر. 

وتساءل فرايليخ، في إطار مقال نشره في صحيفة "غلوبس" الإسرائيلية يوم 16 آذار الحالي: هل بإمكان إسرائيل الاستمرار في البقاء من دون الولايات المتحدة؟ وأضاف: الجواب سلبي على ما يبدو. إن تبعية إسرائيل للولايات المتحدة هي مسألة وجودية وليست أقل من ذلك. وسبب هذه التبعية يعود بالأساس إلى المساعدات الأميركية لإسرائيل التي تشكّل نحو 3 بالمائة من الميزانية الوطنية فقط لكنها في الوقت عينه تشكّل نحو 20 بالمئة من الميزانية الأمنيّة، ونحو 40 بالمائة من ميزانية الجيش الإسرائيلي، وتقريباً كل ميزانية شراء الأسلحة والذخيرة. وليس مبالغة القول إن أي دولة في العالم باستثناء الولايات المتحدة غير مستعدّة لأن تزوّد إسرائيل بوسائل قتال بالكمية والنوعية المطلوبة حتى لو دفعت أثمانها عدّاً ونقداً. ومن دون وسائل القتال الأميركية يصبح الجيش الإسرائيلي جيشاً أجوف.

وبرأي فرايليخ، القيمة المالية لهذه المساعدات الأميركية لا تعتبر الأمر الجوهري في هذا الصدد، وهو ما ثبت بالملموس خلال الحرب في قطاع غزة؛ فـ"ليس فقط أننا كنا بحاجة إلى مساعدات طارئة في وسائل القتال وإلى تغطية دولية في مجلس الأمن، بل اضطرت الولايات المتحدة أيضاً إلى إرسال حاملتي طائرات كي تردع إيران وحزب الله وكي توفّر على إسرائيل خوض مواجهة متعددة الجبهات يمكن أن تتطوّر إلى حرب إقليمية".

وختم فرايليخ قائلاً: "يمكن للمصدر السياسي الإسرائيلي الرفيع (الذي يبدو أنه نتنياهو نفسه) أن يصرّح بملء الفم أن إسرائيل ليست محميّة أميركية، غير أن الواقع القائم ما زال يثبت العكس تماماً"!

ويتفق مع هذا الرأي رئيس "مركز الأمن القومي" في جامعة حيفا، البروفسور بيني ميلر، الذي أكد للصحيفة نفسها ("غلوبس"، 17/3/2024) أن إسرائيل لا يمكنها أن تستمر في البقاء وحدها لكونها بحاجة إلى مساعدات اقتصاديّة وإلى تغطية في الساحة الدولية من جانب دولة عظمى. وهذه الدولة العظمى لا يمكن أن تكون سوى الولايات المتحدة، كون الصين وروسيا دولتين غير شريكتين لإسرائيل، وكون أوروبا في معظمها نقدية حيال السياسة الإسرائيلية ولديها حساسية خاصة في المجال الإنسانيّ. وهذا التوجّه الأوروبي يغلب إلى درجة كبيرة على سياسة كل من أستراليا وكندا، وبذا لا يبقى أمام إسرائيل سوى الاعتماد على الولايات المتحدة.

إن أبرز ما تبيّنه هذه المواقف هو أن العلاقات بين إسرائيل والولايات المتحدة، كما برهنت على ذلك الوقائع المرتبطة بالحرب الحالية على قطاع غزة، هي عنصر يستحيل عدم أخذه في الاعتبار لدى تحليل مآلات الحرب وإسقاطاتها السياسية المستقبلية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات