المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

 

"إرهاب خلف مقود السيارات: ازدياد العنف على الشوارع".. كان من اللافت أن تورد هذا العنوان الصارخ صحيفة "يسرائيل هيوم" (8 حزيران 2017)، إحدى أكثر الصحف الإسرائيلية يمينية. بل إنها الصحيفة التي ترى فيها أوساط إعلامية واسعة ليس أكثر من نشرة عديمة المعايير المهنية، وظيفتها الرئيسة خدمة مصالح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. فمن يستخدم مفردة "الإرهاب"، السياسية المشحونة جداً في الرأي العام الإسرائيلي، ضمن سياق عنف الشوارع، يؤكد ربما من حيث لا يدري مدى ارتباط السياسة بالعنف الداخلي، والذي يشكل الشارع أوسع مسرح له.

 

الصحيفة، بوصفها بوقاً لأكثر العناصر والجهات الرجعية في المجتمع الإسرائيلي، تنفي وتنكر عادة ارتفاع منسوب العنف بسبب الأحوال والاجواء والممارسات السياسية والاقتصادية، لكنها تعود هنا لتعترف بكلماتها أن العنف يتسرب إلى الشوارع. ولكن هنا يُقطع النص فلا يُشار إلى المكان الذي يتسرب منه هذا العنف.

فالشارع ليس حيزا للتنقل والتواصل فقط، بل إنه يجمع عدداً من العناصر الهامة التي تعكس وضعاً مجتمعياً محدداً. فمثلا، الشارع هو واحد من أكثر الملتقيات جماهيرية في أية دولة وفيه تتجلى بالإضافة إلى ما يمكن تسميته الصفات الفردية للسائق، المميزات الاجتماعية العامة للمجتمع في ظرفه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. يسود في إسرائيل الوهم القاتل القائل بأن الاحتلال يجري في مكان آخر، والاستيطان في مكان آخر، والجدار في مكان آخر، والسياسات التي تؤدي إلى ما لا يقل عن التجويع والحرمان من الحق في التحرك والاعتياش لملايين الفلسطينيين – كل هذا يجري في مكان آخر! ولكن من السخف القبول بهكذا مزاعم طالما أن الإحتلال هو منظومة غير مفصولة عن الدولة وعن المجتمع، بل بات يشكل عنصراً مركباً أساسياً في هويتها وفي حراكها وفي سلوكها واقتصادها وسياساتها، وخصوصا أنه احتلال تجاوز مطلع الشهر الجاري نصف قرن من الزمن.

مجلة "نيتشر" العلمية تؤكد في مقال حول بحث للعالم روبرت إم. سابولسكي (أيار 2017) "أهمية السياق الثقافي والاجتماعي الذي تنشأ التصرفات ضمنه".

وتشير إلى خطورة "القوى (الاجتماعية) التي تؤدي إلى العنف، والتجرُّد من الإنسانية، والحرب، إلى جانب التسامح، والتعاطف، والسلام. توجد للرموز والأفكار أهمية كبيرة في هذا الجزء من التحليل، إذ نتعلم كيف تستطيع الاستعارات المجازية التجريد من الإنسانية، بطرق يمكنها أن تؤدي إلى أعمال وحشية (مثل وصف مجموعة بشرية مُحتَقَرة بـ"الصراصير")"، تقول المجلة. إن وصف الصراصير هو مقولة مشهورة لرئيس أركان جيش الاحتلال ولاحقاً الوزير، السابق، رفائيل إيتان حين شبه العرب بـ"صراصير مسممة داخل قنينة"..

إن من تعود بأن القانون الذي يحكم شوارع منطقة محتلة هو قانون الغاب وأن قوى الأمن المختلفة توفر دائما الغطاء والحماية والتبرير والتسويغ لمن هو في رتبة السيد؛ ومن يسمح لنفسه بل تسمح له الدولة وقانونها وحكومتها وسياستها بممارسة أبشع أشكال العنف في منطقة محكومة عسكرياً - من الطبيعي والوارد وربما العلمي أيضاً القول: إن كل هذا الاستثناء العنيف الذي لا يضبطه قانون ولا نظام، ناهيك عن المعيار الاخلاقي، هو استثناء سيصبح بمثابة القاعدة التي تحكم. ليس قاعدة تحكم السيد تجاه الآخر الرازح تحت بشاعة هيمنته وعنفه فقط، وإنما ستطال أيضا حياته اليومية بأكثر ممارساتها يومية وعادية. كما أسلفنا، وهل يوجد أكثر من الشارع مسرحا لكل هذا؟!

ابحثوا عن العسكرة
في أصول العنف

منظمة بروفايل جديد- الحركة لمناهضة العسكرة في المجتمع- تشرح على واحدة من صفحات موقعها كيف أصبحت العسكرة أيديولوجيا منتشرة ترى بالجيش قيمة عليا، أيديولوجيا تهوّل من القيم العسكريّة وتبني حولها الأساطير، مع أو بدون علاقة بالأوضاع الأمنيّة. مجتمع قائم على العسكرة هو مجتمع يحمل أيديولوجيا تقدّس الجنديّة، ويشكّل الجيش فيه جزءاً لا يتجزّأ من الحياة الإجتماعيّة. وحين يختلط المدني بالعسكريّ، تصبح القيم العسكريّة التي تقدّس الحرب هي تلك التي تعطي مجالات الحياة المدنيّة تعريفاتها: في التربية، الاقتصاد، الترفيه، الحيّز المدني، الخدمات الإجتماعيّة، الحياة العائليّة وغيرها. المجتمع اليهودي في إسرائيل هو مجتمع يرى بالردود العسكريّة أمراً إعتيادياً، ولا يرى بأن الحروب يمكن أن تُمنع. هو مجتمع يرتبط اندماج الأفراد فيه بخدمتهم العسكريّة التي تُعتبر عبئاً يجب تقاسمه، وفي الوقت ذاته رسالة إجتماعيّة في المستوى الرفيع. مجتمع يعرّف قوميّة أخرى كعدو. مجتمع يمكن أن ترى في مدنه وبلداته دبابات، بنادق، مواقع وشوارع تُسمى على أسماء المعارك وقيادات الحروب..

سياسات الإجماع الإسرائيلية التي تجمع الأفراد حول نار القبيلة، ليست جديدة. هذا مميز لكل نظام يسعى لتصدير خلافاته واختلافاته، ومواصلة تشييد طابعه الرأسمالي.

في مقدمة كتابها "اصلاح اجتماعي أم ثورة" كتبت المفكرة المانية روزا لوكسمبورغ: "لقد حدث التغير ذاته في الظاهرة العسكرية. فإذا نظرنا إلى التاريخ كما كان، لا كما هو ممكن أو واجب، فإن علينا أن نوافق على أن الحرب كانت ملمحا ملازما للتطور الرأسمالي. فالولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا ودول البلقان وبولندا مدينة جميعا بشرط تطورها الرأسمالي أو بصعوده للحروب، سواء انتهت بالنصر أم بالهزيمة. ففي الحالات التي كانت فيها بلدان تعاني من الانقسام السياسي الداخلي أو العزلة التي يجب أن تحطم، لعبت الظاهرة العسكرية دورا ثوريا من وجهة نظر الرأسمالية".

وتتابع: "لقد أصبحت العسكرة أمرا لا غنى عنه لهذه الطبقة (الرأسمالية). أولا كوسيلة للصراع من أجل حماية المصالح القومية في التنافس مع الجماعات القومية الأخرى. وثانيا كوسيلة لتوظيف رأس المال النقدي والصناعي. وثالثا كأداة للسيطرة الطبقية على السكان العاملين داخل البلد نفسه (...) لقد تحولت العسكرة من محرك للتطور الرأسمالي إلى داء رأسمالي".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات