المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ألغت المحكمة العليا الإسرائيلية، يوم 15 تموز المنصرم، باتفاق كلا الطرفين المتقاضيين، قرار الحكم الذي كانت أصدرته المحكمة المركزية في القدس في شهر أيلول من العام 2013 واعتبرت فيه أن ثمة "أوجه شبه" بين حركة اليمين المتطرفة "إم ترتسو" والحركات الفاشية، بما يعني إمكانية تعريف هذه الحركة اليمينية واعتبارها حركة فاشية، حقا. وألزمت المحكمة العليا حركة "إم ترتسو" بـ"التبرع" بمبلغ 30 ألف شيكل لجمعية "دعوا الحيوانات تعيش"!

وكانت المحكمة العليا قد حسمت في القضية في ختام النظر في الاستئناف الذي قدمته حركة "إم ترتسو" على قرار المحكمة المركزية المذكور. وهذه الأخيرة كانت بحثت المسألة من خلال النظر في دعوى التعويضات (المدنية) التي تقدمت بها هذه الحركة ضد مجموعة (ثمانية) من الشبان اليهود الذين أنشأوا وأداروا صفحة خاصة على شبكة التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) تحت اسم "إم ترتسو ـ حركة فاشية". وطالبت "إم ترتسو" المحكمة بتغريم الشبان وإلزامهم بدفع تعويض مالي لها بمبلغ 5ر2 مليون شيكل!

لكن قاضي المحكمة المركزية في القدس، رفائيل يعقوبي، رفض دعوى "إم ترتسو" بالنسبة لسبعة من المدعى عليهم، بينما قبلها بالنسبة للثامن على خلفية مادة واحدة فقط نشرت على الصفحة "يُفهم منها أن حركة إم ترتسو تتبنى النظرية العرقية النازية"، وذلك بعد إقرار الشاب روعي يلين بالمسؤولية الشخصية عن هذا النص الذي اعتبرت المحكمة أنه يشكل قذفا وتشهيرا.

وكتب القاضي يعقوبي في حيثيات قراره أنه "لا يمكن أن نفهم من عبارة "إم ترتسو حركة فاشية" أنها تدل على تطابق تام بين مبادئ المدّعية (إم ترتسو) وبين الفاشية بكل مركباتها، وإنما فقط على خطوط تشابه محددة مع الفاشية، وليس أكثر من هذا"! كما كتب: "ثمة تأكيد (في أقوال رئيس هذه الحركة أمام المحكمة) على وجود قاسم مشترك معين بين مواقف المدّعية وبين مبادئ محددة تشكل أساس الفاشية".

واستمعت المحكمة المركزية في القدس، خلال النظر في الدعوى، إلى شهادة البروفسور زئيف شطرنهل، أستاذ العلوم السياسية المتخصص في الفكر الفاشي والحركات الفاشية، الذي قال أمام المحكمة إنه "يمكن العثور على خطوط شبه ما بين الحركات الفاشية في بدايات طريقها وبين حركة إم ترتسو. كما استمعت إلى أستاذ اللسانيات، روبيك روزنطال، الذي شرح استخدامات كلمة "فاشي" في الخطاب الإسرائيلي المعاصر، وإلى الباحث في الأديان، تومر برسكو، الذي قال للمحكمة إنه أدار محادثة علنية مع مؤسس "إم ترتسو" ورئيسها، رونين شوفال، اعترف هذا الأخير خلالها بأنه استقى أفكاره الأساسية من مفكرين أمثال يوهان غوتليب فيخته، الذي شكلت نظريته لاحقا المرتكز العقائدي الأساسي لنشوء ونمو الفاشية في أوروبا.

و"إم ترتسو ـ الثورة الصهيونية الثانية" (اسمها الكامل) هي منظمة يمينية أقيمت بعد حرب لبنان الثانية وتهدف، حسبما تفيد منشوراتها، إلى "تعزيز قيم الصهيونية وتجديد الخطاب والفكر والأيديولوجيا الصهيونية في إسرائيل". وأبرز ما تقوم به هذه الحركة هو "محاربة" ما تصفه بـ"التوجهات والميول المعادية للصهيونية في الأكاديميا الإسرائيلية والتصدي لنزعة هيمنة خطاب المفكرين والباحثين اللا صهيونيين في بعض الأقسام والكليات في الجامعات الإسرائيلية، وخاصة كليات علم الاجتماع والعلوم السياسية".

نقد قضائي صريح لتقديم هذه الدعاوى

قد تكون النتيجة القضائية في هذا الملف العيني ـ أي: رفض الدعوى في المحكمة المركزية، أولا، ثم قرار المحكمة العليا إلغاء قرار حكم المحكمة المركزية ـ هو الأقل أهمية وإثارة في سياق هذا النوع من الدعاوى القضائية، دوافع تقديمها وغاياته.

ومما يؤكد هذا الرأي، تعمّد الهيئتين القضائيتين، المركزية ثم العليا، توجيه نقد مباشر وصريح لمجرد تقديم هذه الدعوى القضائية، ثم التأكيد على أن الميدان القضائي ليس المكان الصحيح والمناسب لمناقشة هذه القضايا والبت في الخلاف الفكري ـ السياسي بشأنها.
فقد ثبّت قاضي المحكمة المركزية في القدس موقفه النقدي بالقول: "أعتقد بأنه كان من الأفضل لو امتُنِع عن تقديم الدعوى قيد البحث. وفي رأيي، أنه من الأفضل والأجدى إفساح المجال أمام خوض النقاش المترتب على الخلافات القيمية ـ الفكرية والسياسية الحادة بين المدعية وبين المدعى عليهم من دون أية قيود غير ضرورية، ثم من المفضل، تاليا، أن لا يكون هذا النقاش مصحوبا بدعاوى قضائية"! وأضاف القاضي، مؤكدا: "كيما يكون هذا النقاش مثمرا ويتيح تحديد وتوضيح الخلافات، معالجتها واحتمال التأثير المتبادل، من المفضل أن لا تتم المطالبة بفرض إجراءات وغرامات حتى في الحالات التي تُقال فيها أمور فظة معينة، بروح تلك التي ظهرت في حالتنا العينية هذه"!

أما في المحكمة العليا، فكان النقد لمجرد تقديم هذه الدعوى القضائية أكثر صراحة وأشد حدة، وسط التأكيد على أن "(الطرفين قد توصلا إلى اتفاق وتفاهم، بتوصية من هيئة المحكمة) المحكمة ليست الحلبة المناسبة لهذا النقاش الإيديولوجي ـ السياسي وأن الإجراءات القضائية ليست الدواء لجميع الأمراض"، كما كتب القضاة يتسحاق عميت، ميني مزوز وعنات بارون في قرارهم، وأضافوا: "تعبر هذه المحكمة عن رأيها وموقفها بأن مثل هذه الدعوى يفضل أن لا يتم تقديمها أصلا"!

والنتيجة الأبرز في قرار الحكم الصادر عن المحكمة العليا هنا تتمثل في تأكيد القضاة الثلاثة على أنهم "سيصدرون توجيهات للمحاكم المختلفة بالنظر في رفض مثل هذا النوع من الدعاوى رفضا تاما ونهائيا، إلى جانب إلزام الجهات المدّعية بتعويض الأطراف المدعى عليها عن التكاليف والمصروفات التي تتكبدها (لتمويل الإجراء القضائي)"!! غير أن من الأهمية بمكان التنويه إلى أن هذه النتيجة لم تأت صدفة، بل في أعقاب إصرار محامي المدعى عليهم على تأكيد الموقف المبدئي الداعي إلى محاربة استخدام دعاوى القذف والتشهير هذه أداة لكم الأفواه وإسكات أي نقاش فكري أو سياسي.

فقبل أن يتوصل الطرفان إلى الاتفاق الذي أقرته المحكمة في النهاية، كان وكيلا المدعى عليهم، المحاميان ميخائيل سفارد ويشاي شنيدور، قد رفضا الاقتراح الأولي الذي تقدم به أحد القضاة وقضى بسحب الدعوى وشطب قرار حكم المحكمة المركزية من دون إلزام حركة "إم ترتسو" بدفع أي تعويض مالي. وخاطب المحامي سفارد هيئة القضاة بالقول: "إن قبول الاقتراح بسحب الدعوى وشطب قرار المركزية من دون إلزام إم ترتسو بدفع الثمن عن تقديمها دعوى كم الأفواه هذه من شأنه تشجيع أطراف أخرى على تقديم مثل هذا النوع من الدعاوى"، بينما حذر المحامي شنيدور من أن "قبول اقتراح هيئة المحكمة يعني أنه إذا ما تعرض شخص يرغب في التعبير عن رأيه في الحلبة الجماهيرية العامة إلى تقديم دعوى قضائية كهذه ضده تطالبه بدفع مبالغ طائلة ثم رفضت المحكمة هذه الدعوى، بعد مداولات قضائية قد تستمر سنوات، فسيكون هو الخاسر الأكبر إذ لا تنصفه المحكمة بتعويضه عن التكاليف المالية الكبيرة التي تكبدها، بينما سيكون الطرف المدّعي هو الرابح الأكبر إذ يروّج لمواقفه وتوجهاته ويخلق حالة من الردع الذاتي"!

ويبقى مكان هام للإشارة هنا إلى أن قرار المحكمة العليا يقضي بشطب قرار المحكمة المركزية لا ببطلانه أو بخطئه. والمعنى، أن المحكمة العليا لم تتطرق، قطّ، إلى إقرار المحكمة المركزية بوجود "أوجه شبه" بين حركة "إم ترتسو" والفاشية ولم تبحث (العليا) في هذه المسألة (كون "إم ترتسو" حركة فاشية أم لا)، على الإطلاق، وبالتالي فهي لم تضع أية استنتاجات أو تقييمات بشأنها. وهذا ما يستدل بصورة جلية تماما من قراءة نص قرار الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا، وذلك خلافا لما نشرته العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية المختلفة والذي يمكن اختزاله بالعنوان التالي (المشوه، غير الصحيح وغير الدقيق، إطلاقا): "المحكمة العليا أقرت: حركة إم ترتسو ليست فاشية"!

كاتم صوت: دعاوى القذف والتشهير

في الإجمال، يكتسي قرار المحكمة العليا هذا أهمية فائقة جدا ويمكن اعتباره أحد أهم قرارات الحكم القضائية التي صدرت عنها خلال السنوات الأخيرة، من حيث النتيجة الأبرز التي أشرنا إليها آنفا بشأن التوجيهات التي سيصدرها قضاة المحكمة العليا إلى المحاكم المختلفة التي تنظر، مستقبلا، في مثل هذا النوع من الدعاوى القضائية: ليست المحاكم هي المكان المناسب لتسوية الخلافات الفكرية ـ السياسية وحسم النقاشات حولها، أولا، ثم توجيه المحاكم إلى فرض ما يمكن اعتباره ـ في النتيجة النهائية ـ "عقوبة" مالية كبيرة على تقديمها مثل هذه الدعاوى القضائية (دفع مصاريف المحاكمة للطرف المدعى عليه).

وتكمن أهمية هذا القرار، في أحد جوانبه، في الموقف الحاد والواضح الذي يحمله بين طياته ومفاده: واجب المحاكم في بسط حمايتها على الحقوق والحريات الأساسية، وفي مقدمتها الحق في التعبير عن الرأي وحرية المعتقد (الفكري ـ السياسي) والوقوف سداً في وجه المحاولات التي تقوم بها، باستمرار، أطراف وأوساط يمينية متطرفة لكبت حرية التعبير وكمّ الأفواه ومصادرة حرية المعتقد من خلال استخدام آلية دعاوى القذف والتشهير سيفا مسلطا للتهديد الدائم.

وسواء كان قضاة المحكمة العليا يدركون هذه الحقيقة أم يجهلونها، فإن قرارهم هذا يمثل إنجازا هاما في المعركة المتواصلة منذ سنوات عديدة ضد "الطريق المنهجي" الذي اختطته وسارت عليه أوساط، حركات وتنظيمات يمينية مختلفة في استخدام دعاوى القذف والتشهير هذه سلاحا مركزيا في حربها المعلنة على كل ما ومَن يختلف عنها وعن طروحاتها الفكرية والسياسية.

وكانت "جمعية حقوق المواطن" في إسرائيل قد عالجت هذه المسألة في تقرير خاص موسع (108 صفحات) أصدرته في شهر كانون الثاني 2013 تحت عنوان "كاتم صوت ـ دعاوى القذف والتشهير كتهديد على حرية التعبير"!

وأشارت الجمعية في تقريرها هذا، آنذاك، إلى أن إسرائيل تشهد، في السنوات الأخيرة تحديدا، تفاقما واتساعا متواترين في الظاهرة المعروفة في دول أخرى عديدة منذ سنوات طويلة جدا: تقديم دعاوى القذف والتشهير ردا على التعبير عن رأي أو على نشاط ما في قضية عامة، والتي غالبا ما تكون نتيجتها، بل القصد منها أحيانا عديدة، خلق حالة من الردع الذي يستهدف الطرف المدعى عليه أو الجمهور الواسع، مما يحدّ من قدرته على المشاركة في النقاش العام في مسألة عينية ما أو في الحوار الجماهيري العام، بصورة إجمالية.

واستعرض تقرير "جمعية حقوق المواطن" الميادين المختلفة والمتعددة التي تنتشر فيها ظاهرة استخدام دعاوى القذف والتشهير كسلاح لكم الأفواه وكتم الأصوات في إسرائيل. كما بين التقرير، بالتفصيل، الملامح والمميزات الأساسية لدعاوى الإسكات وكتم الأصوات هذه، فضلا عن الإسقاطات الاجتماعية القاسية جدا المترتبة على هذه التهديدات والدعاوى على كل ما يتصل بحرية التعبير في البلاد. وشمل التقرير، أيضا، تحليلا مستفيضا للأسباب الكامنة وراء كون دعاوى القذف والتشهير، أو التهديد بها، في منظومة القضاء الإسرائيلي، أداة ناجعة جدا لإسكات أي نقد ويورد جملة من الإجراءات التي ينبغي اعتمادها، سواء في المستوى القضائي أو في المستوى الجماهيري، بغية تقليص هذا الأثر الرادع الذي تخلقه هذه الدعاوى على حرية التعبير.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات