المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نشرت صحيفة "هآرتس" يوم الجمعة 22 كانون الثاني 2016 مقالة بقلم عوفر أديرت تعرض فيها إلى حذف مجموعة من أقوال وبيانات أدلى بها موشيه شاريت عند توليه وزارة الخارجية في حكومة بن غوريون الأولى في العام 1949. وجاء هذا الكشف بعد أن قام ابنه يعقوب شاريت بزيارة إلى أرشيف دولة إسرائيل الكائن في القدس للبحث عن مواد أرشيفية ليكتب كتابا عن والده. واكتشف أن الرقابة حذفت مجموعة من السطور تحتوي على أقوال نطق بها موشيه شاريت خلال جلسة للحكومة المذكورة بتاريخ الخامس من تموز 1949. وتحتوي هذه السطور على موقف شاريت من عمليات النهب والسرقة والتحطيم التي تعرضت لها بعض الكنائس في منطقة الجليل مباشرة بعد سقوط المدن والقرى فيها بيد المنظمات العسكرية اليهودية ثم الجيش الإسرائيلي. وعبّر عن امتعاضه من الأعمال التخريبية التي قام بها جنود في الجيش متجاوزين بذلك، على حد زعمه، كل حدود الأخلاقيات التي يجب ان يتحلى بها المجندون في الجيش الإسرائيلي.

وبيّن المقال في "هآرتس" أن نيّة ابن شاريت هي إخراج الحقيقة (على حد اعتقاده) إلى حيّز الوجود، وان يتعرف القُرّاء على شخصية والده، ومواقفه الأخلاقية، وصراعه ومواجهته لسياسات بن غوريون الاستبدادية والانفرادية. ولم يُشر إلا إلى اعتداء واحد على كنيسة في كفار ناحوم شمالي بحيرة طبريا. لكنني، ومن خلال مراجعاتي المتكررة لملفات "أرشيف دولة إسرائيل"، عثرت على عدد ليس بقليل من التقارير الموقعة بإمضاءات رجال شرطة وجيش حول شكاوى تقدم بها رجال دين مسيحيون من قرى مختلفة في الجليل، ومنها حيفا (على سبيل المثال وليس الحصر) وغيرها، عن سلسلة من الاعتداءات والسرقات وتدنيس قدسية كنائسهم وأديرتهم ومؤسساتهم بما فيها المدارس وبيوت الكهنة.

ولأن المقالة في "هآرتس" تتعرض للكنائس وليس للمساجد، فإنني سأنقل إلى القارئ مجموعة من محتويات رسائل ووثائق تؤكد حقيقة الأعمال المشينة واللاأخلاقية التي قام بها جنود الجيش الإسرائيلي لأماكن العبادة المسيحية في حيفا والجليل، علمًا أن هذا الجيش عتدى بصورة وحشية على مجموعة كبيرة من المساجد والمقامات الإسلامية في قرى الوطن، ومن بينها مساجد تم تحويلها إلى متاحف ومعارض صور ولوحات فنية، وبعض آخر تم تحويله إلى مطاعم ومقاه وخمارات وملاه ليلية، ومساجد أخرى استخدمت كزرائب كما هي الحال في قرية البصة الواقعة على الحدود الفلسطينية - اللبنانية، حيث استخدم مصنع للحوم المُصنّعة مسجد وكنيستي القرية زرائب للأبقار.

ففي رسالة للجمعية المسيحية التي كان مقرّها في شارع اللنبي 30 في حيفا والمؤرخة في 17 حزيران 1949 والموجهة إلى رئيس دولة إسرائيل يشرح المُوقِّع عليها باسم الهيئة الإدارية حالة النهب والسلب التي تعرض لها المسيحيون في بيوتهم الخاصة ومؤسساتهم. وأُرسِلت الرسالة باللغتين العربية والانكليزية.

وعثرتُ أيضًا على رسالة للكاهن أغناطيوس، الرئيس الروحي لطائفة الروم الأرثوذكس في حيفا، والتي وجهها إلى وزراء الداخلية والأديان والأقليات ورئيس بلدية حيفا بتاريخ 2 نيسان 1949 وفيها يستنكر بشدّة إقدام السلطات على هدم الدير الأرثوذكسي الملاصق لكنيسة الروم الأرثوذكس في البلدة القديمة وكذلك مبنى المدرسة التابع لها وفقدان كافة محتويات الكنيسة.

وعثرتُ أيضًا على تقرير لقائد مركز شرطة البلدة التحتا في حيفا مؤرخ في 31 تموز 1948، اي ثلاثة شهور بعد سقوط مدينة حيفا بيد منظمة "الهاغناه" العسكرية وترحيل أهالي حيفا العرب والاستيلاء على بيوتهم وممتلكاتهم. وأشار ضابط المركز إلى انه تلقى شكاوى من الأرشمندريت بطرس فاخوري الرئيس الروحي لطائفة الروم الكاثوليك في حيفا يُعلمه فيها عن سلسلة من السرقات واعمال التخريب التي تعرّضت لها كنائس طائفته في حيفا. فقدم فاخوري شكوى بتاريخ 22 تموز 1948 عن سرقة كأس ذهبية، وشمعدانات وصليب وملابس كهنة وأثاث من كنيسة السيدة في البلدة القديمة. وفي شكوى أخرى تقدم بها بتاريخ 29 تموز 1948 ذكر الأب فاخوري أنه تمّت سرقة كنيستي محطة الكرمل ووادي الجمال، وأن المنهوبات شملت ما يلي: خزانتان وملابس أطفال. وأشار التقرير إلى أنهما أعيدتا لاحقا الى كنيسة المحطة. أما ما سرق من أواني مقدسة وشمعدانات وأدوات مطبخ وأسرّة فلم يتم إعادتها بالمرّة. وأشار التقرير ذاته إلى أن أمين كنيسة وادي الجمال في حيفا أبلغ الكاهن المذكور بسرقة كراس وطاولات وأغطية وستائر من كنيسة وادي الجمال، وهذه لم يتم إعادتها.

وفي شكوى إلى رئاسة بلدية حيفا تقدم بها الأب باسيليوس لحام من كنيسة الروم الكاثوليك بتاريخ 1 آب 1948 عبر عن امتعاضه واستنكاره وشجبه لعمليات هدم أوقاف كنسية من قبل هيئة البلدية دون إعلام أو إخطار أصحاب الملك، كما حصل بالقرب من كنيسة مار الياس في مفترق طرق عين دور واللنبي والجبل في مدينة حيفا.

وأشارت بعض الوثائق إلى تقدم رؤساء كنائس في حيفا وبعض قرى الجليل بطلب تعويضها عن الخسائر التي لحقت بها، والعمل على ترميم ما تم تشويهه من كنائس وأديرة. واستجابت وزارتا الأقليات والأديان إلى عدد من هذه الطلبات، من منطلق عدم إثارة ضجة سياسية ودبلوماسية مع ممثليات الدول الأوروبية المسيحية، وفي مقدمتها الفاتيكان.

وهناك العشرات من الرسائل والشكاوى التي تقدم بها رجال دين مسيحيون ومؤسسات تابعة لهم حول السرقات والتعديات التي قام بها جنود إسرائيليون بمعرفة او عدم معرفة قياداتهم. لكن من الثابت والمؤكد أن موشيه شاريت وبالرغم من نوايا ابنه في تبييض صفحة والده التاريخية وغسلها من كل الأخطاء والخطايا، كان شريكا رئيسا في الخطط الحربية التي وضعتها قيادات منظمات عسكرية وفي مقدمتها "الهاغناه" بقيادة بن غوريون للانقضاض على المدن والقرى الفلسطينية وتطهيرها عرقيا، وترحيل سكانها والاستيلاء على البيوت ومحتوياتها والأراضي والعقارات لأنها ستشكل رصيدا رئيسا لانطلاق مشروع الدولة الصهيونية في فلسطين. فإن كانت المسألة للتذكير فقط بما حصل، فهذا أمر سهل للغاية، يمكن نقله عبر تصوير مجموعة من الوثائق والمستندات لتبيان الحقائق. لكن القضية اكثر من ذلك، وهي مرتبطة بجريمة تجريد شعب بكامله من أرضه وبيوته وعقاراته وتحويله إلى لاجئ فاقد لكل أسس الحياة لينطلق في مسيرة النضال والكفاح من أجل استعادة حقوقه.

وفي واقع الأمر فإنّ القيادات الصهيونية من سياسية وعسكرية ومنذ ما قبل العام 1948 وحتى بعده، لم تُفرّق بين كنيسة ومسجد، بين مقبرة ومقام، بين مؤسسة ودير. وكل ما هو غير يهودي معرض إلى أيامنا لخطر الاعتداء والتدنيس، ولخطر الهدم والتشويه.

_____________________________
(*) مؤرخ وأستاذ جامعي فلسطيني- حيفا.

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, رئيس دولة إسرائيل, الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات