• كلمة في البداية
  • 4568
  • انطوان شلحت

نعرض في هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" لأهم ما ورد في كتاب إسرائيلي جديد من تأليف أحد قادة الحركة اليمينية الإسرائيلية الجديدة "إم ترتسو" ("إذا شئتم") موسوم بعنوان "لماذا تصوّت لليمين فتحصل على اليسار"، يزعم في سياقه أنه على الرغم من مرور أربعين عامًا على تسلم حزب الليكود اليميني سدّة الحكم في إسرائيل، عقب ما عُرف باسم "انقلاب 1977"، فإنه لا يرعوي عن مواصلة الحكم من خلال النُخب القديمة التي كانت في معظمها موالية لـ"الحركة الصهيونية العمالية" بزعامة حزب "مباي" التاريخي. كما يؤكد أنه فقط في الأعوام الأخيرة بدأ اليمين الإسرائيلي في تغيير هذا النُخب كي "يتحقق الانقلاب الحقيقي" في المستقبل المنظور .

 

ولعلّ الأمر الجديد المُثير في هذه المُقاربة، هو ما أوجزناه في عنوان هذه الكلمة بعبارة "انقلاب اليمين الجديد على اليمين القديم"، والذي يدلّ عليه اتهام صارخ يوجهه مؤلف الكتاب إلى مناحيم بيغن، الزعيم التاريخيّ لليمين الإسرائيلي التقليدي الذي تجسّد في حركة "حيروت" ومن ثم في حزب الليكود، بـ"خيانة" الناس والقيم اللذين انتخب لرئاسة الحكومة بفضلهما في العام 1977.

وسبق أن تطرقنا إلى غايات هذا الانقلاب اليمينيّ الجديد على اليمين القديـم في أكثر من مناسبة.

وكانت إحداها من خلال التطرّق إلى "رؤية" البقية الباقية من ذلك اليمين التقليدي كما عكسها دان مريدور، الوزير وعضو الكنيست السابق وأحد القادة البارزين السابقين لليكود، وأشار فيها من ضمن أمور أخرى، إلى أن "الموازنة ما بين القومي والليبرالي كانت من سمات الليكود المميزة على الدوام" لكنه في الوقت عينه أعرب عن خشيته "من أن هذا التوازن يتغير ويختلّ الآن". وتابع قائلًا: "حينما تقف القومية وحدها، من دون موازِن ليبرالي يؤكد حرية الفرد وحقوقه، فإنها تصبح قوموية (تطرف قومي)". وأضاف الوزير والنائب السابق أن ثمة عبارة تتكرر في الليكود تقول "آن الأوان كي نحكم"، والقصد هو "الحكم دون أي قيود أو كوابح"، وهذه بموجب قراءته ليست ديمقراطية، "لأن الديمقراطية ينبغي أن تحرسها وسائل الإعلام والمحاكم وأن تلجمها". واكد أنه يجب الحذر من مغبة المساس بهذه المؤسسات، "فالهجوم على وسائل الإعلام سهل جدا، لكن بدون وسائل إعلام حرة ليست هناك ديمقراطية".

ولا شك في أن هذا الانقلاب ينطوي على انعكاسات تتعلق بالسياسة الإسرائيلية الخارجية ولا سيما حيال القضية الفلسطينية، عير أنه بالأساس ماض قدمًا نحو إحداث تغييرات داخلية الغاية القصوى منها قمع كل من يخالف هذا اليمين الجديد الرأي.

إن جلّ التحليلات التي تتناول هذه التغييرات تحاول أن تجيّر ذكرى مرور أربعين عامًا على "انقلاب 1977" السالف (في أيار الحالي)، قريبًا جدًّا من ذكرى مرور نصف قرن على احتلال 1967 (في حزيران المقبل).

ويستلزم الكلام عن هذين الحدثين محاولة التركيز على ماهية ذلك "اليسار" الذي يحذّر اليمين الإسرائيلي الجديد المُنقلب على قديمه من مغبة استمراره في تحريك خيوط السياسة الإسرائيلية الرسمية.

وأول ما يتبادر إلى الذهن بهذا الشأن هو أن الحكومات التي كانت برئاسة حزب العمل، سليل "مباي" التاريخي"، ظلت خلال العقد الذي تلا احتلال 1967 وصولًا إلى "انقلاب 1977"، إمّا تغض الطرف عن المستوطنات المتكاثرة في الأراضي الفلسطينية التي احتلت أو تشجع بصراحة على إقامتها، وبذا ساعدت هذه الحكومات خلفاءها اليمينيين في شرعنة أيديولوجيا الاستيطان. وعلى الرغم من ذلك كانت مسيرة هذا "اليسار" أقرب إلى مسار أفول ومن ثم انهيار.

وهنا يجدر بنا أن نستعيد ما رآه المؤرخ الإسرائيلي يغئال عيلام أخيرًا بأن معظم المقاربات التي تقدم تفسيرات لمسألة صعود اليمين في إسرائيل ومواصلته الحكم على مدى عشرات الأعوام لا تمسّ الجذور الحقيقية لهذه المسألة. وبرأيه ليس استعلاء النخب ولا تجاهل الثقافة الشرقية هما اللذان أديا الى أفول ما يُسمى "اليسار"، ولا حتى التمييز العنصري والغبن الاجتماعي، وحان الوقت للاعتراف بحقيقة أن "هذا الشعب كان يمينيًا في أساسه. ومنذ البداية كان يتبنى فكرًا يقول إنه شعب مختار، وحيد وفريد، لا تنطبق عليه القواعد الإنسانية العامة. وفقط في الأزمنة الصعبة عندما كان أقلية تمسّك بالفكر اليساري الكوني في جوهره، كي ينال الدعم في العالم المتنور ويضمن بقاءه". وهو يعتقد أن القيادة الإسرائيلية الحالية مناسبة لهذا الشعب في الوقت الراهن بتطابق تام.

هذه القيادة هي نفسها التي تستقتل صباح مساء من أجل أن تنزع عن الحيّز العام في الشرق الأوسط أي خصيصة عقلانيّة سعيًا لنزع إنسانيته، كما تؤكد مقالة جديدة بعنوان "معزولون عن الواقع ـ الرواية الغريبة التي تحكيها إسرائيل لنفسها عن الشرق الأوسط"، نشرها مؤخرًا باحثان إسرائيليان وقدمنا عرضًا لها في .

ولا يتعلّق الأمر بالحيّز الإقليمي فقط بل أيضًا بفلسطين، حيث كرّر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في الكلمة التي ألقاها في الجلسة الخاصة التي عقدها الكنيست في مناسبة ذكرى مرور خمسين عامًا على احتلال القدس (يوم 24 أيار الحالي)، أن القدس مثل فلسطين برمتها، كانت أرضًا مهملة، معظمها لا يتخلله سوى العراء الرتيب، ومحاطة بالعتمة، وأن التغيير الكبير حدث بوصول الهجرة اليهودية، التي تسببت بإقامة القرى، الكيبوتسات، المستوطنات، المدن، الزراعة والصناعة المتطورة، التي شكلت مركز جاذبية للهجرة العربية إلى البلد أيضًا!.

ومثل هذه الأراجيف يتم تسويقها باعتبارها حقائق هي فقط المطلقة، أما الحقائق الأخرى، والمنافسة أحيانًا، فهي ليست حقائق بتاتًا. وهذه العملية نفسها أصبحت ديدن اليمين الإسرائيلي الجديد ليس فقط حيال من يدرجهم في إطار "اليسار" إنما أيضًا حيال ألوان أخرى داخل الطيف اليميني ذاته.