المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"يمثل مشروع "رحلة إسرائيلية" قصة النجاح الأكبر التي حققتها منظومة الجمعيات الخاصة والأهلية (غير الحكومية) التي أقامها اليمين المتدين اليهودي في إسرائيل حتى الآن" ـ هذه هي النتيجة الأبرز التي توصل إليها بحث جديد أجراه "مركز مولاد – لتجديد الديمقراطية في إسرائيل" ونشر في تقرير خاص أصدره المركز في نهاية شهر حزيران الأخير تحت عنوان "غسل دماغ سياسي تحت ستار رحلة سنوية ـ كيف سيطر اليمين المتدين على مجال التربية القيميّة في المدارس الرسمية".

 

يعالج هذا البحث، كما يقول معدوه، "الأساليب والمنهجيات التي تعتمدها مجموعة صغيرة من الإسرائيليين ـ تعتبر نفسها نخبة روحية وسياسية ـ سعياً إلى إعادة تشكيل وتصميم الهوية القومية، الثقافية، الأخلاقية والمدنية لمجمل الجمهور اليهودي في إسرائيل، بروح قيمها هي وبهديها. ولتحقيق هذه الغاية، حددت هذه المجموعة جهاز التعليم الرسمي هدفاً مركزيا لإحكام سيطرتها عليه بصورة منظمة، مستندةً على الادعاء القائل بأن مجموعة الأغلبية العلمانية، من اليهود الإسرائيليين، قد وقعت فريسة وضحية لسيرورة غامضة وخطيرة من "اضطراب الهوية" وفقدان القيم. وبالتأسيس على هذا الفهم، السطحي والتبسيطي، لوجهات وسيرورات عولمية ومحلية تعصف بالمجتمع الإسرائيلي، يسود لدى قطاعات واسعة من الجمهور المتدين القومي اعتقاد بأنه من غير الممكن صون الهوية اليهودية وترسيخ الالتزام القيميّ الإسرائيلي بدون الأسس الإيديولوجية التي تبناها اليمين المتدين"!

يشمل تقرير البحث، الذي يمتد على 85 صفحة، سبعة أبواب هي التالية: 1. ملخص؛ 2. مقدمة؛ 3. تمويل الجمعيات اليمينية المتدينة من وزارة التربية والتعليم؛ 4. مراكز "هوية": هكذا يتغلغل اليمين المتدين في المدارس الرسمية (الحكومية)؛ 5. رحلة إسرائيلية؛ 6. تلخيص استنتاجات التقرير؛ 7. ملاحظات.
"رحلة إسرائيلية" ـ كما يؤكد التقرير - هو مشروع مخصص لطلاب صفوف الحادي عشر في مرحلة الثانوية العامة في المدارس اليهودية الرسمية (الحكومية)، "يحظى بدعم غير مسبوق من قبل وزارة التربية والتعليم ويزخر بالرسائل السياسية التي يصممها وينتجها اليمين الاستيطاني".

"رحلة إسرائيلية" هو مشروع صممته وتتولى تنفيذه جمعية تدعى "بِريشيت" (التكوين)، وهي "جمعية خاصة ذات هوية سياسية واضحة تماما وتربطها علاقات متينة ومتشعبة مع حزب "البيت اليهودي" ـ الحزب الذي يتزعمه وزير التربية والتعليم الحالي، نفتالي بينيت". والمشروع عبارة عن "رحلة تربوية تستغرق ستة أيام تشمل مختلف أنحاء البلاد، تدمج ما بين مسارات المشي، الأنشطة البدنية، الفعاليات الجماعية والحلقات الحوارية الحميمة". وتتمثل ذروة المشروع، المخصص لطلاب صفوف الحادي عشر في المرحلة الثانوية العامة، في "المحافظة الارثوذكسية المشددة، للطلاب جميعا، على قدسية السبت"! وبفضل الدعم، المالي، البشري، التنظيمي، التسويقي (الترويجي) واللوجستي غير المسبوق الذي توفره وزارة التربية والتعليم لهذا المشروع، تحولت "الرحلة الإسرائيلية" خلال العقد الأخير إلى "إحدى الرحلات الأكثر شعبية وجذباً في جهاز التعليم الإسرائيلي برمّته"، إذ شارك فيها حتى الآن ما يزيد عن 100 ألف طالبة وطالب من صفوف الحادي عشر من نحو 200 مدرسة، غالبيتها الساحقة هي مدارس تابعة لجهاز التعليم الرسمي ـ العلماني (الحكومي) في إسرائيل، المنفصل تنظيميا وإدارياً والمختلف مضمونياً وتعليميا عن جهاز التعليم الديني.

ويحلل الفصل الخامس من تقرير "مولاد" كل ما يتعلق بمشروع "رحلة إسرائيلية"، بما في ذلك مقابلات مع مرشدين سابقين في هذا المشروع وتسجيلات صوتية لما يدور خلال الفعاليات والجولات المختلفة التي يشملها المشروع، ليثبت ـ عبر ذلك كله ـ واقع "سيطرة اليمين المتدين الاستيطاني على مجال التربية القيمية في جهاز التعليم الرسمي"، إذ تؤكد الوقائع والمعطيات أن "المشروع مُعدّ لتحقيق هدف مركزي واضح هو: غسل دماغ سياسي للطلاب العلمانيين"، من خلال مسارات المشي، مرورا بالحلقات الحوارية والإرشادية وانتهاء بالنصوص التي يتم توزيعها على الطلاب "وكلها، دون استثناء، مضامين سياسية من تصميم وإنتاج اليمين المتدين الاستيطاني"!

يعرض تقرير "مولاد" منهجيات وأساليب العمل التي تعتمدها جمعيات اليمين المتدين الاستيطاني في المدارس الرسمية، يحلل تقاريرها المالية فيورد معطيات تفصيلية عن مصادر تمويلها، كما يحلل كمية كبيرة من الرسائل الداخلية فيكشف عن المبادئ والتوجهات الإيديولوجية التي تسترشد بها. من خلال ذلك كله، وبواسطته، ترتسم الصورة التالية: تحت ستار "تقريب القلوب" والحديث الضبابيّ عمّا يسمى "الهوية اليهودية"، "تبذل مجموعة صغيرة من الإسرائيليين جهوداً مكثفة لإعادة تشكيل وتصميم المفهوم القومي السياسي ـ أي، الهوية الإسرائيلية ـ لدى الأغلبية العلمانية، برسم الأقلية الصهيونية الدينية ومفاهيمها، رغم كونها شريحة صغيرة لا تتعدى نحو 11% فقط من مجموع اليهود في إسرائيل". وبهذا المعنى، يسير مشروع "تقريب القلوب"، بمنطق الجمعيات اليمينية الدينية الاستيطانية، في اتجاه واحد ووحيد هو، على الدوام: تقريب الأغلبية العلمانية الفاقدة للقيم من الأقلية الدينية القومية التي تمتلك القيم وتصونها.

مشروع بديل في إثر فشل "الاستيطان في القلوب"!

يؤكد تقرير "مولاد" أن اليمين المتدين الاستيطاني في إسرائيل "قد حدّد، منذ نحو عقد من الزمن تقريبا، جهاز التعليم الرسمي هدفاً لإحكام السيطرة المنظمة عليه". وفي تفسيره خلفيات هذا القرار، يعزو التقرير دافعه المركزي إلى فشل مشروع "الاستيطان في القلوب" الذي شكّل أحد الأهداف المركزية المعلنة التي رافقت مشروع الاستيطان اليهودي في المناطق الفلسطينية منذ أيامه الأولى. وبهذا المعنى، يرى التقرير أن المشروع الجديد جاء كمشروع بديل لمشروع "الاستيطان في القلوب" الذي مني بالفشل وكمسعى للتعويض عنه.

ففي أعقاب الدعم الجماهيري الواسع الذي استقطبته "خطة الانفصال" عن قطاع غزة بين الجمهور اليهودي في صيف العام 2005، وما رافقها وتلاها من "أجواء ومشاعر اللامبالاة" التي قابل بها الجمهور الإسرائيلي، بغالبيته، الحملة التي أطلقها المستوطنون لمعارضة "خطة الانفصال" والتصدي لها، أيقن قادة المعسكر الديني ـ الاستيطاني أنه "يتوجب عليهم البحث عن وإيجاد طرق جديدة توصلهم إلى قلوب الإسرائيليين". وفي إطار هذا المسعى، رأى هؤلاء "ضرورة تركيز جهودهم على الفئة الأقرب والأسهل للتأثير: شريحة الأولاد والشبيبة". وتأسيساً على هذا الاستنتاج وتنفيذا له، أقام اليمين المتدين الاستيطاني عشرات الجمعيات، الخاصة والأهلية، "تسللت إلى جهاز التعليم الرسمي وتغلغلت فيه خلال السنوات الأخيرة".

خلافاً للاعتقاد السائد في الراي العام اليهودي في إسرائيل ـ كما يشير التقرير ـ لم يكن الهدف المركزي لهذه الجمعيات تحقيق "توبة بنات وأبناء الشبيبة اليهود العلمانيين بإعادتهم إلى أحضان الدين اليهودي وتقاليده"، وإنما وضعت لنفسها "هدفين مركزيين آخرين هما: الأول ـ تعزيز مكانة الصهيونية الدينية كنخبة روحانية ـ سياسية؛ والثاني ـ تحويل النقاش حول المشروع الاستيطاني في إسرائيل إلى "تابو" وجعله نقاشاً غير شرعيّ، وذلك بالتأسيس على، والانطلاق من، فرضية أساس تقول بوجود "فراغ قيميّ" ـ يتجسد في واقع خطير من اضطراب الهويّة وفقدان القيم ـ بين بنات وأبناء "مجموعة الأغلبية العلمانية من اليهود في إسرائيل".

أبرز خلاصات البحث

يوجز معدو التقرير أبرز خلاصات بحثهم في النقاط المركزية التالية:
1. واجهة جماهيرية، تنظيم خاص: نتيجة الحرص المشدد على تمويه الهوية والحدود التنظيمية، يخطئ كثيرون جداً في الاعتقاد بأن "رحلة إسرائيلية" هو مشروع تنظمه وتديره وزارة التربية والتعليم، بينما الحقيقة هي أن الجهة القائمة على هذا المشروع، إعدادا وتنظيما وتنفيذا، هي جمعية خاصة تدعى "بِريشيت" (التكوين) وهي ذات هوية سياسية واضحة تماما. من بين مؤسسيها: الحاخام موطي/ مردخاي ألون (أحد كبار الحاخامين في تيار الصهيونية الدينية) وآفي فرتسمان (أحد قادة حزب "البيت اليهودي" والنائب السابق لوزير التربية والتعليم). أما المتبرع المركزي والأساسي لهذه الجمعية فهو ملياردير كندي من الإنجيليين التبشيريين.

2. أموال طائلة من خزينة الدولة: بين الأعوام 2006 و 2017، وظفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة (من اليمين و"اليسار"!) ما يزيد عن 100 مليون شيكل في هذا المشروع وزادت نسبة الدعم المالي الحكومي لكل طالب مشارك فيه من 25% إلى 42%. ويتيح هذا السخاء الحكومي المكثف، من الأموال العامة، لهذه الجمعية عرض مشروعها هذا على المدارس الرسمية (الحكومية) بأسعار زهيدة، بل بالمجان تماما في كثير من الأحيان. وهذا هو العامل المركزي وراء نجاح هذا المشروع. وعلاوة على ذلك، تتكفل الدولة بتمويل وتغطية نفقات القوى البشرية العاملة في هذه الجمعية ـ كغيرها من الجمعيات اليمينية ـ من خلال اعتمادها الكلي تماما، تقريبا، على شابات منخرطات في "الخدمة المدنية" (أو: "الخدمة الوطنية")، خلافا للجمعيات الأخرى الناشطة في مجال التربية والتعليم.
3. "مزوّد وحيد" للسلطات المحلية: تعرّف وزارة التربية والتعليم هذا المشروع (رحلة إسرائيلية) بأنه "المزوِّد الوحيد" للسلطات المحلية في مجال الرحلات من هذا النوع، وهو ما يعفي هذه الجمعية من الواجب القانوني في المشاركة في مناقصات رسمية، التنافس ضمنها والخضوع لشروطها، عند التعاقد مع السلطات المحلية، مما يوسع دائرة تأثيرها (الجمعية) ويزيد من أرباحها المالية.

4. غياب التعددية: رغم إلصاق صفة "إسرائيلية" باسم هذه الرحلات، إلا أنها لا تشمل أي تمثيل لأي من التيارات الأخرى في اليهودية، وفي مقدمتها تلك التي تتبنى الأفكار العلمانية التي تميز الغالبية الساحقة من الطلاب المشاركين فيها، علاوة على عدم ضمانها أي تمثيل للقطاعات والشرائح المختلفة في المجتمع الإسرائيلي.

5. غسل دماغ إيديولوجي ـ سياسي: يحرص منظمو هذه الرحلات على تصويرها وكأنها تحظى بإجماع واسع بين الجمهور اليهودي الإسرائيلي، غير أن الحقيقة أنها مشبعة بالرسائل والمضامين السياسية الخاصة باليمين المتدين الاستيطاني. ومن هذه، على سبيل المثال فقط: حين يزور الطلاب المشاركون منطقة المستوطنات في "غوش عتصيون" في الضفة الغربية، لا يتم إعلامهم بأنهم قد عبروا "الخط الأخضر" وبأنهم يزورون منطقة "موضع خلاف ونزاع"، بل "تم محو الخط الأخضر من خارطة الرحلة التي يتم توزيعها على كل الطلاب المشاركين"!

6. شبكة غير برلمانية لليمين: تشكل هذه الجمعية وسواها من الجمعيات اليمينية جزءا أساسيا من "شبكة غير برلمانية تابعة لحزب البيت اليهودي"، على غرار المدارس الدينية اليهودية التي تشكل، في الواقع، فروعا غير رسمية لهذا الحزب تنشر أفكاره الإيديولوجية والسياسية وتقدم له المساعدات التنظيمية المختلفة.

7. المزيد من اليهودية، على حساب العلوم والديمقراطية: المبلغ الذي رصدته الحكومة للتعليم غير الرسمي في مجال التربية اليهودية وصل في العام 2015 إلى نحو 17 ضعفاً من المبلغ الذي رصدته لتعليم العلوم والتربية الديمقراطية والتعايش، وذلك على الرغم من التراجع المستمر في تحصيلات الطلاب الدراسية في المواضيع العلمية والتكنولوجية. كما يبين تحليل ميزانيات هذه الجمعية أن الطلاب اليهود في المستوطنات يحصلون، بصورة مستمرة ودائمة، على ميزانيات تفوق بكثير تلك التي يحصل عليها الطلاب في أية منطقة أخرى داخل إسرائيل، بما فيها منطقتا النقب والجليل.

8. من تقديس السبت إلى تقديس المستوطنات: ليس ثمة في وزارة التربية والتعليم أي جهاز لمراقبة عمل هذه الجمعية، ميزانياتها، مداخيلها ومصروفاتها، أو المضامين التي تنشرها في المدارس الرسمية (الحكومية). ونتيجة لذلك، كثيرا ما تتجاوز الشابات الناشطات فيها، المنخرطات في "الخدمة المدنية"، حدود مهامهن إذ تقدمن "دروساً" تتجاوز كثيرا حدود صلاحياتهن وتأهيلهن. ومن ضمن ذلك، على سبيل المثال: تقدم الشابات دروسا عن "ذكرى إسحاق رابين" وعن "التربية الجنسية بروح اليهودية"، بل وعن "أهمية بناء الهيكل الثالث"!! ورغم كون هذه الدروس "مشبعة بالمضامين والرسائل السياسية التي تشكل موضع خلاف في المجتمع الإسرائيلي"، إلا أن الهدف الأكبر من دمج هؤلاء الشابات فيها هو "خلق علاقة ترابطية ما بين الصهيونية الدينية والقيادة القيمية والسياسية، تحضيراً لأية قرارات حاسمة مستقبلية في القضايا السياسية والأمنية"!

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات