"مدونة الأخلاقيات الأكاديمية" التي يسعى وزير التعليم الحالي، نفتالي بينيت (رئيس حزب "البيت اليهودي")، إلى فرضها على المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، على الأساتذة الجامعيين العاملين فيها وعلى الحياة الأكاديمية بمجملها، لا يمكن اعتبارها والتعامل معها بوصفها أمرا "طارئا شاذا" على الحياة السياسية والعامة في إسرائيل، بل هي أمر يندرج تماما في سياقها، حركتها، مميزاتها واتجاهاتها عموما، وخاصة خلال السنوات الأخيرة على وجه التحديد.

 

والواضح، بما يرقى عن أي شك، أن هذه "المدونة" تشكل مدماكاً آخر في بنيان كامل ومتراصّ يدأب اليمين الإسرائيلي الحاكم، بمنهجية ومثابرة، على إرساء أسسه ودعاماته وتشييد أعمدته في مختلف مناحي الحياة العامة في إسرائيل، السياسية والاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، القضائية والتشريعية، التعليمية والإعلامية وغيرها، انسجاماً مع تصريحات متكررة أدلى بها قادة هذا اليمين، ومن حزب "البيت اليهودي" خصوصا، بشأن عزمهم على إحداث "ثورة" التغيير التي ستطال كل مرافق الحياة العامة في إسرائيل ـ تغيير يثبت حقيقة أن "اليمين هو الذي يحكم" ويترجمها على أرض الواقع. وهي "ثورة" تشكل في السنوات الأخيرة تحديداً مادة رئيسة لنقاش واسع جدا يدور بين سياسيي اليمين، إعلامييه ومثقفيه، جوهره: توجيه نقد حاد لممثلي اليمين الذين سيطروا على مقاليد السلطة في البلاد حتى الآن على خلفية ما أبدوه من تردد، تلكؤ وخوف في إحداث هذا التغيير. وهو الرأي الذي أكده، الآن أيضا، أحد قادة اليمين الإسرائيلي وعضو الكنيست السابق أرييه إلداد، في سياق الحديث عن "المدونة الأخلاقية" الجديدة، حين كتب (موقع "معاريف"): "لن أوجه إصبع الاتهام إلى أي شخص من اليسار، إنما إلى أنفسنا فقط. المحاضرون الجامعيون المحرّضون هم ذنبنا نحن جميعا، وليس ذنب اليسار فقط. لقد كبر هؤلاء وترعرعوا في أحواضنا نحن، جميعا. إنهم أعشابنا الضارة جميعا وعلينا جميعا وقف التحريض"!

"ثورة" يجري تنفيذها الآن على مراحل وبدفعات، من خلال خطوات مدروسة ومحسوبة، واحدة تلو الأخرى، تُتخذ يوميا في إطار تنفيذ هذه الاستراتيجية اليمينية الرامية إلى "تجسيد رغبة الشعب في إسرائيل والتعبير عنها"، كما عكستها نتائج الانتخابات البرلمانية خلال العقود الأخيرة. ولئن كان من العصي الإحاطة بكل هذه الخطوات والإجراءات في مثل هذا المقام، إلا أن النماذج لا تعد ولا تحصى أيضا. وتكفي الإشارة السريعة هنا إلى ممثلي حزب "البيت اليهودي" في الحكومة والكنيست للتدليل على ما نقول وتأكيده. فهذا ما فعله ويفعله بينيت نفسه في وزارته (وزارة التعليم)، كما تفعل أييلت شاكيد في وزارة العدل (التشريعات القانونية والتعيينات في سلك القضاء)، أوري أريئيل في وزارة الزراعة (من خلال "مديرية تطوير البدو في النقب" ودائرة الاستيطان التابعتين لهذه الوزارة)، إيلي بن دهان في منصب نائب وزير الدفاع، نيسان سلوميانسكي في منصب رئيس رئيس لجنة الدستور، القانون والقضاء في الكنيست، بتسلئيل سموتريتش في منصبه نائب رئيس الكنيست ورئيس "اللوبي لدعم وتقوية وتطوير الجليل". وهذا، بالإضافة إلى ما تفعله ميري ريغف في وزارة الثقافة وبنيامين نتنياهو في وزارة الاتصالات.

وعلى هذا، فإن الضجة الواسعة التي أثارتها "مدونة الأخلاقيات الأكاديمية" هذه، منذ نشرها قبل بضعة أيام، وإنْ استطاعت تعطيلها مؤقتاً بإجهاض محاولة إقرارها في الهيئة الرسمية المخولة، إلا أن المؤكد أنها قد استطاعت، بمجرد نشرها والسجال حولها، إحداث تغيير جوهري هام يتمثل في إدخال عنصر التخويف والردع في الحياة الأكاديمية، سواء على مستوى إدارات المؤسسات الأكاديمية المختلفة التي تحرص على عدم المسّ (من جانب الوزير ووزارته) بميزانياتها ومخصصاتها المالية المختلفة، أو على مستوى أعضاء السلك الأكاديمي، بدرجاته المختلفة، أو على مستوى الطلاب وهيئاتهم التمثيلية المختلفة.

يمكن القول، من دون الوقوع في شرك المبالغة إطلاقا، إن ضرر هذه "المدونة الأخلاقية" قد أصبح ناجزا على أرض الواقع، بالرغم من موقف "لجنة رؤساء الجامعات" التي عبر بيانها عن رفض هذه المدونة ومعارضة تبنيها وتطبيقها، بالرغم من إعلان "اتحاد الطلاب الجامعيين" رفضه ومعارضته لهذه المدونة وتهديده بإعلان الإضراب في حال الإصرار على تطبيقها، وبالرغم من معارضة قطاع واسع من المحاضرين والأساتذة الجامعيين أيضا وتأكيدهم على أنهم لن يلتزموا بنصوص هذه المدونة وأحكامها في حال إقرارها واعتمادها بصورة رسمية.

إن مجرد إعداد هذه المدونة ونشرها يشكلان، في حقيقة الأمر، إعلاناً تصريحيا رسميا يوضح للجميع ما هي "رغبة القائد" وتبعات عدم الامتثال لها و/ أو الخروج عن طوعها. ولئن أشرنا إلى الضرر الذي أصبح متحققا، بمجرد نشر هذه المدونة، فإن من الواجب التنويه إلى أن أصحابها ومؤيديها يعتبرونها إنجازا، أو خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح على الأقل. وهذا ما عبر عنه رئيس حركة "إم ترتسو" اليمينية (التي كانت محركا رئيسيا في عملية إعداد المدونة ونشرها) حين قال: "إنه يوم عيد للصهيونية وللطلاب في الجامعات، لأعضاء السلك الأكاديمي ولمواطني إسرائيل. لقد حققت الصهيونية اليوم انتصارا وها هي تعود لترفع رأسها من جديد"!

عن القشّة التي أشعلت "الثورة" ومنظّرِها!


مبادرة الوزير بينيت لوضع "المدونة الأخلاقية" ليست جديدة ولم تظهر فجأة، بل جرى تهيئة الأرضية لها خلال فترة طويلة تخللتها شكاوى عديدة قدمها أعضاء ونشطاء حركة "إم ترتسو" في الجامعات، بصورة منهجية ومثابرة، ضد أساتذة جامعيين وهيئات إدارية في بعض المؤسسات الأكاديمية على خلفية تصريحات سياسية أطلقها هؤلاء وعلى خلفية نشاطات سياسية جرى تنظيمها. ثم اهتمت هذه الحركة بنقل هذه الشكاوى، أيضا، إلى لجنة التربية والتعليم التابعة للكنيست، والتي ناقشت الموضوع في أكثر من جلسة خصصتها له.

غير أن ثمة "حادثة" عينية كانت بمثابة القشة التي استغلها بينيت لإشعال "ثورة" المدونة الأخلاقية الأكاديمية فأصدر، على خلفيتها المباشرة وبذريعتها، كتاب التعيين للبروفسور آسا كاشير لوضع هذه المدونة. والمقصود بتلك "الحادثة" ما كتبه ونشره (على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك") اثنان من الأساتذة الجامعيين البارزين في إسرائيل ضد وزيرة العدل، أييلت شاكيد، في كانون الأول 2015، هما البروفسور عميرام غولدبلوم ود. عومر كسيف. كتب غولدبلوم إن شاكيد هي "وزيرة يداها مضرجتان بالدماء، في حكومة فاشية تسلب الحقوق وتميز ضد منظمات حقوق الإنسان"، بينما كتب كسيف إن شاكيد هي "نازية جديدة، حثالة وشريكة غير مباشرة في إبادة شعب".

استغلت أوساط اليمين الإسرائيلي هاتين الجملتين لإثارة ضجة حادة وواسعة آنذاك، دفعت الوزير بينيت إلى الإعلان، من على منصة الكنيست، أن "هذه حملة التحريض الأخطر ضد وزير للعدل منذ قيام الدولة... تحدثت مع رؤساء الجامعات وطالبت باجتثاث هذه الظاهرة من جذورها"!

إثر تلك الضجة وما رافقها، أصدر بينيت، بصفته رئيس "مجلس التعليم العالي"، كتاب التعيين إلى كاشير لإعداد "مدونته الأخلاقية".

هنا، تنبغي الإشارة إلى أن كاشير، أستاذ الفلسفة السابق في جامعة تل أبيب، هو الذي كان قد وضع "المدونة الأخلاقية" للجيش الإسرائيلي، والتي تنص صراحة على أن "الجنود، بمجرد كونهم جنوداً، يعرضون أنفسهم للخطر. ولذا، ليس مطلوبا منهم تعريض أنفسهم إلى خطر إضافي زائد من أجل عدم المس بمواطنين مدنيين لدى العدو"! وهو نفسه الذي صاغ الإجراء العسكري المعروف باسم "إجراء هانيبال" (هنيبعل) الذي يتيح للقادة العسكريين قتل جندي لتلافي وقوعه في الأسر بين أيدي العدو.

بخطوته الأخيرة هذه، وضع "المدونة الأخلاقية الأكاديمية"، أثار كاشير موجة من الانتقادات الحادة جدا ضده شخصيا، من جانب زملائه الأساتذة الجامعيين والطلاب، كما من جانب أوساط سياسية واجتماعية وثقافية عديدة أخرى وصفته بأنه "كاتب بلاط".

وردّ كاشير على هذه الانتقادات فقال إنها، في أغلبيتها الساحقة، تصدر عن "الهوامش الزاعقة" و"تفتقر إلى الموضوعية"! وأضاف أن "مشكلة المعارضين للمدونة الأخلاقية هي شخص الوزير بينيت... في اللحظة التي يوقع فيها بينيت على شيء ما، يتخذ اليسار موقف المعارضة الفورية"!!

في المقابل، رأى كثيرون جدا من زملاء كاشير في الأكاديميا أنه قام بعمل خطير جدا إذ شرعن المسّ العميق والخطير بالحريات الأكاديمية وبحرية التعبير، الأكاديمية والعامة، وجعل من نفسه أداة لضرب هذه الحريات، على كل ما يترتب على ذلك من نتائج وتبعات بعيدة المدى.

فقد اعتبر البروفسور إيال غروس، أستاذ الحقوق في جامعة تل أبيب، أن ما كتبه كاشير في هذه "المدونة" ينطوي على "أخطار جسيمة، ليس على الأكاديميا فقط، بل على المجتمع الإسرائيلي برمّته". وأوضح غروس أن الخطر الأكبر يكمن في أن هذه "المدونة" تشكل جزءا من عملية تطبيع للوضع القائم (ستاتوس كو) وعرضها على أنها الإمكانية الوحيدة المتاحة والمسموحة!

وقال البروفسور ليف غرينبرغ، رئيس دائرة علم الاجتماع وعلم الإنسان في جامعة بن غوريون في النقب، إن "القبول بمدونة أخلاقية تضعها شرطة الأفكار بالتعاون مع المفوضين الحكوميين والسياسيين سيشكل خيانة لعلم الاجتماع وللمجتمع"!

وقال عضو الكنيست البروفسور يوسي يونا، الأستاذ الجامعي في جامعة بئر السبع سابقا، إن الرغبة في "تربية" الأكاديميا وترويضها لتكون غير سياسية مثلها كمثل إقامة فرقة موسيقية يحظر عليها إسماع صوتها... الدعوة إلى "عدم تسييس" الأكاديميا هي الدعوة الأكثر سياسية، لكن بصيغتها الأكثر ظلامية!

نصوص تكشف حقيقة الأهداف!

في جلسة الحكومة الأسبوعية قبل الأخيرة، تحدث وزير التعليم بينيت عن "مشروع المدونة الأخلاقية الأكاديمية" وقال إن الغرض منه "وضع حد لتسييس التعليم الجامعي ومؤسساته" (على غرار سعي زميلته شاكيد إلى "وضع حد لتسييس القضاء ومؤسساته"!). وهو ما أشار إليه بينيت، أيضا، في كتاب التعيين الذي أصدره لمعدّ هذه المدونة، البروفسور آسا كاشير، إذ كتب: "تمشياً مع قرارات سابقة، أيضا، صدرت عن مجلس التعليم العالي، ينبغي وضع حد لوضع يعاني فيه طلاب أو محاضرون من الرفض، الإسكات، الإقصاء أو التمييز بسبب هويتهم أو بسبب معتقداتهم الشخصية، بما فيها معتقداتهم السياسية... نحن، جميعا، ملزمون بصون حق الطالب في التعليم في مؤسسة للتعليم العالي من دون إجباره على الإصغاء إلى مواعظ سياسية لا علاقة لها بموضوع التعليم العيني أو مجاله"!

لكنّ الحقيقة أن بينيت وحزبه وجناحه السياسي عموما لا يعارضون إلقاء "مواعظ سياسية" في غرف التعليم الجامعي فقط (والتي يرفضونها ويعارضونها هي "مواعظ سياسية" من لون واحد فقط، بالطبع: اللون الذي لا ينسجم مع لونهم هم ولا يروق لهم!)، بل يحرّمونها في الحرم الجامعي كله، كما يحرّمونها خارج نطاق الحرم الجامعي أيضا. وبهذا المعنى، فهم يريدون تحريم التعبير، إطلاقاً، عن آراء ومواقف سياسية لا تنسجم مع مواقفهم وآرائهم.

هذا ما تبينه، على نحو مؤكد، قراءة "مدونة الأخلاقيات الأكاديمية" المقترحة بالكامل وبتمعن، كما تثبت صدق ادعاء مدير حركة "إم ترتسو"، متان بيلغ، بقوله إن "المدونة الأخلاقية التي وضعها البروفسور آسا كاشير تتبنى، بصورة جلية، مطالب حركة "إم ترتسو"... لقد كشفنا خلال السنوات الأخيرة ظواهر كثيرة معادية للصهيونية في الأكاديميا الإسرائيلية، كما كشفنا مؤخرا عن تسلل تنظيمات اليسار المتطرف إلى البرامج أكاديمية والعيادات المهنية ومارسنا ضغوطا كبيرة ومتواصلة إصلاح هذا الغبن"! وأضاف: "المدونة الأخلاقية هي خطوة هامة وصحيحة في الطريق نحو تحقيق الهدف ـ وقف التسييس في الأكاديميا... نحن واثقون بأن الوزير بينيت سيحرص على إقرار هذه المدونة الأخلاقية في مجلس التعليم العالي، سيهتم بتطبيقها وبفرضها"!


تكشف نصوص المدونة أن الهدف الذي تسعى "إم ترتسو" إلى تحقيقه، بواسطته ومن خلال ممثليها السياسيين في الحكومة على رأسهم وزير التعليم نقتالي بينيت، هو إخراس أي صوت سياسي معارض لنهج اليمين وأطروحاته، من خلال وصمه ونزع الشرعية عنه وعن أصحابه أولاُ، ثم من خلال ترهيبهم وتسليط سيف العقوبات فوق رقابهم.

ثمة مناطق حرام مركزية تضرب "المدونة الأخلاقية" حولها سياجات عالية جدا وتحظر الاقتراب منها، يعددها كاشير (ومفسّروه من "إم ترتسو" وأوساطها) صراحة، بعد إدراجها ضمن "النشاط السياسي" (المحظور)، مع الإشارة إلى أن تعبير "النشاط السياسي"، وفق التعريف المثبت في مستهل المدونة، يشمل التعبير أيضا، وليس العمل فقط! ومع الإشارة، أيضا، إلى استحالة الفصل ما بين "الأكاديمي" و"السياسي"، في العديد من المساقات والمواضيع الدراسية الجامعية في مختلف الفروع والعلوم، الإنسانية وحتى الطبيعية، ما يعني بالتالي استحالة تدريس تلك المواضيع والمساقات.

هذه المناطق الحرام تشمل: معارضة الاحتلال، الدعوة إلى المساواة، الدعوة إلى السلام الحقيقي، تبني أو عرض الرواية الفلسطينية بشأن أصل النزاع ونتائجه وشروط حله، نشاطات ومنظمات تسعى إلى رفع الظلم والغبن عن فئات اجتماعية مضطهَدة أو مسحوقة (وخاصة "العيادات الحقوقية المهنية" الناشطة في العديد من مؤسسات التعليم العالي) ومقاطعة الجامعات الإسرائيلية أو مؤسسات بحثية فيها، ضمن حملة المقاطعة الدولية لإنهاء الاحتلال، سواء بالدعوة المباشرة إلى المقاطعة أو بتبرير وتأييد دوافعها وأهدافها.