المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قال البروفسور إيال غروس، أستاذ القانون في جامعة تل أبيب، إنه خلال الزمن القصير الذي مرّ منذ نشر اقتراح البروفسور آسا كاشير بشأن "مدونة أخلاقيات للسلوك المناسب في مجالات التطابق بين النشاطات الأكاديمية والنشاطات السياسية"، برزت انتقادات كثيرة لهذا الاقتراح.

 وأضاف غروس في مقالة نشرها في صحيفة "هآرتس"، أن هذا الاقتراح مرفوض رفضاً كلياً. وهو يهدد الحرية الأكاديمية وحرية التعبير، ويحتوي على أسس جدانوفية ومكارثية. كما ينطوي الاقتراح على خطر كبير ليس فقط على الحياة الأكاديمية، بل على المجتمع الإسرائيلي بأكمله. وعلى الرغم من ذلك، يجب أن نتحدث ليس فقط عن ضرره العام، بل أيضاً عن مضمونه المرتبط بما يُعتبر "سياسياً".

وتابع: لنتخيل محاضراً يقول لطلابه إن إسرائيل دولة ديمقراطية - أو يهودية ديمقراطية - تجسّد الرؤيا الصهيونية، وإن إعلان الاستقلال والقوانين الأساسية يشكلان قاعدة لدفاع فعال عن حقوق المواطن فيها. في الوضع الحالي- إذا جرى تبني مدونة الأخلاقيات التي اقترحها كاشير- فلن يتهم أحد المحاضر بأن كلامه يمكن أن يفسر"بصورة طبيعية كنشاط سياسي". في المقابل، لنتخيّل محاضراً آخر يقول لتلامذته إنه بسبب الاحتلال العسكري وباسمه تجري السيطرة على ملايين الناس مجردين من الجنسية، وإن إسرائيل لا تلتزم بالمعايير الأساسية للديمقراطية، أو على الأقل هناك شك كبير في ديمقراطيتها. وإذا قال هذا المحاضر أيضاً إنها أُقيمت في سياق نهب الشعب الفلسطيني ونكبته، وحالياً، على الرغم من البند الذي ينص على المساواة في وثيقة الاستقلال، وعلى الرغم من قوانين الأساس، فإن إسرائيل هي دولة "إثنوقراطية" وليست دولة ديمقراطية، فهذا المحاضر سيعتبر أنه يتعاطى السياسة خلال عمله التدريسي، وإذا جرى تبني مدونة الأخلاقيات فإنه قد يتعرض إلى إجراءات تأديبية.

وأضاف أن فرض القيود على تعليم يُعتبر سياسياً يشتمل على انحياز واضح لصالح الأمر الواقع الذي لا يعتبر سياسياً بل حيادياً. وهذا الانحراف يمكن أن يؤثر في موضوعات أخرى. على سبيل المثال، فالمحاضر الذي يبحث في سبل حماية حرية الملكية والاتفاقات والدفاع عنهما لضمان الحريات في المجتمع، على الأغلب لن يُعتبر أنه يتطرق إلى السياسة. وفي المقابل، محاضر يبحث هذه المسألة ليظهر أن حرية الملكية والاتفاقات هي جزء من النظام الرأسمالي الذي يحافظ على عدم مساواة اقتصادية، يمكن أن يتهم بالعمل السياسي وبنشر أفكار ماركسية.

إن التعليم الجيد لا يمكن أن يكون موجهاً، ويجب أن يحرص دائماً على عرض الأوجه المختلفة في كل نقاش. لكن في الواقع الحالي، فإن عرض وجهة نظر واحدة فقط من الرواية لا يعتبر على الأغلب عملاً سياسياً إذا كانت هذه الوجهة تتماهى مع الوضع القائم، بينما يُعتبر مجرد عرض وجهة نظر أخرى من الرواية عملاً سياسياً. إن جزءاً أساسياً من التفكير النقدي ضروري، ليس فقط للحياة الأكاديمية بل للمجتمع بأسره، يعني طرح أسئلة وإثارة شك حين تتطلب الحاجة. لكن إثارة مثل هذا الشك يعتبر كلاماً سياسياً، بينما عدم إثارة الشك في الوضع القائم لا يعتبر كذلك.

من أجل هذه الأسباب يشعر أنصار حركة "إم ترتسو" بفرح غامر حيال مدونة كَاشير. وهم يدركون أن تطبيقها سيفرض التمييز بين ما يعتبر سياسياً وغير سياسي. بناء على ذلك، من الخطأ أن نفهم المدونة التي هي نتاج شاكيد وبينت فقط من خلال الضرر الذي يمكن أن تلحقه بحقوق الإنسان، ويجب أن نفهم هذه المدونة كجزء من تطبيع الوضع القائم وجعله الإمكانية الوحيدة.

وختم غروس: يجب رمي مدونة الأخلاقيات هذه في سلة المهملات. وحتى لو جرى ذلك فإن الضرر قد حدث، ومجرد تقديمها على أنها "روح القائد" يشكل عاملاً خطراً يمكن أن يكون له تأثير سلبي يمنح شرعية للمكارثية.

من ناحية أخرى قال البروفسور أفيعاد كلاينبرغ إن بينيت الذي يقف وراء "مدونة الأخلاقيات الأكاديمية" يسعى أيضاً لفرض الاستسلام على الفلسطينيين من خلال حديثه عن "سلام اليمينيين".

وأضاف هذا الأستاذ الجامعي في مقالة نشرها في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أن بينيت سكّ أخيراً مصطلحاً جديداً هو "سلام اليمينيين". وبحسب ما قاله (خلال مؤتمر صحيفة "هآرتس" للسلام الذي عقد مؤخراً)، فإن هذا السلام هو انعدام الحرب، وهو السلام المُنطلق من القوة. وفي هذا لا خلاف مع بينيت، فعندما يكون الطرف الموقع على اتفاق السلام عديم القوة، فإن الاتفاق هو اتفاق استسلام لا اتفاق سلام. لكن ما يجب ملاحظته هو أنه في عالم بينيت، كما يتضح مما قاله، لا وجود لطرف آخر أو لحاجاته وإرادته وقدراته وحقوقه، ونحن فقط من نقرّر الخطوط الهيكلية للتعايش وفقاً لحاجاتنا الديموغرافية والأمنية والثقافية. وفي ظل هذا العالم يكون بإمكان أشخاص مثل بينيت أن يقرروا مثلاً أن "القدس فوق المنطق وفوق السلام"، وأننا نحن فقط نقرر ما هي حدود الحكم الذاتي لفلسطين، وبالطبع ما هي حدود الدولة ونتيجة لذلك ما هي حدود "الكيان الفلسطيني". وإذا كنا أقوياء بما يكفي سيضطر الطرف الآخر إلى قبول إملاءاتنا. بكلمات أخرى، السلام ليس خطوة اعتراف بالآخر ومحاولة التوافق معه بل خطوة من طرف واحد لا تعكس إلا حاجاتنا.

وتابع: لا شك في أن هذا التفكير النرجسي لـ"السلام" ليس من اختراع بينيت. فعلى مدى التاريخ حاولت القوى العظمى أن تتصرّف على هذا النحو مع القوى الضعيفة، أي أنها أملت الشروط وقام الطرف الضعيف بالتوقيع. وهذا هو جوهر "سلام اليمينيين" الذي يدعو إليه وزير التربية والتعليم. لكن على مدى التاريخ ثبت أن مثل هذا السلام ظل عاجّاً بالمشاكل. وحتى الكثير من الإمبراطوريات العظمى اكتشفت بأن الأطراف المُهانة والغاضبة التي قبلت التوقيع على اتفاقيات سلام كهذه وهي تعض على النواجذ سرعان ما التجأت إلى وسائل غير لطيفة للتعبير عن عدم رضاها. فالانكليز مثلاً احتلوا فلسطينهم، إيرلندا، في القرن الحادي عشر، و"انطلاقاً من القوة" أملوا على الطرف الضعيف شروطهم (بالمناسبة تلك الشروط كانت أفضل بكثير من الشروط التي نعرضها على الفلسطينيين وتضمنت حقوق مواطنة كاملة بما في ذلك حق الانتخاب للبرلمان البريطاني). ومثلما فعلنا بعث الانكليز بالمستوطنين إلى أرجاء إيرلندا كافة، وبين الفينة والأخرى قاموا بشنّ حملات عسكرية كان الهدف منها كيّ الوعي المحلي. ومع ذلك بعد 80 سنة إرهاب أو مقاومة مسلحة، جلس الطرفان على طاولة المفاوضات وتوصلا إلى اتفاق تم فيه أخذ حاجات الإيرلنديين في الاعتبار. وكانت فوارق القوة بين إنكلترا وإيرلندا كبيرة لدرجة أن هذه الأخيرة لم تشكل بالنسبة إلى الأولى أكثر من مجرد مصدر قلق.

وختم: إن السؤال المطروح هو ما إذا كان بوسعنا أن نسمح لانفسنا بفكرة السلام اليميني وفقاً لمفهوم بينيت؟. في الوقت الحالي يبدو أن الجواب هو نعم، لكن عند النظر إلى الأرقام والخرائط ومنظومة المصالح العالمية، فإن هذه النعم تهتز. صحيح أن إسرائيل تتمتع حالياً بتفوق عسكري واضح، ومن السهل على المرء أن يثمل من هذا، لكن يظل من غير المُجدي السياقة في حالة ثمل.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات