المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أقرت الحكومة الإسرائيلية قبل أيام زيادة أخرى لميزانيات معاهد المتدينين المتزمتين "الحريديم"، بـ 52 مليون شيكل، لتدخل إلى الميزانية الأساس، التي ارتفعت خلال أقل من عامين بنسبة 118%. وهذا الارتفاع الثالث الذي تحظى به هذه المعاهد الدينية، التي تضم عشرات آلاف رجال "الحريديم"، الذين يمضون أوقاتهم في دراسة التوراة، مقابل حصولهم على مخصصات اجتماعية. ومن خلف هذه الأرقام والاحصائيات، تكمن الأزمة الأكبر التي تتوقعها إسرائيل مستقبلا، وهي استمرار الارتفاع الحاد في أعداد "الحريديم"، الذين من وجهة نظر المؤسسة الحاكمة يشكلون عبئا اقتصاديا متشعبا، وأيضا عبئا اجتماعيا يقلق الجمهور العلماني، ثم عبئا أمنيا، كونهم يمتنعون عن الانخراط في الجيش، لأسباب دينية، رغم تطرفهم السياسي اليميني.

فعلى مدى سنين، حاولت الكثير من التقارير الرسمية عدم عرض حقيقة أعداد "الحريديم"، في محاولة لتقليص الظاهرة، التي تتنامى أساسا بفعل التكاثر الطبيعي. إلا أن سلسلة من التقارير أثبتت أن عدد "الحريديم" باتوا أكثر من مليون نسمة، وهم يشكلون حوالي 5ر15% من اجمالي اليهود، وأكثر من 25% من المواليد اليهود في السنوات القليلة الأخيرة، وأكثر من 18% ممن دون سن 18 عاما، وأقل من 10% بين المسنين اليهود.

وعمليا، فإن الارتفاع الحاد في معدلات الولادة لدى "الحريديم"، 8ر6 إلى 7 ولادات للأم، وتكاثرهم سنويا بنسبة 8ر3%، كانا العامل الأكبر والأساس لارتفاع نسبة تكاثر اليهود، وتقليص الفجوة بين تكاثر العرب واليهود. ومن جهة رأت المؤسسة الحاكمة أن تقليص فجوة التكاثر خاصة أمام التراجع المستمر في نسبة تكاثر العرب (6ر2% حاليا)، أمر ايجابي على مستوى العرب واليهود. ولكن من ناحية أخرى، فإن المؤسسة ذاتها قلقة من مستقبل طبيعة المجتمع اليهودي، والانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية لارتفاع نسبة "الحريديم" على اليهود أنفسهم.

وينبع هذا القلق من كون "الحريديم" يعيشون نمط حياة تقشفية قائمة على الشرائع، وغالبية الرجال منهم لا تنخرط في سوق العمل المفتوح، إذ تقدّر نسبة المنخرطين في سوق العمل من الرجال حوالي 40%، في الشريحة العمرية من 15 إلى 64 عاما، بينما النسبة في الجمهور الواسع تصل إلى 72%، بينما بين نساء "الحريديم" تصل نسبة انخراطهن في سوق العمل إلى 52%. وتبقى النسبة منخفضة أيضا في الشريحة الثانية من جيل العمل الفعلي، من 25 إلى 64 عاما، إذ حسب تقديرات نشرها مكتب الاحصاء المركزي في الأسبوع الماضي، فإن نسبة رجال "الحريديم" من هذه الشريحة العمرية في سوق العمل باتت 51%. وهي نسبة تعد عالية نسبيا مقارنة بما مضى، علما ان نسبة المشاركة لدى الرجال اليهود والعرب من هذه الشريحة تتراوح ما بين 79% إلى 82%.

كذلك فإن "الحريديم" لا يتعلمون بموجب المنهاج التعليمي الرسمي العام، بل لديهم منهاج خاص بهم، بعيد عن المواضيع العصرية، فحتى موضوع الرياضيات مقلص جدا فقط لتعلم الأساسيات. وهذا يقف عائقا امامهم للانخراط في سلك التعليم العالي، والانتقال منه إلى سوق العمل العصرية. وحينما يجري الحديث عن انخراط في سوق العمل، يُشار إلى ان الغالبية الساحقة من الرجال تعمل داخل مجتمعات "الحريديم" في مسارات عمل ليست انتاجية.

يضاف إلى هذا، امتناعهم عن الانخراط في الخدمة العسكرية الالزامية، إلا في حالات قليلة جدا. ولدى الطوائف الغربية من "الحريديم"، فإن نسبة الانخراط هامشية جدا، وأقرب إلى الصفر.

وتسعى إسرائيل في السنوات الأخيرة إلى قلب هذا الواقع بعدة مسارات، وبموازاة ذلك، الفصل بين "الحريديم" والجمهور العلماني، من خلال اغراء "الحريديم" بتجمعات سكانية خاصة بهم، باتت غالبيتها مستوطنات في محيط منطقة القدس. ولكن المحاولة الأكبر كانت في ظل حكومة نتنياهو السابقة، التي استثنت "الحريديم" مقابل ضم حزب "يوجد مستقبل" العلماني، الذي لاقى تجاوبا من تحالف أحزاب المستوطنين، لتوجيه ضربتين أساسيتين لجمهور "الحريديم"، أولهما ضرب الميزانيات للمعاهد الدينية وتقليصها بأكثر من النصف، وثانيا سن قانون يفرض الخدمة العسكرية الالزامية على شبانهم ولكن تدريجيا.

وقد أدى هذا إلى ارتفاع ملحوظ في انخراط رجال "الحريديم" في سوق العمل، ولكن سرعان ما توقف هذا، إذ في اليوم التالي لخروج "يوجد مستقبل" من حكومة نتنياهو في خريف العام 2014، وقع نتنياهو على مرسوم يعيد قسما كبيرا من ميزانيات معاهد "الحريديم" مقابل دعم أحزابهم لنتنياهو في الحكومة التي ستنشأ بعد انتخابات ربيع العام 2015. وهذا ما كان.

وبعد الانتخابات تضمنت اتفاقية الائتلاف بين حزب الليكود وكتلتي "الحريديم"، إعادة ميزانيات معاهدهم إلى سابق عهدها، والغاء قانون التجنيد الالزامي. ولكن كما ذكر، فإن الميزانيات لم تعد إلى مستواها السابق فحسب، بل مع زيادة ملحوظة. وحسب تقارير الاسبوع الماضي، فإن اجمالي ميزانيات معاهد "الحريديم" ارتفعت من 564 مليون شيكل بعد تقليصها في العام 2013، إلى 224ر1 مليار شيكل (331 مليون دولار)، بعد رفعها في الاسبوع الماضي بأكثر من 14 مليون دولار.

ويحصل "الحريديم" على سلسلة ميزانيات، ومخصصات اجتماعية في مسارات متعددة، منها ما يتم دفعه لطلاب المعاهد الدينية، ومنها ما يسمى "ضمان الدخل"، اضافة إلى أن حصتهم من مخصصات الأولاد التي تتلقاها كل عائلة في إسرائيل عن كل ولد دون سن 18 عاما، أكثر بكثير من نسبتهم في المجتمع، نتيجة كثرة الولادات لديهم.

ولكن كل هذه المخصصات لا تخرجهم من دائرة الفقر، الذي نسبته بينهم تفوق ثلاثة اضعاف نسبتهم بين اليهود. فحسب تقرير الفقر الأخير الرسمي الصادر في نهاية العام الماضي، عن العام 2015، فإن نسبة الفقر بين "الحريديم" وحدهم بلغت 4ر55% وهذا يعد هبوطا حادا قياسا بالعام 2014، حينما لامست النسبة 60%. وعلى مستوى العائلات 6ر48%، مقابل نسبة 3ر54% في العام 2014، في حين أن نسبة الفقر بين اليهود من دون "حريديم" هي كالتالي: 5ر7% إلى 8% على مستوى الافراد، وأكثر من 10% بين الأطفال، و7ر1% بين المسنين.

ونشير هنا إلى أن التقرير الرسمي للفقر يتعاطى مع المداخيل المسجلة لدى السلطات الرسمية، والميزانيات الرسمية التي يتلقاها الجمهور. إلا أنه لدى "الحريديم" تتسع باستمرار ظاهرة "الاقتصاد الأسود"، وهي ميزانيات ضخمة يتلقونها من مصادر خارجية خاصة بهم، ومنها يديرون معاهد ومؤسسات تدفع الرواتب نقدا، بعيدا عن سلطة الضريبة. وهذا منتشر بشكل خاص لدى الطوائف الغربية (الأشكناز)، والأكثر بين طائفة ساتمر، التي لا تعترف بإسرائيل رسميا، ويقدر عدد ابنائها بحوالي 7% من اجمالي "الحريديم".

ارتفاع عدد طلاب المعاهد الدينية

ويقول تقرير أخير لوزارة التعليم الإسرائيلية، صدر قبل أيام، إن أعداد طلاب المعاهد الدينية للحريديم ارتفعت في العامين الماضيين بنسبة 16%، مقارنة مع ما كان في العام 2014. وحسب التقديرات، فإن عدد طلاب المعاهد بلغ 74 ألفا، مقابل حوالي 63 الف طالب في العام 2014. ونشير إلى أن هؤلاء ليسوا في جيل طلبة المدارس، بل هم من كافة الأعمار. كما أن هذه الأعداد لا تشمل الطواقم الادارية والتعليمية في المعاهد، التي ميزانياتها تبقى منفصلة عن الميزانية المشار اليها، والتي يتم صرفها كمخصصات على طلاب المعاهد.

وشهدت نسبة رجال "الحريديم" في سوق العمل في العامين الماضيين جمودا تقريبا، من 2ر51% في العام 2015، إلى 7ر51% في العام الماضي 2016، مقابل نسبة لم تتعد 44% حتى العام 2013. وهذه نسبة تشكل أقل بـ63% من نسبة انخراط الرجال اليهود في سوق العمل. كما أن نسبة انخراط نساء "الحريديم" في سوق العمل شهدت هي أيضا جمودا عند 72%. وفي الحالتين يجري الحديث عن الشريحة العمرية الفعلية لسوق العمل، ما بين 25 إلى 64 عاما.

وحسب التوقعات، فإنه مع ارتفاع ميزانيات المعاهد الدينية، ستستمر أعداد الطلاب في الارتفاع، أيضا في العام الجاري على الأقل، بمعدل نسبة 8%، وهي ضعفا نسبة التكاثر، ما يعني إما جمود نسبة الانخراط في سوق العمل، أو حتى تراجعها.

وكان تقرير آخر، صدر في الاسابيع الأخيرة، أكد أنه بالرغم من كل المحفزات التي قدمتها الحكومات الأخيرة، ومجلس التعليم العالي في السنوات القليلة الماضية، لرفع نسبة "الحريديم" في معاهد التعليم العالي، إلا أن نسبتهم هي 2ر4%، أي ثلث نسبتهم بين الجمهور العام. وهذا يعد ارتفاعا بنسبة 16% عما كان في العام 2009. وللمقارنة، فإن نسبة العرب في معاهد التعليم الإسرائيلية للقب الأول باتت 14%، إذ تقلصت الفجوة مع نسبتهم من الشريحة العمرية للتعليم العالي (21% من دون القدس)، إلا أن هذه النسبة تتقلص أكثر فيما لو تم ضم الطلاب العرب في الخارج.

كل هذه المعطيات تقلق المؤسسة الحاكمة بسبب واقع اليوم، وكذلك لأنها ستتزايد مستقبلا طالما استمرت طبيعة حياة "الحريديم" من حيث معدل الولادات ونسبة التكاثر، ونمط الحياة التقشفية، وطبيعة التعليم المدرسي، وموقفهم من الانخراط في سوق العمل، وفي الجيش. وحسب أبحاث سابقة، فإن نسبة "الحريديم" بين اليهود سترتفع إلى أكثر من 30% في غضون عقدين أو أقل، ونسبة مماثلة للتيار الديني الصهيوني، مقابل استمرار تراجع نسبة العلمانيين، التي ستقل عن 40%، ما سيشدد أكثر القوانين والأنظمة الدينية المفروضة على المجتمع والتي تتدخل في أدق تفاصيل حياته.

المصطلحات المستخدمة:

الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات