المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا تزال تتردد وتتعالى أصوات الجدل الإسرائيلي الذي أثير قبل بضعة أسابيع، كما في هذه الأيام من كل عام، تزامناً مع إحياء إسرائيل "يوم القدس"، الذي صادف هذه السنة في أوائل شهر حزيران الأخير (في الرابع منه تحديدا، علماً بأن تاريخ هذا اليوم يتحدد وفق التقويم العبري). و"يوم القدس" هو "يوم عيد وطني" في إسرائيل أقره الكنيست في إطار "قانون يوم القدس"، الذي سنّه في العام 1968، لإحياء ذكرى "توحيد شطري المدينة" تحت السيادة الإسرائيلية، في أعقاب احتلال القدس الشرقية في حزيران 1967. ويُطلق على هذا اليوم في إسرائيل، أيضا، أسماء "يوم تحرير القدس"، "يوم حرية القدس" أو "يوم توحيد القدس"، من منطلق اعتبار فرض السيادة الإسرائيلية على القدس العربية، بما فيها البلدة القديمة، "انعتاقاً من احتلال أجنبي" (!)، وهي النظرة نفسها التي جسدها وكرّسها، أيضا، "قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل" الذي سنّه الكنيست في 30 تموز 1980 وأقر ضمّ القدس المحتلة إلى إسرائيل واعتبرها "عاصمتها الموحدة الأبدية". وهو القانون الذي ضرب عرض الحائط بالقرارات التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي، وخاصة القرارين 476 و 478 لسنة 1980، وقبلهما القرارين 250 و 253 لسنة 1968، اللذين اعتبرا جميع الإجراءات الإدارية و التشريعية التي قامت بها إسرائيل، بما في ذلك مصادرة الأراضي والأملاك التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في الوضع القانوني للقدس "إجراءات باطلة"!

ويتصاعد الجدل، تباعاً، تفاعلا مع ما تقوم به حركة سياسية جديدة من نشاطات وما تعرضه من طروحات تتعلق بواقع مدينة القدس ومستقبلها كعاصمة "يهودية وصهيونية" لدولة إسرائيل وما يستدعيه هذا من "حلول" ينبغي طرحها وتنفيذها لما تصفه الحركة بأنه "معضلة القرى والأحياء العربية (الفلسطينية) في القدس وحولها"! و"المعضلة" التي تقصدها هذه الحركة هي "المعضلة الديمغرافية" الآخذة في التفاقم وتشكل خطرا محدقا بالطابع اليهودي والصهيوني للقدس كعاصمة لدولة إسرائيل. وتقرّ الحركة بأن "الخطر الديمغرافي" هذا كان سبباً أساسياً في إنشائها.

وتقول هذه الحركة، التي تطلق على نفسها اسم "الحركة لإنقاذ القدس اليهودية"، إن "مسألة إنقاذ القدس اليهودية هي مسألة يهودية، لا مسألة يمين ولا يسار"! ولتأكيد ذلك، تسوق الحركة ما تقول إنه نتائج استطلاع للرأي أجري قبل أشهر قليلة تبين منها أن "أكثر من 70% من الجمهور اليهودي في إسرائيل عامة، و 63% من السكان اليهود في القدس، يؤيدون فصل ("التخلص من") القرى العربية الـ 22 التي جرى ضمها إلى القدس في العام 1967 وإخراجها من منطقة نفوذ مدينة القدس ومن السيادة الإسرائيلية"!

وكانت هذه الحركة قد أنشئت على خلفية موجة عمليات الطعن والدهس الأخيرة التي شهدتها إسرائيل وخاصة في منطقة القدس وضواحيها "وبدَفعٍ من هذه الموجة" ـ على حد قول مؤسسيها وقادتها، الذين يدعون الآن إلى وضع "خطة انفصال جزئي عن القرى الفلسطينية حول القدس الشرقية".

وتضم المجموعة المؤسسة لهذه الحركة وزراء وأعضاء كنيست سابقين، من بينهم وأبرزهم: حاييم رامون، نيسيم زفيلي، حجاي مروم، مئير شطريت، إضافة إلى قادة ومسؤولين عسكريين وأمنيين سابقين، من بينهم: دافيد تسور، القائد السابق في شرطة إسرائيل؛ أرييه عميت، القائد السابق للشرطة الإسرائيلية في لواء القدس؛ أليك رون، القائد السابق للشرطة الإسرائيلية في لواء الشمال؛ عاموس يارون، الجنرال (احتياط) في الجيش الإسرائيلي ومدير عام وزارة الدفاع الإسرائيلية سابقا؛ عامي أيالون، الجنرال قائد سلاح البحرية (احتياط) ورئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) سابقا؛ شاؤول أريئيلي، الجنرال (احتياط) في الجيش و"المختص بخطة جدار الفصل" والمرشح الـ 12 في قائمة حركة "ميرتس" لانتخابات الكنيست الـ 17 (التي جرت في آذار 2006)؛ عميرام ليفين، الجنرال (احتياط) القائد السابق للمنطقة العسكرية الشمالية والنائب السابق لرئيس جهاز "الموساد"؛ أوري نئمان، رئيس سابق لقسم الأبحاث في جهاز "الموساد"؛ أمير حيشين، مستشار الشؤون العربية لدى رئيس بلدية القدس الأسبق، تيدي كوليك، وغيرهم.

ويُعتبر حاييم رامون مؤسس هذه الحركة، إذ كان أول من أعلن عن مسعى إقامتها في أواخر شهر كانون الأول 2015 ("لمنع تحويل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية"، كما قال)، مع أن انطلاقتها العلنية الرسمية كانت في أوائل شهر شباط الأخير. ورغم أن الحركة تعلن عدم ارتباطها بأي حزب سياسي إسرائيلي وأنها "ليست يميناً ولا يساراً"، إلا أن الغالبية الساحقة من مؤسسيها، أعضائها وقادتها هم من المحسوبين، حاليا وسابقا، على معسكر "اليسار" و"الوسط" السياسي في إسرائيل، ناهيك عن أن فكرة "الفصل" في القدس هذه كان طرحها أيضا رئيس "المعسكر الصهيوني"، إسحاق هيرتسوغ، وذلك ضمن خطابه الأخير في مؤتمر "معهد دراسات الأمن القومي" الذي عقد في بداية السنة الحالية. فقد طرح هيرتسوغ في خطابه المذكور "مشروعا سياسيا" مكونا من ثلاث مراحل، كانت الأولى من بينها: إتمام جدار الفصل في مسار التفافي القدس وفصل القرى والأحياء الفلسطينية في شرقي القدس من جهة الغرب!

تخويف عنصري من "مدينة يسيطر عليها العرب"!

وكانت هذه الحركة ومشروعها السياسي قد أثارا نقاشا مجددا في أعقاب التحقيق الذي بثته القناة التلفزيونية العاشرة قبل بضعة أسابيع حول الأحياء العربية في القدس، أوضاعها ومصيرها، وذلك ضمن برنامج "المصدر" ("همكور") الذي يعده ويقدمه الصحافيان رفيف دروكر وباروخ كْرا.

أما موجة الجدل الأخيرة فتتمحور حول الشريط التمثيلي الدعائي الذي أعدته وصوّرته ونشرته "الحركة لإنقاذ القدس اليهودية"، بما يحتويه من مضامين عنصرية وما يبثه من رسائل تخويفية موجهة إلى الجمهور اليهودي هدفها إقناعه بـ"ضرورة فصل القرى العربية الـ 22 عن القدس والتخلص من 200 ألف فلسطيني" (يحملون "الهويات الزرقاء") تجنباً لـ"واقع منتظر" إذا ما بقيت الأمور على حالها كما هي الآن، ويتمثل ("الواقع المنتظر") بـ "ضياع القدس اليهودية وتحويلها إلى مدينة يسيطر عليها العرب"!

ويعرض الشريط، الذي يحمل عنوان "رئيس بلدية عربي في القدس"، سيناريو مستقبليا عما "سيحدث" في العام 2020 من خلال "لقاء قادة المخربين" في شعفاط "الموجودة ضمن منطقة نفوذ القدس التي تحت السيادة الإسرائيلية"! ويبحث هذا اللقاء "كيف سنحتل المدينة في الانتخابات القريبة؟ كيف سنسترجع القدس؟"! ويتداول "قادة المخربين"(!) السبل والإمكانيات المتاحة لتحقيق الهدف المطروح في طيات السؤال السابق، فيقترح أحدهم "تفجير الباصات"، لكن الردّ يكون: "جرّبنا هذا ولكنهم عصّبوا (غضبوا) علينا أكثر"! ثم يقترح آخر: "انتفاضة ثالثة"، فيقابَل بالسخرية والاستهزاء. ويقترح ثالث: "بالسكاكين" فيأتي الردّ، مستهتراً: "ضحّكتني"! ويستقر الرأي في نهاية المطاف على "الطريقة الأمثل": "الانتصار عليهم بأسلحتهم، التي هي الديمقراطية... هكذا يمكننا القضاء عليهم... إحنا الأغلبية اليوم"!

وينتهي الشريط بفوز "مرشح عربي" برئاسة بلدية مدينة القدس ليعلن، لاحقا: "الله أكبر والحمد الله... الأقصى بيدنا، الأقصى بيدنا"! ثم يُتبِعها برسالة مكتوبة بالعبرية، بالنَّص التالي: "مُلزَمون بإنقاذ القدس اليهودية! هذا هو الواقع المنتظَر ـ رئيس بلدية عربي في القدس!".

واعتبر الأديب نير برعام أن هذا الشريط "خطير جدا، أحد الأكثر انحطاطاً وعنصرية التي شاهدناها هنا منذ سنوات طويلة"! وقال برعام، في مقالة خاصة حول الموضوع تحت عنوان "العنصرية هي الطريقة الجديدة لحوار الفصل"، إن هذا الشريط "لم يأت صدفة، بل يتم طبخه منذ سنوات عديدة بين شخصيات جماهيرية تُعتبر معتدلة، شخصيات من الوسط السياسي، بل من اليسار حتى، ورسالته واضحة تماما: لن يستطيع العرب هزمنا بالإرهاب، لكنهم سيهزموننا بالانتخابات. ولهذا، لا بقاء لنا إلا بالتخلص منهم"!

ويضيف برعام أن "الهدف الوحيد، الذي تتبدل التكتيكات لتحقيقه، هو: أغلبية يهودية بأي ثمن.... إنه نموذج الفصل المتداعي الذي لا يزال يتمسك به جزء واسع من اليسار والوسط اليهودي بكل ما أوتي من قوة وهدفه الفصل، أكثر ما أمكن، بين اليهود والعرب". ويخلص إلى القول إنه "بمعنى ما، العنصرية الفظة والوقحة هي الطريقة الجديدة الآن لتحقيق هذا الهدف، ويبدو أن أصحابها يؤمنون بأنها تجتذب الجمهور اليهودي... إنه درك عنصري لم يصل إليه حتى اليمين في إسرائيل"!

ورأى الباحث في العلوم السياسية عيران تصدقياهو، أن رؤساء هذه الحركة "يُغرقون الحيزين العام والافتراضي برسائل التخويف والتحريض ويستخدمون اللغة العنصرية المفضلة عند الرعاع، بل أصبحت مقبولة اليوم على رؤساء الدولة أيضا، وذلك من أجل تسويق أفكارهم. ورغم ذلك، يبدو أن الجمهور لا يقتنع بهذا التقليد الباهت لليمين، كما يصدر عن "اليسار" القديم، إذ حين يتم استخدام العنصرية والبلطجية، فمن الأفضل أن نبقى مع الأصل"!

وكتب تصدقياهو، في مقال نشر على موقع حركة "دولتان، وطن واحد"، إن إجراءات الفصل في أوسلو وما تلاه في الانفصال عن غزة لم تحقق استقلال الفلسطينيين ولا السلام والأمن للإسرائيليين، وإنما غيرت فقط أنماط وطرق السيطرة الإسرائيلية على الحيز وأعادت تعريف الصراع من جديد"! أما ما سيتمخض عن خطة هذه الحركة الجديدة فهو، كما يقول تصدقياهو: "سيتم سجن 200 ألف فلسطيني في القدس الشرقية في غيتو بين جدارين: جدار الفصل في المسار الالتفافي على القدس من الشرق والجدار الذي تروج له الحركة الجديدة"!

"جدار أمني" كي لا يكون "حفيد المفتي رئيساً لبلدية القدس"!

يشكل "الخطر الديمغرافي"، كما ذكر، هاجساً أساسياً ومحوراً مركزياً في رؤية هذه الحركة، طروحاتها ونشاطاتها، وتعتبره "خطراً متفاقماً باستمرار يحدق بطابع المدينة اليهودي"، وخاصة على ضوء المعلومة التي تكررها وتؤكدها الحركة في منشوراتها عن أن "نحو 60% من سكان القدس حتى سن الـ 18 عاماً اليوم هم من الفلسطينيين الذين يتعلمون في جهاز التعليم الفلسطيني"! إلى جانب أن الفلسطينيين يشكلون اليوم نحو 40% من مجموع السكان في القدس، يمتلكون ـ طبقا للقانون الإسرائيلي ـ حق الترشح والانتخاب في الانتخابات لبلدية مدينة القدس. و"إذا ما قرر الفلسطينيون المشاركة الجماهيرية في الانتخابات البلدية، فسيكون رئيس البلدية القادم عربياً"!

ترمي خطة هذه الحركة إلى إخراج نحو 200 ألف فلسطيني من منطقة نفوذ مدينة القدس وحدودها، إذ سيفقد هؤلاء جميعاً الهويات الزرقاء (الإسرائيلية) التي يتمتعون بها الآن، مما سيؤدي بالتالي إلى ارتفاع نسبة السكان اليهود في القدس إلى 80% من مجموع السكان في المدينة، بدلاً من 60% كما هي نسبتهم اليوم، مقابل هبوط نسبة الفلسطينيين من 40% اليوم إلى 20% مستقبلاً!!

في آذار الأخير، وعلى خلفية موجة عمليات الطعن والدهس التي وقعت في مدينة القدس وضواحيها، نظم أعضاء "الحركة لإنقاذ القدس اليهودية" جولة انطلقت من قلنديا وانتهت بجبل المكبر، اطلعوا خلالها عن كثب على تفاصيل الخطة التي تطرحها حركتهم هذه للتخلص من البلدات والأحياء الفلسطينية المحيطة بمدينة القدس، بما يضمن "إخراج 200 الف فلسطيني من نطاق حدود مدينة القدس"، حسبما تؤكد الحركة في بيان لها عن الجولة نشرته على موقعها الرسمي، لافتة إلى أنها "تبذل جهداً أعلى للبدء من شيء ما، حتى وإن كنا مدركين أنه ليس الإجراء الأفضل والأمثل"!

واللافت أن هذه الحركة لا تستخدم، لا في أحاديث أعضائها وممثليها ولا في بياناتها ومنشوراتها، مصطلح "تقسيم القدس" وكل ما يتصل به ويُشتق منه، وذلك نظراً لأنّ ـ كما توضح الحركة على موقعها الرسمي ـ القادة والممثلين السياسيين في إسرائيل "يذرون الرمال في أعين الجمهور الإسرائيلي عندما يتحدثون عن معارضتهم لتقسيم القدس، بينما الحقيقة أن بعض الأحياء المقدسية موجودة، فعليا وعلى أرض الواقع، خارج جدار الفصل (الجدار العازل) بينما جزء آخر منها، مثل جبل المكبر وعرب السواحرة، لا يربطها أي رابط على الإطلاق مع الأحياء المقدسية الأخرى، التقليدية، لا من حيث النسيج الاجتماعي، ولا السياسي ولا الإنساني"!

وخلال الجولة إياها، شرح حاييم رامون "رؤية هذه الحركة وأهدافها" متذرعاً بأن "نسبة كبيرة من العمليات التي وقعت خلال الجولة التصعيدية الأخيرة انطلقت من القدس الشرقية. وعليه، فمن أجل تعزيز الأمن والأمان، نحن مجبَرون على فصل هذه القرى عن القدس، بواسطة جدار أمني"!! وقال رامون إنه "إذا ما بقي الوضع على ما هو عليه الآن وإذا ما قرر الفلسطينيون ذات يوم المشاركة والتصويت في الانتخابات فسيكون حفيدُ المفتي رئيسَ بلدية القدس القادم"!

أما الترجمة العملية لهذه "الخطة" فهي أن تقيم دولة (حكومة) إسرائيل جداراً عازلاً جديداً "يتم وصله مع الجدار الحالي" وبحيث يفصل بين الأحياء اليهودية، من نافيه يعقوب مروراً بـبسجات زئيف، التلة الفرنسية وحتى حي هار حوماه (على جبل أبو غنيم) وبين الأحياء الفلسطينية الملاصقة لها، من بيت حنينا في الشمال مرورا بشعفاط، العيسوية، جبل المكبر وحتى صور باهر في الجنوب.

ووفقا لهذه الخطة، يتم إلحاق هذه القرى والأحياء الفلسطينية، من حيث المكانة القانونية، بإحدى المنطقتين C أو B ثم إخضاعها، كلها، للسيطرة الأمنية الإسرائيلية التامة، كما هي حال العديد جدا من القرى والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية.

ولا تقترح "خطة الفصل" هذه فصل جميع الأحياء الفلسطينية وعزلها عن "مدينة القدس، العاصمة"، بل الإبقاء على "الأحياء الأكثر حساسية القريبة من "الحوض المقدس"، مثل سلوان، وادي الجوز، راس العامود وأبو طور (حي الثوري)، بحيث تبقى هذه القرى والأحياء وسكانها ضمن منطقة النفوذ البلدية التابعة لمدينة القدس"!

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, قائد سلاح البحرية, الموساد, غيتو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات