المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

هناك من ينادي بالفصل بين العمل السياسي الوطني والمدني مدعيا بأن العمل البرلماني يجب أن يفضّل المدني تاركاً العمل الوطني إلى سياقات أخرى. كما أن هناك من يحتج على أسلوب بعض النواب العرب، دون الاختلاف معهم في مضمون ما يدلون به. هؤلاء يدّعون بأن أسلوب بعض النواب مستفز وبالتالي محدود في القدرة على إيصال مطالبهم المحقة بالشكل اللائق للمجتمع اليهودي وللحكومة.

لا أخفي عليكم أنني من بين الذين يدّعون بأن هناك مستويات للعمل السياسي ويجب أن نخطط له ونفصل بين أهدافه بحسب مصالحنا. إلا أن البعض أخذ هذا الفصل إلى مستويات لم تكن مقصودة ولا يمكن أن تستوفي القوة الكامنة في العمل السياسي. ومطالبة النواب العرب الاكتفاء بالمطالب المدنية هي اقتصار لشرعيتنا السياسية كأبناء وبنات الشعب الذي تحاول المؤسسة الحاكمة تغييبه عن الواقع لتحصرنا في هوية مدنية تحدد معالمها هي. كما أن التركيز على الأسلوب فقط فيه تغييب للواقع القمعي الإسرائيلي ومحاولات لسحب الشرعية عن القيادات العربية.

إن الفصل بين الوطني والمدني في العمل السياسي هو في أساسه فصل تحليلي إدراكي لا يمكن أن يتوفر على أرض الواقع بشكل كامل، وذلك لأن الهم الوطني يؤطّر العمل السياسي المدني ويعطيه ميزته الخاصة، كما أن المدني يعطي العمل السياسي الوطني الإمكانية للتعبير عن نفسه بشكله الحقيقي كما يراه صحيحاً.

نحن ندّعي بأن هناك إجحافا بحقنا. وهذا الإجحاف مدني ولكنه مبني على هويتنا الوطنية. لهذا نحن نطالب بحقوق مدنية على أساس هويتنا العربية الفلسطينية، وحقوقنا مهضومة ومهمشة ومنتهكة على هذا الأساس. ومن جهة أخرى نطالب بحقوق مدنية متساوية بالرغم من هويتنا ومن أجل الحق في الحفاظ عليها – شرعنتها كجزء لا يتجزأ من هويتنا المدنية التي تحاول السلطة اختصارها في هوية مبتورة وخاضعة لهوية الأغلبية اليهودية في البلاد والتي تنفي حقنا على المكان والزمان الذي نعيشه.

من الصحيح أنه لا يمكن تحرير فلسطين من على منصة الكنيست، ولا يمكن حل قضايا تتعلق بطبيعة المجتمع العربي الداخلية من على منصة البرلمان الذي يسن القوانين المجحفة بحق هذا المجتمع. إلا أنه لا بد من التأكيد أن هذه القوانين التمييزية تسن ليس لكوننا مواطنين عاديين وإنما لكوننا عربا فلسطينيين وجزءا من شعب كامل لا تريد له الحكومة الإسرائيلية أن يتواجد أو أن يتحرر. لهذا لا يمكن ولا يجوز انتقاص هذا الموضوع من مدنيتنا، ومن هنا يجب التأكيد على كونها ذات طابع خاص بدون أن نقع في مطب الانزواء والانغلاق بل من خلال المطالبة بإحداث تغييرات في المدنية الاسرائيلية لتتماشى مع هويتنا وليس العكس.

إن منظومة الحقوق ليست معطى مسلّما به ومتواجدا في نصوص أو قوالب قانونية جاهزة. إنها عملية مستمرة من الصياغة تعبّر عن ديناميكية المجتمع. ومنظومة الحقوق هي انعكاس لما تم صياغته بناء على علاقات القوة القائمة في ظرف تاريخي محدد ومن الصعب تغييرها دون تغير علاقات القوة التي صاغتها. من هنا فإن القانون الإسرائيلي وتعريفه للحقوق أعطى أفضلية بنيوية لحقوق الأغلبية اليهودية وما تفسيرات المحاكم الإسرائيلية للقانون إلا بمثابة تثبيت وتعميق وتجذير لأحقية الأغلبية اليهودية في البلاد على المكان والزمان والموارد. إن البنية الذهنية والإدراكية المبطنة في القانون الإسرائيلي تفترض وجود المجتمع والتاريخ اليهودي قبل منظومة المواطنة الإسرائيلية، وهذا ما يتضمنه قانون العودة الإسرائيلي. لهذا فكل تفسير للقانون يؤكد ثانوية العرب وتبعيتهم للدولة المتماهية مع رؤية اليهود لأنفسهم وللبلاد.

هذا هو لب الصراع الذي يجب أن تتم إدارته ويتلخص في التصادم بين تغليب الهوية اليهودية في القانون على المفهوم الحقيقي للمدنية التي لا هوية إقصائية لها، ولا يمكن أن تقصر نفسها على جزء من المواطنين واستثناء غيرهم، إذا ما كانت حقيقية. فالمواطنون هم من لهم الحق في أن تكون لهم حقوق، وهذه الحقوق لا يمكن إلا أن تكون متساوية إذا أردنا الحديث عن المعنى الجوهري للمواطنة. هذا هو هدف ممارسة المدنية وهي تحقيق الحقوق بناء على الحق في أن تكون للمواطنين حقوق ولهم السيادة على الدولة. هذا يعني بأن العمل السياسي المدني يهدف لإزاحة العوامل التي تحجب الحقوق عن من لهم الحق في أن تكون لهم حقوق والمجحف بحقوقهم. هذا العمل يمكن أن يدار من خلال التحاور داخل منظومة الحقوق حتى وإن كانت لا تستوفي الشروط الأساسية بسبب انحيازها لمجموعة معينة من المواطنين.

من الصحيح القول بأنه لا يوجد خطاب مدني غير قومي في إسرائيل وذلك لأن الخطاب "المدني" الإسرائيلي هو يهودي الطابع ولهذا هو مجحف بحق كل من هو ليس يهودياً، خاصة إن كان فلسطينياً. من جهة أخرى فإن ادعاء الديمقراطية إسرائيلياً، هو المنصة التي من عليها يمكن توضيح التناقض القائم بين الخطاب المدني الديمقراطي والخطاب "المدني" الإسرائيلي. هذا يجعل البرلمان والحيز العام الإسرائيلي مساحة يجب العمل من خلالهما لأجل توضيح الصورة المتناقضة في الخطاب السياسي والقانوني الإسرائيلي. هناك من يدعي بأن عملية توضيح الصورة مفروغ منها، وبأن المجتمع الإسرائيلي عنصري ولا يمكن تغيير مواقفه. هناك من يدعي بأن عقلية السيد المتجذرة في الوعي الاسرائيلي اليهودي لا يمكن أن تتنازل عن ميزاتها بمحض إرادتها. حتى وإن كان هذان الادعاءان صحيحين، فمن لا يؤمن بإمكانية التأثير من خلال البرلمان ويستغل المنصة لتوصيل رسائل سياسية لا تقصد التأثير لا أدري ما هي مدى نجاعة عمله البرلماني، إلا إذا قصد تأزيم الوضع المأزوم من أصله. لهذا لا يمكن التخلي عن الفرصة لمخاطبة الضمير العام في اسرائيل وفي العالم حول عنصرية البنية السياسية والقانونية الاسرائيلية وكشف عورتها من خلال آليات تحتمها المكانة المدنية. إن الأقدر على ذلك هم أصحاب التجربة المباشرة ومن يتقنون اللغة السياسية ويدركون خصائص العقلية الإسرائيلية.

من هنا فإن مخاطبة الآخر تتحول الى هدف مهم بحد ذاته حيث أن التواصل واجب مدني ووطني في آن واحد والتخلي عن إمكانية التغيير القائمة ولو كقوة كامنة في الواقع، حتى وإن كان مغيظاً، يمكن اعتباره إخلالا بالمصالح التي يأتي من أجلها التمثيل السياسي من أصله. يعني هذا بأن آليات الخطاب يجب أن تتنوع وأن تخضع للاعتبارات المبدئية، وهي تغيير الواقع من خلال تغير الذهنية الطاغية بالإرادة والاقناع وذلك من أجل ضمان أخلاقية النضال وتناسقه الذهني والعملي.

إن استدراج المخاطَب ومحاكاة ضميره وعقله بحسب الظروف هندسة سياسية لا يمكن الاستهانة بها. من الصحيح القول بأنه لا يضيع حق ووراءه مُطالِب. ولكن شكل المطالبة تتحول إلى عامل مهم في إضفاء الشرعية على المطلب أو سحبها عنه لأن الأسلوب ممكن أن يتحول إلى عامل قائم بحد ذاته، يقدم دلالات واضحة على مضمون المطالبة ومدى حقيقتها ومصداقيتها. إن مضمون الخطاب يستمد جزءا من معناه من خلال أسلوبه والفصل بين الإثنين هو ألاعيب تبريرية لا غير. كل فلاسفة الخطابة ادعوا بأن تماشي المضمون والأسلوب يقوي الخطاب ويدعمه إدراكيا وأخلاقياً وذهنياً.

من بين ما يهم في العمل البرلماني هو تحدّي الخطاب السياسي والقانوني المهيمن وكشف عوراته وفضح التراتب القيمي والمبدئي المبطن فيه. هذه الرؤية للعمل البرلماني تأخذ بعين الاعتبار أن هذا العمل لا يحدد السياسات ويضع الموارد لتطبيق المشاريع فقط، وذلك لأن النواب العرب ليسوا جزءا من متخذي القرار في الائتلاف الحكومي. إن الحكومة هي المطالبة بالإنصاف وإحقاق التساوي في توزيع الموارد. وظيفة العمل البرلماني للمعارضة هي تفكيك الخطاب ومبادئ سياسة توزيع الموارد وفضح سلم الأولويات من أجل تبيان التميز المكتنف في السياسات ليس من أجل تسجيل موقف سياسي وإنما من أجل وضع مرآة أمام الأغلبية البرلمانية وفضحها أولا أمام ذاتها ومن ثم أمام العالم وتقويض تماسكها الأخلاقي وتبيان التضارب الكامن في المفارقة بين ادّعاء الديمقراطية من جهة والتمييز الفاضح من جهة أخرى.

إن هذا العمل الخطابي يأتي على أمل إقناع متخذي القرار بالتراجع عن نواياهم والانصياع للمبادئ الأخلاقية الإنسانية، التي يجب أن تكون البوصلة والمؤشر الأساس لعمليات اتخاذ القرار. إن الإقناع والتأثير مهمان، وإلا لا منطق في العمل البرلماني من أصله. من أجل الإقناع يجب تطوير آليات الخطابة والتغلب على الحالة النفسية المقموعة التي تنفجر كل مرة تحاول أن توصل رسالتها ويتم اعتراضها. يجب استعمال ليس لغة قادرة على اختراق الخطاب المهيمن فحسب وإنما قادرة على طرح بدائل أخلاقية وإدراكية أكثر أفضلية. لا نتحدث هنا عن معادلة سحرية أحادية وإنما عن توجه كان متوفراً في الخطاب السياسي العربي وما زال متداولاً عند بعض الذين بالرغم من أنهم كانوا يهدفون الاستفزاز في بعض الأحيان من أجل الحصول على صورة تلفزيونية، إلا أنهم عملوا على تقديم رؤية بديلة لرؤية السلطة بواسطة خطاب حكيم ومقنع، آخذين بعين الاعتبار عدم إرادة القيادات المهيمنة في إسرائيل الاستماع لهم. إن اللغة المبدئية- النظرية أو التاريخية منها - القادرة على الاستعلاء على الواقع الحيثي والعيني لتطرح تحديات أخلاقية وذهنية وإدراكية عامة يتم من خلالها إيصال الرسائل المهمة متكلةً على ذكاء المستمعين القادرين على تطبيق المبدأ المتحدث به على الحالة المقصودة، هذه اللغة هي الأفضل في حالات النضال وما النماذج التاريخية الحادة كما هي الحال مع مارتن لوثر كينغ جونيور ونيلسون مانديلا والمهاتما غاندي إلا أمثلة على ذلك. هؤلاء عرفوا جيداً ولمسوا شخصياً بطش النظام السياسي الذي تحدثوا إليه وعرفوا بأن الضمير الإنساني غائب عن أغلبية الداعمين لذلك النظام، ومع ذلك حافظوا على خطاب عقلاني وأخلاقي. لا يمكن لنا إلا أن نشير إلى هذه الشخصيات كأمثلة تاريخية للتغير السياسي الناجح بالرغم من قسوة الظروف وشدة وطأتها. نحن بحاجة وقادرون على أن نتقن لغة كينغ ومانديلا وغاندي دون الوقوع في ألاعيب بهلوانية تمس بجدية نضالنا الإنساني كأصحاب حق لهم حقوق أو في استفزازات بالغنى عنها. إيصال الرسالة بأسلوب يخترق حواجز السمع عند المؤسسة الحاكمة وعند الأغلبية اليهودية وليس أقل أهمية في المؤسسات الدولية، هو في صلب العمل السياسي الوطني بآليات مدنية نحن بأمس الحاجة إليها اليوم.
______________________________
(*) أستاذ جامعي ومدير عام مركز إعلام - الناصرة

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست, مركز إعلام

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات