المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نشر "معهد راند" الأميركي، في التاسع من حزيران الجاري، تقريراً خاصاً حول الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني حاول من خلاله وضع تقييم مستقبلي للنتائج والآثار (الأثمان والفوائد) الاقتصادية المترتبة على خمسة سيناريوهات محتملة لآفاق تطور هذا الصراع خلال العقد المقبل.

واعتمد معدا التقرير، تشارلز ريس وروس أنثوني، في محاولة ترسيم تقييماتهما المتوقعة، على آراء وتقييمات مهنية وضعها خبراء اقتصاديون من الولايات المتحدة، دول أوروبية، إسرائيل وفلسطين، إلى جانب أبحاث سابقة حول الموضوع، سوابق تاريخية ومقابلات خاصة مع عدد من الخبراء.

ويعتبر "معهد راند" من بين أكثر الجهات والمؤسسات البحثية تأثيرا على دوائر صناعة القرار السياسي في الإدارة الأميركية، وهو يضم نخبة من الباحثين الذي يُطلق المعهد عليهم اسم "خلية تفكير"، علماً بأنه أقيم أصلا من قبل سلاح الجو الأميركي في العام 1946 تحت اسم "مشروع راند"، لكنه سرعان ما انفصل وأصبح في العام 1948 "مؤسسة مستقلة غير ربحية ودون ميول سياسية، بتمويل من المتبرع ديفيد ك. ريتشاردز"، كما تقول إدارته.

وقد توسع هذا "المشروع" منذ ذلك الوقت حتى أصبح يقدم اليوم خدماته المسحيّة وأوراقه البحثية لعدد كبير من المنظمات والمؤسسات التجارية المدنية وله سبعة فروع / مواقع في: ولايات كاليفورنيا وفرجينيا وبنسلفانيا (في الولايات المتحدة)، برلين (ألمانيا)، كمبريدج (إنكلترا)، وليدن (هولندا)، كما افتتح له فرع في العاصمة القطرية، الدوحة، في العام 2003 تحت اسم "معهد راند قطر للسياسات". واسم المعهد (راند) هو اختصار كلمتي "أبحاث وتطوير" (Research ANd Development).

يقول معدا التقرير، في مقدمة تقريرهما، إن "النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين شكل، خلال الجزء الأكبر من القرن الماضي، علامة مميزة لمنطقة الشرق الأوسط. وبالرغم من أن مليارات الدولارات قد صُرفت في دعم، دفع، معارضة حلول له، أو في البحث عنها، إلا أن المأزق لا يزال قائما على حاله"!

ويضيفان: "بعد عقود من فشل الجهود الأميركية والدولية في دفع الإسرائيليين والفلسطينيين نحو حل الدولتين، لا تزال الآمال في وضع حد لهذا النزاع ضئيلة. ولكن، ماذا لو أن حلاً قد ظهر فجأة في المستقبل القريب ليخلي الصراع مكانه لواقع جديد من التعايش السلمي في المنطقة؟ ليس أن الأمر سينقذ حياة الكثيرين وسيوقف الدمار، فقط، بل إن الطرفين سينعمان بمردود السلام الذي يمكن تقديره بعشرات مليارات الدولارات"!

خمسة سيناريوهات محتملة

يضع الباحثان خمسة سيناريوهات محتملة لآفاق تطور الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني خلال العقد المقبل:
1- التوصل إلى اتفاق سلام قائم على أساس مبدأ "دولتين للشعبين"؛
2- تجدّد المواجهات العنيفة؛
3- مقاومة فلسطينية غير عنيفة؛
4- انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب، دونما اتفاق أو تنسيق مع السلطة الفلسطينية؛
5- انسحاب إسرائيلي بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية.

• 1- دولتان لشعبين:

في سيناريو التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي ـ فلسطيني قائم على مبدأ حل الدولتين للشعبين، وهو السيناريو الذي يصفه التقرير بـ"الأكثر تفاؤلا"، يتوقع البحث ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي إلى 418 مليار دولار في العام 2024، أي بزيادة إجمالية مقدارها 123 مليار دولار (في العام 2024) عما هو عليه الوضع اليوم (295 مليار دولار). أما الناتج المحلي للفرد فسيرتفع بنسبة 5%.

أما المناطق الفلسطينية فستحظى، في هذا السيناريو، بزيادة مقدارها 8ر8 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي في العام 2024 ليصل، في العام نفسه، إلى 7ر28 مليار دولار، وهي زيادة إجمالية متراكمة تبلغ 50 مليار دولار خلال العقد كله. وسيرتفع الناتج المحلي للفرد الفلسطيني في المناطق الفلسطينية في العام 2024 بنسبة 7ر36% مقارنة بما هو عليه اليوم.

ويشير الباحثان هنا إلى أنه "بما أن الاقتصاد الإسرائيلي هو أكبر بكثير من الاقتصاد الفلسطيني، فإن الفائدة التي سيجنيها الفلسطينيون ستكون أكبر، تناسبياً".

ويؤكد الباحثان أن حل الدولتين للشعبين يشمل انسحابا إسرائيليا من المناطق الفلسطينية، باستثناء "الكتل الاستيطانية الكبيرة"، إزالة جميع الحواجز التي تعيق حركة المواطنين الفلسطينيين، عودة 600 ألف لاجئ فلسطيني إلى حدود مناطق الدولة الفلسطينية العتيدة، فضلا عن "تبادل أراض مع إسرائيل" وإزالة جميع القيود على التبادل التجاري بين إسرائيل والدول العربية. ويشيران إلى أن المجتمع الدولي سيتكفل بتغطية وتمويل الجزء الأكبر من تكاليف "التغييرات في مواقع المستوطنين"، إضافة إلى "ضمان أمن إسرائيل".

وينوهان إلى أن هذا السيناريو - دولتان للشعبين - يستند، في أساسه، إلى النموذج الذي بلوره ووضعه الرئيس الأميركي السبق، بيل كلينتون، والذي يقوم، أساسا، على اتفاق سلام ومنظومة من العلاقات خالية من العمليات العسكرية والحروب.

ويقول الباحثان إن مصروفات إسرائيل في المناطق الفلسطينية ستنخفض بنسبة 16%، بعدما تقوم بإخلاء نحو 100 ألف مستوطن يهودي من تلك المناطق، ويضيفان أنهما كانا ينويان، في البداية، احتساب الانخفاض المتوقع في "مصروفات الأمن الإسرائيلية"، في إطار هذا السيناريو، لكنهما تراجعا عن ذلك بعد حصولهما على "توضيحات بأن هذه المصروفات لن تقلّ ولن تنخفض، بسبب الحاجة، مثلا، إلى تعزيز وتعميق العمل الاستخباراتي كبديل عن القوات المتواجدة ميدانيا في المناطق الفلسطينية في الوقت الراهن"!

ويقول التقرير إن الاستثمارات في إسرائيل، في سياق هذا السيناريو، سوف تزداد بنسبة 15%، وهو ما سيحقق زيادة بنسبة 15% في إنتاجية العامل، كما ستطرأ زيادة بنسبة 20% في مجال السياحة، زيادة بنسبة 150% في حجم المبادلات التجارية مع المناطق الفلسطينية وزيادة بنسبة 200% في حجم التبادل التجاري مع الدول العربية والإسلامية. وسيرتفع عدد العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل بنحو 50 ألفا ليصل إلى نحو 110 آلاف عامل.
وفي الجانب الفلسطيني، سيتولى الفلسطينيون السيطرة على مصادر المياه والمحاجر وعلى الغاز قبالة قطاع غزة، وستُزال القيود على حركة المواطنين والبضائع من المناطق الفلسطينية وإليها، كما سيتضاعَف حجم الاستثمارات العامة والخاصة في هذه المناطق.

• 2- تجدد المواجهات العنيفة:

هذا السيناريو هو الذي يقع على طرف نقيض من السيناريو الأول، وهو السيناريو "الأكثر تشاؤما"، كما يصفه التقرير. ومضمونه: تجدد المواجهات العنيفة في قطاع غزة أولا، ثم انتشارها إلى الضفة الغربية وإلى "جهات إرهابية خارجية". وهو يشمل اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ترافقها عمليات استشهادية في مواقع مختلفة داخل إسرائيل، فضلا عن "انضمام جهات إرهابية خارجية، مثل حزب الله".

في هذا السيناريو، يتوقع البحث انخفاض الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي في العام 2024 بنسبة 10%، قياسا بالسيناريو الأول، ليصل إلى 395 مليار دولار، ليكون الانخفاض الإجمالي المتراكم خلال العقد كله نحو 250 مليار دولار. وهي خسارة كبيرة جدا، نسبيا، سوف يتكبدها الاقتصاد الإسرائيلي خلال العقد المذكور.

أما الاقتصاد الإسرائيلي، فمن المتوقع أن يشهد تدهورا حادا ـ في هذا السيناريو ـ ليصل حجم الناتج المحلي الإجمالي في العام 2024 إلى 6ر12 مليار دولار، أي أنه سيشهد انخفاضا بمبلغ 3ر7 مليار دولار يشكل تراجعا بنسبة 37% عما هو عليه اليوم.

وطبقا للبحث، يتوقع أن ترتفع "المصروفات الأمنية" الإسرائيلية، في هذا السيناريو، بنحو 9% خلال ثلاث سنوات من المواجهات (3% في السنة الواحدة)، كما سينخفض حجم التبادل التجاري مع المناطق الفلسطينية بنسبة 15% وسيتوقف، كليا، تشغيل عمال فلسطينيين في داخل إسرائيل. وسيطرأ انخفاض بنسبة 20% في حجم الاستثمارات في إسرائيل وانخفاض بنسبة 25% في قطاع السياحة وستنخفض إنتاجية العامل وسينخفض النمو في سوق العمل في إسرائيل بنسبة 50%.

أما في المناطق الفلسطينية، فسيتكبد الاقتصاد الفلسطيني ضررا بمبلغ يصل إلى 5ر1 مليار دولار وسيطرأ ارتفاع حاد بنسبة 50% في أسعار الخدمات المختلفة، بما فيها الخدمات المصرفية وخدمات الاستشفاء في المستشفيات والمراكز الطبية.

• 3- مقاومة فلسطينية غير عنيفة

السيناريو الثالث الذي توقعه الباحثان هو "المقاومة الفلسطينية غير العنيفة" التي تشمل التوجه إلى هيئات الأمم المتحدة المختلفة وإلى مؤسسات وهيئات دولية أخرى لطرح ومعالجة قضايا تخص حياة الشعب الفلسطيني وحقوقه، إلى جانب الأنشطة الداعية إلى مقاطعة إسرائيل دوليا.

في هذا السيناريو، يتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي في العام 2024 إلى 424 مليار دولار، وهو أقل بنسبة 4ر3% من مستواه الإمكانيّ / المحتمل وفق السيناريو الأول (دولتان للشعبين)، بينما يتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني إلى 7ر17 مليار دولار، وهو أقل بنسبة 8ر10% من مستواه الإمكانيّ وفق السيناريو الأول.

وسيتمثل الضرر الأساسي للاقتصاد الإسرائيلي، في هذا السيناريو، بانخفاض بنسبة 10% في حجم الاستثمارات وانخفاض بنسبة 2% في مجمل الناتج المحلي الإجمالي، جراء حملات المقاطعة ضد مصالح تجارية إسرائيلية. أما الضرر الأبرز للاقتصاد الفلسطيني، في هذا السيناريو، فيتمثل في انخفاض عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل بنحو 30 ألف عامل.

• 4- انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب من دون تنسيق مع السلطة الفلسطينية

يشير معدا البحث إلى أن سيناريو الانسحاب الإسرائيلي من جانب واحد، من دون تنسيق مع السلطة الفلسطينية، هو موضوع خلافيّ تنقسم الآراء والمواقف حياله في داخل إسرائيل وفي العالم عموما، غير أن صناع القرار السياسي في إسرائيل يضعونه احتمالا ويواصلون النظر فيه "كاحتمال لخفض مستوى الاحتكاك والتوتر في الضفة الغربية"، في الوقت الذي "لا يبدو حل الدولتين ممكنا في الأفق المنظور"!

وفي هذا السيناريو، يتوقع أن يصل حجم الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي في العام 2024 إلى 436 مليار دولار، وهو أقل بنحو 5ر3 مليار دولار (بنسبة 8ر0%) عن مستواه في ظل استمرار الوضع الحالي. أما الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني، فيتوقع أن يصل في هذا السيناريو إلى 9ر19 مليار دولار، وهو يعادل مستواه في ظل استمرار الوضع الحالي.

ويشمل هذا السيناريو إخلاء 30 ألف مستوطن يهودي من الضفة الغربية، من دون أن تحصل إسرائيل على "تمويل دولي" لغرض إسكان هؤلاء المستوطنين في مناطق داخل "الخط الأخضر". وسيؤدي هذا الإخلاء، طبقا للبحث، إلى انخفاض المصروفات الحكومية الإسرائيلية على المستوطنات بنحو 5% سنوياً. أما مصروفات الأمن الإسرائيلية فيتوقع أن ترتفع، في هذا السيناريو، بنسبة 2% في السنة، مقابل انخفاض حجم الاستثمارات في الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 5% وانخفاض حجم السياحة في إسرائيل بنسبة مماثلة.

أما في الجانب الفلسطيني، فيتوقع البحث أن ينخفض عدد العمال الفلسطينيين العاملين في داخل إسرائيل بنحو 30 ألف عامل، بينما تسيطر السلطة الوطنية الفلسطينية على ما يعادل نصف المنطقة التي ستقوم إسرائيل بإخلائها، كما ستحصل (السلطة الفلسطينية) على تمويل دولي لما يعادل نصف الاستثمارات المطلوبة في تلك المنطقة.

• 5- انسحاب إسرائيلي بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية

في هذا السيناريو، يتوقع البحث أن تقوم إسرائيل بإخلاء 60 ألف مستوطن من الضفة الغربية وإعادتهم إلى داخل "الخط الأخضر"، فيما ستبقى على حالها "الكتل الاستيطانية الكبيرة" في الضفة الغربية، وخاصة "القريبة منها إلى الخط الأخضر".

ويتوقع البحث أن يصل الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي في العام 2024، وفق هذا السيناريو، إلى 439 مليار دولار، وهو مستوى مماثل لما هو سيكون عليه في حال استمرار الوضع القائم حاليا، بينما سيحقق الناتج المحلي الإجمالي الفلسطيني زيادة بمبلغ 6ر1 مليار دولار (بنسبة 1ر8%) ليصل في العام 2024 إلى 5ر21 مليار دولار.

وإضافة إلى هذا، يتوقع البحث انخفاض المصروفات الإسرائيلية على المستوطنات، في هذا السيناريو، بنسبة 10% في السنة، فيما تحصل إسرائيل على تمويل دولي لما يعادل 75% من تكاليف هذا الإخلاء وإعادة إسكان المستوطنين في داخل حدود إسرائيل. كما سيطرأ ارتفاع في حجم السياحة إلى إسرائيل بنسبة 5% وارتفاع بنسبة مماثلة في حجم التبادل التجاري مع المناطق الفلسطينية.
وفي الجانب الفلسطيني، سيؤدي هذا السيناريو إلى تقليص عدد العمال الفلسطينيين العاملين في إسرائيل بنحو 30 ألف عامل، بينما ستبسط السلطة الفلسطينية سيطرتها على المناطق التي سيتم إخلاء المستوطنين منها. وستُزال جميع الحواجز وتصبح المعابر مفتوحة.

الخيار الأفضل ـ واضح!

يوضح معدا البحث أن "احتساب التبعات والآثار الاقتصادية، التكاليف والفوائد، المترتبة على كل واحد من هذه السيناريوهات" جرى بواسطة الاعتماد، بوجه أساس، على طريقة حسابية حديثة لـ "تكلفة النزاع"، وهي توفر تحليلا تفصيليا للتكاليف والفوائد الاقتصادية المترتبة على كل واحد من هذه السيناريوهات ويتيح، أيضا، تغيير وتعديل فرضيات الأساس لإفساح المجال أمام بحث السيناريوهات على المدى البعيد.

ويقول روس أنثوني، أحد معدّيّ البحث: "نتمنى أن يكون في التحليل والأدوات التي وضعناها ما يعين الإسرائيليين، الفلسطينيين والمجتمع الدولي على فهم أعمق وأفضل لسيرورة الوجهات الحالية وكيفية تطورها، ثم تحديد التكاليف والفوائد الاقتصادية لبدائل دائرة العنف الهدّامة القائمة حاليا ـ الفعل، رد الفعل وانعدام العمل".

أما تشارلز ريس، الشريك الآخر في إعداد البحث، فيقول: "من الواضح أن خيار الدولتين للشعبين هو الذي يقود إلى النتائج الاقتصادية الأفضل، بفارق كبير وجدي، بالنسبة للإسرائيليين أو الفلسطينيين على حد سواء".
ويضيف: "إذا ما تحقق حل الدولتين، فسيحظى الإسرائيلي المتوسط، خلال عقد واحد من الزمن، بزيادة مقدارها نحو 2200 دولار في مدخوله، بينما سيحظى الفلسطيني المتوسط بزيادة مقدارها ألف دولار، بالمقارنة مع توقعاتنا بشأن استمرار الوضع الراهن وآفاق تطوره.... ويبدو جليا أن لدى الفلسطينيين محفزا أكبر بكثير للتقدم نحو السلام"!!

المصطلحات المستخدمة:

الخط الأخضر

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات